إذا كان من أمر واحد يتفق عليه طرفا النزاع في لبنان فهو اقتناعهما بأن حبل الحوار انصرم والحل مؤجل والتسوية بعيدة، والتصعيد السياسي هو المتاح، والأزمة استطراداً مقيمة وبات كل من الجانبين يعد العدة للتكيّف مع واقع الحال هذا في انتظار بروز جديد يخرج الوضع من "عنق الزجاجة" أو ظهور مؤشر يغيِّر صورة المشهد الجامد والمعقّد.
وحيال ذلك ثمة من يذهب إلى القول بأن المعارضة هي أكثر تضرراً، فهي قصّرت حتى اليوم عن تحقيق الشعار الأعلى الذي رفعته ساعة مضت في تصعيدها وتحركها قبل نحو خمسة أشهر، وجعبتها تكاد تفرغ من أي خطوات ضغط على خصومها من شأنها أن تقودها نحو إنجاز أهدافها المعلنة على الأقل.
لكن نائب الأمين العامن لحزب الله الشيخ نعيم قاسم الذي يعد حجر الرحى في المعارضة ما طفق يرى الأمر من منظار آخر، ويقول أن معركتنا مع الموالاة هي من النوع الذي يكسب بتراكم النقاط وليس بالضربة القاضية وعلى هذا الأساس وطنَّا أنفسنا على مواجهة طويلة الأمد.
وفي معرض تقويمه لتحرك المعارضة طوال الأشهر الماضية يحرص على العودة بالأمور إلى جذورها الأولى، فيقر استهلالاً بأن البلاد تمر بمرحلة تاريخية وحساسة بدأت مع صدور القرار 1559 ثم اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ومرحلة ما بعد خروج السوري، وسعى بعض الأفرقاء إلى إنشاء حكم وإدارة في لبنان يتماهيان مع مشروع واشنطن لتنظيم الشرق الأوسط الجديد.
ويضيف: لذلك لا يمكننا مقاربة الموضوع اللبناني على أنه مشكلة محض داخلية، فهو جزء من انعكاسات المشروع الدولي والتنافس الداخلي على تحقيقه أو رفضه، وهذا ما يتضح من العناوين التي تطرحها السلطة والمعارضة.
ولاحظ أن عناوين السلطة تركز على الآتي:
- الإمساك الكامل بالإدارة السياسية من دون شراكة وفي مواجهة الخصوصيات الطائفية التي طالما طرحتها قيادات هذا الفريق عندما كانت تبحث عن دور.
- الاتكاء على الدعم الكثيف من مجلس الأمن والدول الكبرى في كل المجالات إلى درجة تغييب دور المؤسسات الداخلية.
- رفض أي حالة ممانعة للمشروع الإسرائيلي تحت عنوان انتهاء مرحلة المقاومة لمصلحة الحل السياسي المستند إلى وعود دولية.
أمَّا المعارضة فرفعت عناوين مغايرة هي:
- المشاركة، على نحو يعني مشاركة القوى السياسية الفاعلة وفق أحجامها وضمن ما يسمى بالديمقراطية التوافقية وبحسب ما نص عليه الدستور في الفقرة "ي" وفي المادة 95 التي أكدت تمثيل الطوائف بتوازن.
-التركيز على رفض أي وصاية أجنبية وصوغ مواقف تتماهى مع الخصوصية اللبنانية وفق آليات تعطي الأولوية للتوافق الداخلي.
- تأكيد قوة لبنان كتعامل اساسي للاحترام الدولي وعدم الركون إلى نظرية الضعف خصوصاً بعدما أثبتت التجربة أن قوة لبنان هي في مقاومته، وما كل هذا التدخل الخارجي إلاَّ نتيجة لصمود لبنان وممانعته أن يكون معبراً لمشاريع منها التوطين.
إن المقارنة بين طرح كل فريق يفضي إلى القول بأن المشكلة ليست مشكلة وزير زائد أو ناقص ولا بإقرار تفاصيل المحكمة ذات الطابع الدولي ولا بقانون انتخاب وإنما بقطع الطريق على الرؤية الأخرى.
ودليلي على ذلك أن جلسات الحوار الأخيرة بين الرئيس نبيه بري والنائب سعد الحريري أنجزت آلية منطقية لإقرار المحكمة.
كذلك أقر كل الأطراف بضرورة التوصل إلى قانون انتخاب جديد، سواء جرت الانتخابات مبكرة أو متأخرة، وبقيت مسألة الحكومة وهي عنوان المشاركة التي تتصل بتحقيق الثلث الضامن في القضايا الاستراتيجية التي نص عليها الدستور بصراحة وليس في الإدارة اليومية والتفاصيل التنفيذية.
مع ذلك لم نصل إلى حل مع هذه العقدة لسبب جوهري هو لو أننا عدنا إلى الضوابط التي تتحكم في حركة قوى السلطة لوجدنا أن المانع له شقان: خارجي يتمثل في الرفض الأمريكي والفرنسي ، إذ أن أمريكا تريد من لبنان التزامات محددة حيال إسرائيل في مشروع المنطقة عموماً، وهي التزامات لن تتحقق في حكومة وحدة وطنية يكون فيها ثلث ضامن للمعارضة.
وفي قراءتنا أن واشنطن تريد أن يبقى لبنان في غرفة الانتظار في انتظار جلاء أوضاعها في العراق وموضوع الملف الإيراني، إضافة إلى المسألة الفلسطينية وسبل التعامل معها.
إذاً هناك ملفات ساخنة في المنطقة يعتقد الأمريكيون أنها ستؤثر في لبنان وبالتالي قد تخضع المعارضة على نتائجها.
المراوحة ولا غير المراوحة
ولكن ألم يعد في الإمكان العثور على كوة ضوء تغير من واقع المراوحة الحالية في لجة الأزمة الخانقة؟
يجيب الشيخ قاسم: دخلنا مرحلة مراوحة وانتظار، ولا خطوات جديدة للحل لأن المعطيات الداخلية ارتبطت بالتطورات الإقليمية والدولية، ولم تعد قادرة على التحلل والإقدام في شكل إيجابي.
فعلى المستوى الداخلي نرى الثنائي جعجع-جنبلاط يعتبر متضرراً من حلول المشاركة، إذ أن حجم تمثيل رئيس الهيئة التنفيذية لحزب القوات اللبنانية سمير جعجع في الساحة المسيحية سينكشف بطريقة رقمية في أي تشكيلة لحكومة الوحدة الوطنية، فإذا كان له وزير في مقابل خمسة لـ"رئيس تكتل التغيير والإصلاح" النائب الجنرال ميشال عون أو حتى وزيران مقابل خمسة فهذا يعني أن التمثيل المسيحي لجعجع هو ثلث في مقابل ثلثين لعون، وهذا إقرار عملي بالتوزيع الموضوعي والحقيقي بخريطة القوى المسيحية، وبطبيعة الحال ستكون لهذا التمثيل آثار مستقبلية، إذ سيكون الطرفان في تركيبة الدولة، ولا يستطيع أحد أن يستأثر بإمكانات الدولة في مقابل الآخر،وهنا سيكون التمايز في الإقبال الشعبي مرتبطاً بالصدقية وخدمة الناس وحسن الأداء السياسي، وهذا ما يتفوق به التيار الوطني الحر . أما رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط فقد اعتاد أن يكون حجر الزاوية لفريق مسيطر وقوي، هكذا كان إبان الوجود السوري وهكذا كان عندما كان الرئيس الشهيد الحريري في موقعه رئيس حكومة، وبناء على هذا يعتبر أن حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها 3 قوى رئيسية: هي تيار المستقبل من جهة وحزب الله وحركة أمل من جهة ثانية، والتيار الوطني الحر من جهة ثالثة سيكون فيها ملحقاً، والملحق لا يستطيع أن يجني فائدة كاملة عندما يتوزع النفوذ بين 3 قوى أساسية لها تأثيرها وحضورها في أي حل وربط في لبنان.
وإذا جمعنا هذا الثنائي وتضرره من أي حل مع التدخل الأمريكي الراغب في بقاء الجرح اللبناني مفتوحاً، فنخرج باستنتاج مفاده أن المراوحة ستكون سيدة الموقف.
صمود المعارضة هو الأساس
ولكن كيف تبرر عجز المعارضة حتى الآن عن بلوغ ما رفعت من شعارات ورسمت من أهداف، خصوصاً الدفع في اتجاه اسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة؟
يجيب قاسم: للاجابة عن هذا السؤال يجب أن يكون واضحاً أن الفرق كبير بين مواجهة سياسية داخلية ومواجهة سياسية داخلية خارجية.
في الأولى تكون لعبة الأحجام مؤثرة فلا يمكن في هذه الحالة، إلاَّ أن تنجز مسيرة المليون ونصف المليون في كانون الأول من العام الماضي تأثيراً في المعادلة لأنها أبرزت الأكثرية الشعبية في استعراض الشارع في مقابل كل ما استعرضه الآخرون في أهم لحظات وأوج اجتماعهم في الشارع، وكذلك كان يمكن لاعتصام الوسط التجاري أن يحقق أهدافه في إعادة تشكيل الحكومة.
لكن الأمر مختلف عندما تكون المواجهة داخلية-خارجية أي عندما تدخل أمريكا وفرنسا ودول أخرى وكذلك مجلس الأمن الدولي على خط الدعم اليومي لحكومة السنيورة اللاشرعية، فهذا يعني أن المعارضة وضعت في مواجهة المشروع الدولي وليس في مواجهة من اختلفوا معها سياسياً.
وفي هذه الحال لن تحقق المعارضة إنجازاً سريعاً لأن عامل الوقت والتطورات المحيطة بالمنطقة سيكون لها التأثير الكبير في التوصل إلى النتيجة المرجوة.
وفي هذه الحالة يعتبر صمود المعارضة في تحركها هو الانجاز فكيف إذا أضفنا أن المعارضة نجحت في أن تكشف السلطة التنفيذية وتسقط عنها الشرعية وتعوض التزاماتها السياسية الخارجية، وتمنعها من أن تأخذ لبنان إلى حظيرة الوصاية الأمريكية، والمعارضة نجحت في أن تقف عقبة أمام التوطين، وتسدد ضربة قاصمة إلى العدوان الإسرائيلي في لبنان، وتمنع أي شكل من أشكال التفرد بالسلطة وهذه الانجازات لا بدَّ من أن تؤخذ بعين الاعتبار.
وإذا أردنا أن نمعن في رؤية نتائج تحرك المعارضة فعلينا أن ننظر إلى ردود فعل قوى السلطة فهي متوترة تستخدم لغة الشتائم وتحاول أن تطرح مخاوف غير واقعية على أنها حقيقية، وتتهم المعارضة بتعطيل البلاد، وهذا ناتج عن ارباك هذه القوى، وصار مكشوفاً أن حكومة السنيورة غير الشرعية غير قادرة على أن تحكم ولا يمكنها أن تسجل أي إنجاز، وأن البلاد في مأزق، وهم يتحملون التبعية لكونهم سلطة.
واللافت في هذا كله أن قوى السلطة، ولا سيما حزب القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي عادت إلى دائرة العقلية الميليشيوية حيث التسلح على قدم وساق، والبقع الأمنية تنتشر أكثر في مناطقهم، واستغلال السلطة ومواردها لحسابات فئوية وميليشيوية لم يعد خافياً على أحد.
في مقابل ذلك المعارضة واضحة فهي تريد المشاركة وتحييد لبنان عن الصراعات في المنطقة وتسليح الجيش، وإلغاء استثمار الدولة فئوياً والتزام نصوص الدستور كاملة.
المحكمة ليست المشكلة
ولكن لماذا حلتم بالأصل دون إمرار المحكمة ذات الطابع الدولي بالطرق الدستورية؟
يجيب الشيخ قاسم: لا نزال عند رأينا أن المحكمة ليست المشكلة، فهي أقرت في المبدأ في جلسات الحوار ، والمعارضة أكدت مراراً أنها ملتزمة مبدأ المحكمة، ولكن التطورات أظهرت أن هذه المحكمة لم تكن مطلوبة لكشف الحقيقة إنما لاستدراجات سياسية وتصفية الحسابات وإلاَّ لما أقفلوها علينا ورفضوا المناقشة في شأنها.
نعتقد أن اقرار المحكمة تحت الفصل السابع هو رغبة أمريكية ، وهدف أمريكي مضمر في الأصل.
أما الطرق الداخلية لإقرار المحكمة من خلال التوافق الداخلي فكانت واضحة وجلية، ولو قبلوا بالمشاركة لكانت أقرت بالتوافق لكنهم هم من اختاروا لهذه المحكمة هذا المصير.
المعارضة ثابتة
وماذا في جعبة المعارضة بعد تعثر الحوار، وهي التي كانت تهدد دوماً بالتصعيد إذا لم تتحقق مطالبها؟
يجيب قاسم: المعارضة ستستمر في اعتصامها وممانعتها للحلول والتوجهات الأمريكية المعتدية على لبنان، وستصبر مهما طال الزمن، لأن عنوان هذه المرحلة بالنسبة إليها هو الثبات والصمود لمنع قوى السلطة من أن تحقق أهدافها الخطرة على لبنان.
ليس مطلوباً من المعارضة أن تقوم الآن بخطوات وإجراءات إضافية تصعيدية ومع ذلك إذا رأت أن ثمة خطوة مناسبة فيمكن أن تسلكها مستقبلاً.
وعموماً تعتبر المعارضة أنها حققت إنجازات كبيرة عندما منعت قيام سلطة أحادية أو تفردية أو متواطئة.
لا رئاسة بدون الثلثين
ولكن ألا تخشون انفراط عقد المعارضة في ظل حديث عن إمكان فقدانها تماسكها وعجزها حتى اليوم من تحقيق أهدافها؟
يقول قاسم: أؤكد أن المعارضة متماسكة، والكل مندهش من تماسكها ووحدتها.
حصلت محاولات عدة للضغط على بعض أطرافها للخروج من دائرة التحرك، ولكن الحمد لله لم يلتزم أحد في صف المعارضة إلاَّ العنوان الوطني الشريف، وأؤكد أن لا أحد في صفوف يبحث عن مكسب آني مؤقت وينقل البندقية من كتف إلى كتف، المعارضة بألف خير، والمشكلة ليست عندها بل عند قوى السلطة التي ندرك تمام الإدراك أنها مرت بأزمات عدة، ونعتقد أنها ستواجه قريباً أزمة رئاسة الجمهورية في شكل كبير، فالطامحون إلى سدة الرئاسة الأولى كثر فيها.
وفي أي حال ، من المفيد جداً أن نقول ونكرر من الآن أن لا رئاسة جمهورية من دون الثلثين في مجلس النواب.