محاضرات

المحاضرة التي ألقاها في مؤتمر عاشوراء الذي أقامه المركز الاسلامي المعاصر في مطعم الساحة - طريق المطار في 29/1/2009 تحت عنوان "عاشوراء.. النص والوظيفة وإمكانيات التعبير".

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد(ص) وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وصحبه الأبرار المنتجبين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

النص هو المحور والأساس في بناء الرؤية الإسلامية المتكاملة، وفي معرفة الأحكام الشرعية، وعماده القرآن الكريم كلام الله تعالى، وبما أنَّ المقصود منه يتضح من خلال التفسير أو التأويل، فإن للمنهجية المعتمدة في ذلك الأثر الكبير للوصول إلى المعنى المراد للخالق جلَّ وعلا.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد(ص) وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وصحبه الأبرار المنتجبين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

النص هو المحور والأساس في بناء الرؤية الإسلامية المتكاملة، وفي معرفة الأحكام الشرعية، وعماده القرآن الكريم كلام الله تعالى، وبما أنَّ المقصود منه يتضح من خلال التفسير أو التأويل، فإن للمنهجية المعتمدة في ذلك الأثر الكبير للوصول إلى المعنى المراد للخالق جلَّ وعلا.

ثم تأتي الأحاديث الشريفة للنبي(ص) والأئمة(عم) التي تضفي المزيد من الإضاءة والتوضيح والتفصيل والتخصيص والتقييد... ما يساعد على استكمال المعاني المقصودة، وإن كان التعقيد يزداد للتأكد من صحة صدور النص عن المعصوم، بعد أن كانت هذه المشكلة منتفية في ثبوت النص القرآني عن الله جلَّ وعلا. وقد عالج الفقهاء إثبات نص المعصوم وما يرمي إليه من خلال الاجتهاد معتمدين على مجموعة من القواعد الأصولية التي ترسم خطوات إثبات صحة النص تمهيداً لتحديد معناه، بالتناسق والارتباط مع النص القرآني والنصوص الثابتة للمعصومين.

وفي هذا يتحدث العلامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قده) فيقول: "وأما إذا ابتعد الفقيه عن عصر النص, واضطر إلى الاعتماد على التأريخ والمؤرخين والرواة والمحدثين في نقل النصوص، فسوف يواجه ثغرات كبيرة وفجوات, تضطره إلى التفكير في وضع القواعد لملئها، فهل صدر النص المروي من المعصوم حقيقة أو كذب الراوي أو أخطأ في نقله؟ وماذا يريد المعصوم بهذا النص؟ هل يريد المعنى الذي أفهمه فعلاً من النص حين أقرأه أو معنى آخر كان له ما يوضحه من الظروف والملابسات التي عاشها النص ولم نعشها معه؟ وماذا يصنع الفقيه حيث يعجز عن الحصول على نص في المسألة؟ . و هكذا يصبح الإنسان بحاجة إلى عناصر, كحجية الخبر أو حجية الظهور العرفي أو غيرهما من القواعد الأصولية"(1).

وهو بذلك يرفض مدرسة الرأي التي تغرد خارج دائرة النص، والتي تعطينا المعاني الصادرة عن التفكير الخاص، لا المعاني المقصودة من الشارع المقدس.

أمَّا الضابطة العامة التي تربط نص المعصوم بمنظومة النصوص المعتمدة فقد حدَّدها القرآن الكريم بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"(2) ، وفصَّلها الإمام الصادق(ع) بقوله:"كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"(3).

هنا تأتي النصوص التاريخية عن الأحداث والمواقف الصادرة عن المعصومين أو المحيطين بهم، ليزداد الأمر تعقيداً بسبب قلة عناية الفقهاء في التثبت منها، حيث انصرفوا إلى مسائل العبادات والمعاملات لتحديد مسؤولية المكلفين باعتبار أنَّها محل الابتلاء، ومع ذلك فإنَّ بالإمكان تطبيق القواعد المعتمدة في إثبات الحديث لتشكيل رؤية إجمالية حول الأحداث والروايات الأكيدة أو الراجحة، التي ترسم معالم عاشوراء بأبعادها المختلفة، ونحن ندعو إلى بذل الجهد في هذا الاتجاه للتخلص من فوضى الاختيار التي تشوه الحقائق.

وهذا ما يستدعي منَّا جملة من الملاحظات أبرزها:

1- من الضروري أن نعتمد نصوصاً للأحداث التاريخية وما جرى فيها، بأن نستنطقها كما أرادها الإمام الحسين(ع) أو من أحاط به، من دون أن نحذف منها ما لا ينسجم مع رؤيتنا وفهمنا طالما أنها منسجمة مع القواعد الأصولية، أي أن نتعامل معها كنصوص، وليس كأحداث قابلة للإلغاء إذا لم تعجبنا مداليلها أولم يمكننا تأويلها، ثم يضيف المحلل من آرائه ما يربط بين الأحداث، ويوجِد خط التواصل بينها، ويحمِّلها ما تتحمل من سنخية مشابهة أو عناوين لازمة أو أبعادٍ منسجمة.

2- أن نفرق بين الدراسة العقلية للنص والدعوة إلى عقلنة النص، فالدراسة العقلية مطلوبة كجزء لا يتجرأ من مقومات الاجتهاد عند الفقيه لفهم النصوص والأحداث من خلال سياقاتها وأهدافها، أمَّا الدعوة إلى العقلنة فهي تصرفٌ في هدف النص الذي يمكن أن يكون مراده استشارة العاطفة أو استحضار الغيب أو التوجيه للتعبد.. وبما أن المقصود الأساس دور العقل، فهذا ما يتحقق بالدراسة العقلية، إلاَّ إذا كان المقصود بالعقلنة هذا المعنى فيسقط الفرق والتحفظ.

3- تكفي نصوص عاشوراء الصحيحة وتاريخها المحقَّق لإعطائنا كامل الصورة عمَّا جرى، ولاستخلاص الدلالات والعبر الكاملة لإثبات أهداف عاشوراء، وبالتالي فإن أي تسامح في إضافة النصوص أو استسهال تقويل المعصوم ما لم يقله مضر بعاشوراء ومسيء لها، لأنَّه يبرزها عاجزةً بحقيقتها ووقائعها أن توصل إلينا ما تريد، فيأتي الوضَّاعون لإضافة ما يضيف إلى القصة أو يستدر الدمعة أو يدفع إلى الغلو أو يعظم من بعض الأحداث، بحجة استكمال قوة ومكانة عاشوراء، وهي حجة واهية مضلِّلة. فعاشوراء غنية بمعانيها من خلال أحداثها ولا تحتاج إلى إضافة أي شيء لها، بل تسيء هذه الإضافات إليها من جوانب مختلفة.

4- أبعادُ عاشوراء متنوعة، وهي لا تقتصر على بعدٍ واحدة. فهي تثبت أصالة الإسلام، وتحاكي العقل، وتحرك العاطفة، وتستثير الجهاد، وتؤكد على الالتزام بالقيادة الشرعية، وتكشف النفاق، وتبرز نماذج المجتمع الخيرة، وتشرك الجميع في حمل هم الإسلام والمسلمين، وتؤكد على السعي لإقامة الحكم الصالح... إنَّها تمثل استمرارية الإسلام بشموليته، فعن الرسول(ص):" حسين مني وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبَّ حسنياً، حسين سبط من الأسباط"(4).

صحيح أن العزاء هو الطابع العام للمجالس العاشورائية، والبكاء هو التعبير الأساس في أجواء العزاء، لكنَّه ليس المطلب الوحيد، وليس الهدف النهائي لها، إنما المطلوب أن نأخذ من مدرسة الحسين(ع) وجهة أساسية مركزية وهي الإسلام بكل أبعاده، يقول الإمام الخميني(قده):" لا تظنوا أن هدف هذه المآتم والمواكب وغاياتها تنتهي عند حد البكاء على سيد الشهداء(ع)! فلا سيد الشهداء(ع) بحاجة إلى هذا البكاء، ولا هذا البكاء ينتج شيئاً بحد ذاته. إنما الأهم من كل هذا هو أن هذه المجالس تجمع الناس وتوجههم إلى وجهة واحدة " .

أمَّا الخطاب فهو من فعلنا واختيارنا، حيث نقدم للناس من خلاله ما نريد، وهنا تكمن مسؤوليتنا في أن ننسجم مع النصوص والتاريخ العاشورائي، وأن نلحظ متطلبات مجتمعنا فيما يساعده ليستفيد من مدرسة كربلاء، فإنَّ بعض عناوين الخطاب أساسية لتأمين التواصل مع عاشوراء، وتثمير أهدافها في العصر الذي نعيشه، وهي - بحسب وجهة نظري - كالتالي:

1- التأكيد على مرجعية الإسلام المحمدي الأصيل بالتزام الشريعة المقدسة وتطبيق تعاليمها، فما استشهد من أجله الإمام الحسين(ع) هو تصويب مسيرة المسلمين، كي لا ينخدعوا بالعناوين الإسلامية الفارغة من المضمون والالتزام، ويعودوا إلى محاكاة التطبيق العملي الصادق لما ورد في الكتاب والسنة الشريفة. فقد كانت حركة الإمام الحسين(ع) لطلب الإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاقتداء بسيرة سيد الرسل محمد(ص) وإمام المتقين علي(ع).

كتب الإمام الحسين(ع) في وصيته إلى أخيه محمد ابن الحنفية:" بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بإبن الحنفية: إن الحسين يشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً, وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب(ع)، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ هذا، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق, وهو خير الحاكمين، وهذه وصيتي يا أخي إليك, وما توفيقي إلاَّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب"(5).

2- أهمية البناء الجهادي في مواجهة الظالمين والمحتلين والطغاة والمعتدين، وهي مسؤولية ركَّز عليها القرآن الكريم في كل زمان ومكان، قال تعالى:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ "(6). وقد جعل الإمام الحسين(ع) مواجهته لجيش يزيد عنواناً للعزة في مقابل الذلة، على قلة العدد وخذلة الناصر، ففي بعض المحطات ينحصر الخيار بالجهاد الذي يؤدي إلى الاستشهاد، ويكون الطريق الوحيد إلى الهدف متلازماً مع التضحية بالنفس في سبيل الله تعالى. ففي خطبة للإمام الحسين(ع) الثانية في كربلاء:" ألا وإن الدعيِّ ابن الدعيِّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله ذلك لنا، ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة, مع قلة العدد وخذلة الناصر"(7).

ومن خطبة له في جماعة الحر في الطريق إلى كربلاء:" فإني لا أرى الموت إلاَّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاَّ برما"(8).

3- الإمام الحسين(ع) سيد شباب أهل الجنة، فعن الرسول(ص):"الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"(9) ، وعلينا أن ندعوا إلى الوحدة من حوله، وأن يحيي جميع المسلمين ذكرى شهادته، وأن يستحضروا مواقفه، فهولم يكن مع جماعة دون أخرى، وإنما كان مع استقامة تطبيق الإسلام، ولا يتحمل أحد في الحاضر وزر السابقين، فلا تزر وازرةٌ وزر أخرى، إنما كان موقفه ضد الظلم والانحراف، وهي مسؤولية المسلمين جميعاً في كل زمان ومكان، وهم سيجدون في الإمام الحسين(ع) قدوةً للأحرار والثوار وبناة الدين.

4- إحياء عاشوراء عمل تعبوي وتربوي واستنهاضي، يعبئ الأمة بالتعلق بالقيادة الشرعية الحكيمة، التي ترفض ما يؤدي إلى انحراف الأمة، مهما بلغت الصعوبات والتضحيات، لتكون في الموقع المتقدم لإقامة الدين في حياتها. ويربي على الارتباط بالإسلام وطاعة الله تعالى، على قاعدة العودة إلى الأصالة والجذور، وحمل الإسلام قولاً وعملاً، والحذر من المنافقين وأدعياء الإسلام. ويستنهض باتجاه إعلاء كلمة الدين، وعدم الاستسلام للواقع المنحرف، والقيام بالجهد اللازم ليحمل المجتمع لواء الإسلام الحق.

نحن نعتبر أن خطابنا العاشورائي، وتربيتنا على السيرة الحسينية، قد أنجزا تعبئة ثقافية وتربوية وجهادية وسياسية أدَّت إلى عودة شبابنا إلى أصالة الموقف الحق، فكانت مواجهة إسرائيل نموذجاً للإيمان الأصيل، وكان الانتصار الإلهي الكبير في تموز 2006 ثمرة من ثمار تظافر الجهود بالتوكل على الله تعالى، فأصبحت الشهادة ثقافةَ الحياة العزيزة التي لا تقبل الاستسلام أو الذل، وتحول ضعف العدد والعدة إلى دافعٍ لمزيد من الاستعداد الممزوج بالثقة بنصر الله تعالى" وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ "، ولم تعد إسرائيل القوةَ التي لا تقهر، كمالم تعد كياناً ثابتاً يفرض نفسه، واستعادت القضية الفلسطينية بريقها وتألقها، وصمدت غزة باستلهام هذه الروح المعطاءة.

لقد حرَّك فينا الإمام الحسين(ع) قوة الممانعة والرفض للطاغوت والاحتلال، فتكرست المقاومة رمزاً للجهاد، ودخلت في مكونات حياتنا، بل أدركنا أن لا إمكانية للحياة العزيزة من دونها. فالمقاومة اليوم أصيلةً في منطلقاتها وحضورها وقوتها، ولم تعد فكرة للدراسة والتنظير، بل هي واقعٌ يؤثر في رسم معالم وخريطة المنطقة.

لقد ولَّى الزمن الذي نستجدي فيه عبثاً تحرير أرضنا وخياراتنا، ولم تعد تنطلي علينا لعبة مجلس الأمن الذي يعوِّض للصهاينة خسارتهم بقراراته الجائرة، وأثبتت مقاومتنا التي استلهمت من دروس الشهادة الحسينية قدرتها على التحرير وصمودَها في المواجهة، فاتجهت الأنظار إليها، وبدأ الضغط المتعدد الأطراف والجنسيات لإسقاط قوة المقاومة بالقواعد السياسية والمتطلبات الدولية، بعد أن عجزت آلة الحرب الصهيونية وفشلت في المواجهة، لكن المقاومة يقظة، فهي لن تفرِّط برصيد التضحيات، وأمانة الأجيال، وستبقى على قوتها وجهوزيتها لمواجهة الأخطار والتهديدات الإسرائيلية، مرحبةً بإستراتيجية الدفاع القوي، رافضة استبدالها بالدفاع الدبلوماسي، إذ لا مجال لاستعادة أرضنا وحقوقنا إلاَّ بالمقاومة وعطاءات الشهادة، وسيكون الصبح قريباً إن شاء الله تعالى.