بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق مولانا وحبيبنا وقائدنا أبي القاسم محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، السلام عليكم أيها السادة العلماء، أيها الأخوة والأخوات، يا أحباء علي وزينب وفاطمة والحسن والحسين، يا أحباء محمد وآل محمد ورحمة الله وبركاته.
نحتفل بذكرى ولادة أمير المؤمنين علي(ع) في الثالث عشر من شهر رجب الأصب، الذي يصب الله تعالى فيه رحمته على العباد، فكان أن ولد الأمير في شهر رحمة إلهية، وفي يوم عظيم خالد هو الثالث عشر من شهر رجب، وعندما نحيي ذكرى الأمير إنما نحيي ذكرى إمام المتقين، وخليفة سيد المرسلين، والرجل الثاني بعد رسول الله (ص)، ورأس سلسلة أهل البيت من الأئمة المعصومين، والنور الذي شعَّ على العالم، فكنا من الذين والوه وبايعوه، ومن الذين عاشوا النور والعظمة والعزة ببركة أمير المؤمنين(ع) الذي ما ذُكر في محفلٍ أو في موقع أو في واقعة إلاَّ كان الأول وكان الأنجح، هو الأول في ساحة الجهاد، وهو الأول في العدالة، وهو في العبادة، وهو الأول في السجود والطاعة لله تعالى، هو الأول بعد محمد(ص) ليكون نبراساً وهداية، فبوركت أمة فيها علي، وهنيئاً للأمة التي توالي علي، وهنيئاً لمن كان مولاه علي(ع).
نزل فيه قرآن كريم، في حادثة مشهورة، عندما كان راكعاً للصلاة، ودخل إلى المسجد فقير يطلب المساعدة، ولا إمكانية للمصلي أن يتحدث مع طالب المساعدة، لكن الأمير (ع) خشي أن يتجاوز الفقير الساحة دون أن يقدم له المساعدة التي يريدها، فمدَّ يده إليه مشيراً إلى أصبعه وفيه الخاتم، وكأنه يقول له: خذ خاتمي لتقضي حاجتك، فنزل قرآن كريم بحق علي(ع) " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ".
نزلت هاتان الآيتان في سورة المائدة(55-56) على علي(ع) كتعبير عن الموقف، والأهمية هنا أن الله تعالى حدثنا عن حزب الله، فعبَّر أن الحزب يبدأ بالإيمان بالله تعالى، وبرسوله سيد الرسل وبأمير المؤمنين علي(ع)، وأي فخر أن نكون معه فهو العظيم بين العظماء، وهو الأول بين الأعزاء، وهو المقدس عند الله تعالى، وهو قسيم الجنة والنار في يوم القيامة.
وقال عنه رسول الله(ص):" إنَّ لكل نبي وصيٌ ووارث وإنَّ علي وصيي ووارثي"، وهو الإرث ليس الإرث المالي وإنما الإرث في الموقع والمكانة والدور، وأصبح واضحاً لكل الأمة الإسلامية مكانة أمير المؤمنين(ع)، ولا يمكن أن ينافسه أحد، فهو الأول إسلاماً وكان في ريعان الشباب، وهو الأول في الجهاد وكان بارزاً في كل معارك المسلمين، حتى أنه في غزوة الخندق، وهي التي يُقال عنها أيضاً "غزوة الأحزاب"، لماذا غزوة الأحزاب؟ لأن جميع الأحزاب من الكفار على اختلاف مشاربهم وقناعاتهم اجتمعوا لضرب الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، فسميت بمعركة الأحزاب، لأن الكفر اجتمع، وسميت معركة الخندق لأن سلمان الفارسي أشار إلى أهمية حفر خندقٍ ليكون فاصلاً بين المسلمين والمشركين كي لا يتمكنوا من الدخول إلى المدينة المنورة، في هذا الوقت العصيب والكفر يجتمع على الإيمان، وإذ بزعيم الكافرين عمر بن عبد ود العامري يبرز متحدياً يطالب المبارزة، فلم يبرز إليه أحد إلاَّ علي(ع)، ولكن النبي(ص) لم يسمح له إلاَّ بعد عدة مرات عندما تخلف بعض القوم وكان هو البارز، فذهب لقتال رأس الكفر آنذاك في عسكر الأحزاب في يوم الخندق، فقال عنه رسول الله(ص):" برز الإيمان كله للشرك كله"، كل الإيمان تجسَّد بعلي، وكل الكفر تجسد بعمر بن ود العامري، وكانت المعركة فاصلة فالناجح فيها هو الذي ينتصر ويفوز ويؤسس للمستقبل، وهنا كان لعلي(ع) الدور الكبير حيث قهر عمر بن عبد ود العامري، وقتله في المبارزة، وهنا قال النبي(ص) :" لضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين"، أي تعدل عبادة الإنس والجن على حدٍ سواء، لأن هذه الضربة نصرت المسلمين وأعزتهم ورفعت رايتهم عالياً، قهرت المشركين والكافرين، فهنيئاً لقوم يبرز بينهم علي(ع) وينصرهم بنصرة الله ورسول الله(ص).
تذكر لنا كتب التاريخ قصة رائعة في مبارزة يوم الخندق، برز علي ابن أبي طالب(ع) إلى عمر بن عبد ود العامري، وبدأ القتال بينهما، وفي لحظة من اللحظات علا الغبار وتوقف علي(ع) عن الحركة، فخاف القوم أن يكون قد أصاب الإمام علي(ع) شيئاً، وليس معروفاً عنه أن يتوقف في ساحة القتال فهو دائماً في حركة وحيوية، كيف توقف؟ وبعد ذلك أجهز على عمر بن عبد ود العامري، فسألوه عندما رجع: ما الذي حصل؟ هل استطاع عمر أن يؤثر عليه؟ هل كاد عمر أن يتغلب على أمير المؤمنين علي(ع)؟ أبداً، كان الأمير يهم بقتله فبصق عمر بن ود في وجه الأمير(ع)، وروي أيضاً أنه شتم والدته، عندها غضب أمير المؤمنين علي(ع) فتوقف من أجل أن يدفن الغضب الذي في قلبه، وقال لهم:"فخشيت أن أضربه لحفظ نفسي، فتركته حتى سكن ما بي، ثمَّ قتلته في الله جلَّ وعلا"، حتى في اللحظة الحرجة لا يريد أن يقتل انتقاماً لنفسه، لا يريد أن يشارك شخصيته في عمله في سبيل الله تعالى، بل أراد أن يكون القتل في الله، فصبر ثم قتله انتقاماً لله تعالى وقربة إلى الله تعالى.
هذا هو علي(ع) الذي نحتفل في ذكراه، هو الذي يقاتل بجرأة وفي سبيل الله تعالى، نعم عندما نقول بأنَّ المقاومين يقاتلون في سبيل الله تعالى، إنما يتعلمون من علي(ع)، لا يخضعون لمصالح ذاتية، ولا يفتشون عن دنيا فانية، وإنما يبحثون عن العز والنصر والإيمان، لأن من أعزه الله تعالى ونصره ارتفع في الدنيا وارتفع في الآخرة حتى ولو لم يرَ الناس من الكفار هذا الموقع، فالموقع عند الله هو الموقع في الأرض وفي السماء على حدٍ سواء.
أمير المؤمنين علي(ع) علَّمنا كيف نفهم القضايا وكيف نتعامل معها، طلب منَّا أن نكون عادلين وأن نقبل بالعدل، وعادة عند ذكر أمير المؤمنين علي(ع) نذكره بصفتين متلازمتين لا ينفكان عن الأمير(ع): صفة العدل وصفة الزهد، ماذا قال (ع) في العدل، قال:" من استثقل الحق أن يُقال له، أو العدل أن يُعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه"، إذا أحد ما لا يحمل كلمة عدل هل يعمل بالعدل! وإذا آخر لا يحمل كلمة حق، هل يعمل بالحق!، ولذلك إذا أردت أن تختبر الناس اختبرهم بهذا، قل كلمة الحق وانظر إلى ردة الفعل، والعدل مطلوب في كل موقع: في البيت وفي العمل وفي المدرسة وفي الشارع، وفي العلاقات بين الأقرباء وبين الناس، في الحزب وفي العلاقات الاجتماعية في الدولة وفي كل موقع، فالعادل عادلٌ مع جميع الناس، وليس العدل مع الأقرباء والأصحاب في مقابل الآخرين.
من عدل علي(ع) أنه كان يؤاخذ نفسه حتى على الأمور التي لا يتحمل مسؤوليتها، وكان حريصاً على الخدمة الإجتماعية، وعلى مواكبة مصالح الناس كان بينهم ومعهم، وكان يشعر بآلامهم ومراراتهم. مرَّ في أحد الأيام بين الناس ورأى امرأة تحمل قربة على كتفها، فحملها عنها ليساعدها، فشكت في الطريق معه إلى بيتها بأن علي أخذ زوجها إلى المعركة فقتل وترك لها صبيان أيتام وهي تعبة في إعالتهم وتخدم الناس لتطعمهم وعلي لم يلتفت إليها، لم يتكلم شيئاً، أوصل القربة إلى المنزل ثم عاد بعد ذلك وهو يحمل أطايب الطعام، ويحمل الطحين والتمر والحاجيات اللازمة للطبع والشراب، قرع عليها الباب، وقال لها: أنا الذي حملت القربة معك بالأمس، أريد أن أعطيك هذه الهدايا من أجل الأولاد، ورأى أن الأولاد يبكون فقال لها: هل أساعدك؟ فقالت: أكون ممنوعة لأني لا أستطيع أن أطبخ للأولاد وهم يبكون من الجوع.
قال: ما ترين أن أفعل؟
قالت له : الأفضل أن تهتم بالقدر.
بدأت هي تخبز وهو يحاول أن يلهي الأولاد من خلال إطماعهم وبعض الشراب تمهيداً لإنهاء الخبز، وكان يقول لكل ولدٍ عندما يناوله شيئاً من الطعام: يا بني اجعل علي بن أبي طالب في حلٍّ من ما مرَّ من أمرك، يحاول بينه وبين الله تعالى أن يرفع المسؤولية عنه.
ثم بعد ذلك قالت له: إذا أمكن أن تنفخ في هذه النار لأنها لا تشتعل بسرعة، فجاء ينفخ في النار وهو يقول بينه وبين نفسه:"ذق يا علي هذا جزاء من ضيَّع الأرامل واليتامى"، وبقي على هذه الحال إلى أن أتت امرأة أخرى، فرأت أن الأمير (ع) هو الذي يهتم بالأولاد ويطبخ القدر، قالت: يا هذه، ما يفعل أمير المؤمنين عندك؟
قالت : ومن أمير المؤمنين؟
قالت لها: هذا علي ابن أبي طالب. فبدأت تعتذر المرأة من أمير المؤمنين(ع) ولكن الأمير لم يقبل أن يجعلها في حال الاعتذار ، واستمر بعد ذلك في إرسال المؤن إليها بشكل مستمر، هذا علي(ع) أبو الأرامل واليتامى الذي لا يخشى إلاَّ الله تعالى ويحرص على مجتمعه وعلى فقراء هذا المجتمع.
من عدل علي(ع)، أن أخاه عقيل وهو الأكبر ، وهو ضرير لا يرى، جاءه يوماً وطلب منه مساعدة إضافية من بيت المال، كان عقيل يأخذ من بيت المال مثله مثل باقي المسلمين، على حسب عدد الأولاد في توزيعة معينة، ولكن رأى عقيل أن التوزيع لا يكفيه أو أنه طمع أن يعطيه الأمير(ع) أكثر من غيره وأن يميزه بسبب القرابة، وأن الأمير(ع) هو خليفة المسلمين، فألحَّ على أمير المؤمنين(ع) أن يعطيه عطاءً إضافياً، فالأمير لم يقبل، لكنه أجابه بشكل عملي، فأحمى حديدة وقرَّبها من يده، فشعر عقيل بحرارتها، وصرخ: ما الذي تفعله؟
قال الأمير(ع):"ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئنُّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه، أتأن من الأذى ولا أئن من لظى(جهنم)"، لاحظوا عدل الأمير(ع)بينه وبين الله تعالى وفي هذه اللحظات الحرجة.
أمَّا الزهد، فلعلكم تسمعون الكثير عن الزهد، البعض يقول بأن الزهد أن لا يملك الإنسان مالاً، والبعض الآخر يقول بأن الزهد أن يكون مظهر الإنسان فقير، وغيرهم يعتبر أن الزهد أن يأكل الإنسان قليلاً جداً حتى يبقى جائعاً، اسمعوا تفسير أمير المؤمنين علي(ع) فالزهد ليس بالمظهر بل بالمضمون وبالإيمان الحقيقي، قال الأمير(ع):" الزهد بين كلمتين من القرآن الكريم، فإنَّ الله جلَّ وعلا قال:" لِكَيْ لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ "، انظروا إلى الآيتان" لِكَيْ لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ "، فإذا أحد الأشخاص خسر مالاً أو ولداً أو تجارة أو أي شيء، فيأتي اليوم الثاني طبيعياً فما مرَّ قد مرَّ والقضاء وقع، عملنا ما علينا وهذه رزقتنا، فماذا يفعل الشخص الذي يخسر ولداً أو مالاً هل يقتل نفسه أو "يزعل" كثيراً . "وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ" ، فإذا ربحت ربحاً كبيراً فعليك بالانتباه فلا تعش مغروراً، ولا تعتبر أن هذا المال خالد لك، كما كانت الخسارة اختباراً فالربح اختبارٌ أيضاً، فإذا فزت عليك أن تشكر نعمة الله عز وجل وتعمل في الاستقامة، وإذا ربحت مالاً فاصرفه في حلال الله تعالى، وإذا نجحت في الامتحان اعمل من أجل خدمة مجتمعك وابقَ متوازناً في علاقاتك معه الناس، لا تتكبروا ولا تغتروا " وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ "، من استطاع أن يطوي الماضي بسرعة راضياً بما قسم الله تعالى ، واستقبل الحاضر والمستقبل بنعمه شاكراً لله تعالى متواضعاً له، كان زاهداً عند الله تعالى كما قال أمير المؤمنين علي(ع).
وأختم الحديث عن أمير المؤمنين علي(ع) بفكرة حضارية لطالما ادعى الغرب اليوم وبعض المثقفين أنهم أصحابها، ولكن صاحبها أمير المؤمنين علي(ع)، اليوم يقولون لنا في الغرب: الحوار مع الآخر، احترام الرأي الآخر، أن نعيش العلاقة الإنسانية بين الناس، يجب أن لا نميِّز بين الدين والعرق واللون والبلد، وحقوق الإنسان يجب أن تكون بما هو إنسان، وهذه كلها شعارات، ولكن في التطبيق العملي، الله أكبر عليهم، لأنهم يسيئون إلى الإنسان وحقوقه ألف مرة في اليوم، ويكتفون بالشعار، أمَّا أمير المؤمنين علي(ع) فعندما ولى مالك الأشتر على مصر، أعطاه وصية كاملة هي عهد الأمير إلى مالك الأشتر، ومما قاله في هذا العهد:"وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إمَّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، فتعامل معهم بإيجابية، فإما فلان مسلم فهو أخوك في الدين ويجب أن تحترمه، وإمَّا نصراني أو يهودي من أهل الكتاب هو نظير لك في الإنسانية، لذلك تعامل مع أخوك في الدين ونظيرك في الإنسانية على قاعدة العدل والإنسانية، هذه هي تعاليم الإسلام منذ محمد وعلي(صلوات الله عليهما).
مهما تحدثنا عن علي أمير المؤمنين علي(ع) فإننا لا نستطيع أن نفيه حقه، وعندما نتكلم عن الأمير(ع) بصفاته نحن الذين نشعر بالعظمة مع أمير المؤمنين، وكأننا عند حديثنا عن صفاته لا نبجله هو وإنما نُحضره إلى عقولنا وقلوبنا فنشعر أننا نريد أن نكون كعلي في كل حال من حالاتنا وأننا نعتز بأننا ننسب إليه فنحن نحمل صفات علي(ع) في قلوبنا وعقولنا ونفتخر أمام العالمين أن إمامنا علي ابن أبي طالب(ع).