الكلمة الكاملة التي ألقاها في مؤتمر التجديد والاجتهاد الفكري عند الإمام الخامنئي (دام ظله) والذي نظمه معهد المعارف الحكمية في قاعة مجمع الحدث الجامعي.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق مولانا وحبيبنا وقائدنا أبي القاسم محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.
السلام عليكم أيها السادة العلماء، أيها الأخوة والأخوات, ورحمة الله وبركاته.
ترك القرن العشرين بصماته في إبعاد الإسلام عن مسرح الحياة إلى ما قبل الربع الأخير المواكب للثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة الإمام الخميني(قدس سره)، وقد اجتمعت عوامل كثيرة لهذا الإبعاد أبرزها:
1- وصول الدولة العثمانية المعتمدة على الوراثة في الحكم إلى حالة الضعف والترهل، والتي ساهمت عصبيتها القومية في استيلاد تحركات مقابلة زادت في ضعفها، فضلًا عن الصورة التي لم تكن مشرقة في الترويج للإسلام.
2- السيطرة الغربية التي صاحبت اختلال موازين القوى والحرب العالمية الأولى، والتي أدَّت إلى تقسيم المنطقة جغرافيًا وسياسيًا، وبدء الحملة المنظمة على الثقافة الإسلامية، وطرح البديل الرأسمالي عقيدةً ونظامًا، وارتباط هذه الحملة بعنوان المعاصرة المصحوبة بحركة علمية واقتصادية جاذبة، في مقابل التخلف الذي كان سائدًا في منطقتنا.
3- حملة التغريب المنهجية التي قادها أتاتورك، وقلَّده شاه إيران بنسبة كبيرة، مع تبعية كاملة للغرب، وللدولتان: تركيا وإيران أثر كبير في توجهات العالم الإسلامي.
4- بروز الاتحاد السوفياتي بعقيدته الشيوعية التي شكلت ردة فعل على النظام الرأسمالي وعيوبه، ما أحدث حركة يسارية شبابية تتطلع إلى التغيير من هذا المنظور، وهي تشارك الرأسمالية في هجومها على الدين بشكل عام وعلى الإسلام كعقيدة وشريعة بشكل خاص.
5- تراجع النشاط العلمائي والحركي الإسلامي وضعفه في مواجهة التحديات الجاذبة والممَّولة والمدعومة من الدول الكبرى القائدة في منطقتنا المتخلفة.
جرت محاولات علمائية نهضوية من شخصيات مرموقة في العالم الإسلامي أمثال: السيد جمال الدين الأسد آبادي الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والميرزا الشيرازي، والآخوند الخراساني، وأبو الأعلى المودودي، وسيد قطب، وحسن البنا، والشيخ النانيئي، وآية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر، ومحمد إقبال اللاهوري، والسيد عبد الحسين شرف الدين، والعلامة الطباطبائي ...، وقد ساهمت هذه التحركات النهضوية في إبقاء الشُعلة متَّقدة، وفي منع الاتجاهات المتخلفة والمتعصبة والجاحدة من أن تكون الساحة خالية لهم.
وكذلك انطلقت حركات إسلامية منظمة، لكنها لم تُفلح في إيجاد التغيير الحاسم، واقتصر دورها على التربية والتثقيف بما حافظ على جو إجمالي من تدين الناس، ذلك أن الحضور السياسي الفاعل ووجود الدولة الإسلامية هو الذي يمهد الأرضية لنشر الثقافة في ميدانها الأوسع.
إذًا كان مستوى المواجهة يتطلب أكثر من ذلك, بل ما هو أقرب إلى النقلة النوعية التي تُحدث زلزالًا للإنطلاق من جديد، وهذا ما توفَّق إليه الإمام الخميني(قدس سره), الذي أحدث تحولًا كبيرًا في إحياء الإسلام، وجعله في موقع الصدارة في عالمنا الإسلامي، في ظل انكشاف ثغرات وأخطار الرأسمالية والشيوعية، وقطَعَ شوطًا كبيرًا في فترة زمنية قصيرة في تعميم ثقافة الإسلام المحمدي الأصيل.
1- الثقافة هي الأصل.
تتحدَّد هوية أي شعب من خلال ثقافته, التي تنعكس على كلّ مجالات الحياة الاجتماعية والأسرية والسياسية والاقتصادية ..., وتطبع عاداته وتقاليده, وتؤثر على تربيته, وترسم له قواعد الصح والخطأ في السلوك. أكَّد الإمام الخامنئي(دام ظله) هذا المعنى المهم والاستراتيجي في كلّمته أثناء لقائه مع أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية فقال:
"إنّ الثقافة هي هُوية أيّ شعبٍ. القيم الثقافية هي روح الشعب ومعناه الحقيقيّ. كلّ شيء مرتبط بالثقافة. الثقافة ليست هامشًا للاقتصاد وتابعة له, ليست هامشًا للسياسة وتابعة لها، بل إنَّ الاقتصاد والسياسة هما تابعان للثقافة وهامشان لها"(1).
وهذا ما يحدونا للعمل على رسم استراتيجيات الثقافة الإسلامية، فنحدِّد الأهداف، ونختار الأساليب والوسائل المناسبة، ونضع الخطط العملية التي توصلنا إلى الأهداف على ضوء الإمكانات المتاحة والمستحدثة. وعلينا أن ندرس واقعنا لنحدِّد موقعنا، وما فيه من إيجابيات وسلبيات، وفرص وتحديات، ثم نعمل لنصل إلى المأمول بما ينسجم مع واقعنا المعاصر المتأثر بالقرية العالمية بسبب تطور وسائل الاتصال، وتفاعل البشرية مع بعضها، وبما يحقق متطلباتنا المستقبلية وتطلعات أجيالنا الصاعدة.
2- الدين حاجة بشرية.
ننطلق من أنَّ الدين حاجةٌ بشرية، تنسجم مع فطرة الإنسان التي خلقها الله تعالى، قال تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ"(2).
وما استجابة الناس الواسعة لدين الله تعالى عبر الزمن إلاَّ انسجامًا مع هذه النظرة، على الرغم من قلة عدد الملتزمين بتعاليمه، وذلك بسبب عوامل كثيرة أبرزها هوى النفس, وانجراف الإنسان المادي وراء ملذات الدنيا, وضعف الحركة التوجيهية العامة من خلال العلماء والقدوة لقلة عددهم أو ظروفهم أو قلة الرساليين بينهم. وما إن برز القائد الملهم الإمام الخميني(قدس سره) بثورته الإسلامية المنتصرة حتى وجدنا عودة كبيرة من الناس إلى دين الله تعالى.
أعطى الإمام الخامنئي(دام ظله) نموذجًا معاصرًا عن سبب إقبال الناس على الدين، فقال: "إنّ شعارات الحكومة التاسعة والعاشرة (حكومتي الدكتور محمود أحمدي نجاد) كانت شعارات ذات جاذبية لشعبنا المؤمن، مثل المطالبة بالعدالة, أو مقاومة الاستكبار, أو البساطة في العيش ومواجهة النمط الأرستقراطي، أو محاسبة استغلال المناصب واستغلال العلاقات في الأمور الاقتصادية وغير الاقتصادية, أو شعار الخدمة الصادقة. وهنا أقول، وأنتم أيضًا تعلمون، أنّ سبب إقبال النَّاس على الحكومة وعلى رئيس الجمهورية، سواء في العام 84 هـ.ش (2005م) أم في العام 88 (2009م) إنّما كان هذه الشعارات. أي إنَّ النَّاس قد تعلَّقت قلبيًّا وشعرت بضرورتها وبالحاجة إليها. لا تتخلّوا عن هذه الشعارات. من أهمّ هذه الشعارات، كان التمسُّك بالأصول والقِيَم التي أدخلها إمامنا العظيم وطرحها في المجتمع, والتي كانت بالمناسبة سبب نمو ارتباط شعوب الدنيا بالثَّورة الإسلامية"(3).
لا تقتصر الحاجة إلى الدين عند شعوب منطقتنا، بل تشمل العالم بأسره، وهو الذي عاش الخواء الروحي والمعنوي، وغرق في الماديات، فواجهته ظلمات النفس والحياة، فأصبح يبحث عن الحل, وهو الموجود في الإسلام. قال الإمام الخامنئي(دام ظله): "لقد تجاوزت البشرية المدارس والإيديولوجيات المادِّية. فاليوم لا الماركسية لها جاذبية تُذكر، ولا الليبرالية الديمقراطية في الغرب لها مثل هذه الجاذبية, ـ وتُلاحظون ما الذي يحدث في مهد الليبرالية الديمقراطية الغربية، في أمريكا وأوروبا، حيث يعترفون بالهزيمة ـ، ولا القومية العلمانية لها جاذبية, الجاذبيةُ الأشدّ بين الأُمَّة الإسلامية في الوقت الراهن هي للإسلام وللقرآن ولمدرسة الوحي، وقد وعد الله تعإلى أنَّ بوسعِ المدرسة الإلهية والوحي الإلهي والإسلام العزيز أن يُوفِّر السَّعادة للبشر"(4).
وقال(دام ظله): "إنَّ البشريّة بحاجة اليوم إلى المعنويّة والصفاء والمعارف الواضحة والحقّة والسمحاء للإسلام, التي يفهمها ويميل إليها كلّ قلب منصف"(5).
نحن معنيون بأن نعرِّف الناس على حقيقة الدين، فهو منهج الحياة الكامل، وهو طريق السعادة في الدنيا والآخرة، وهو الذي يوجِّه الإنسان إلى حسن الأداء في هذه الدنيا ليستثمرها بأفضل وجه خالصة من الشوائب، ثم يكافئه الله تعالى على ما أحسن فيها يوم القيامة، قال تعالى: "وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"(6).
يحثُّنا الإسلام على العلم، لنستثمر هذه الدنيا على أفضل وجه, وقد شهدنا آثار العلم في الحضارة الإسلامية ومدنيتها التي ملأت آفاق الدنيا، وصدَّرت التقدم العلمي إلى العالم، قال الإمام(دام ظله): "انظروا إلى مثال ذلك في التاريخ، سترون أنّ الحركة العلميّة في القرون الأولى للإسلام إنّما وصلت إلى أوجها بفضل تشجيع الإسلام، وهو أمرٌ غير مسبوق في العالم ـ في جميع المجالات ـ وكان العلم والدّين ممتزجين؛ وقد تطوّر العلم والتحقيق والفن؛ كلّ في مجاله(7).
من المهم أن ندرك بأن الإسلام يحقق لنا التقدم على الصعيدين: المادي والروحي، فدعوته لا تقتصر على توجيه الإنسان لحياته الخاصة وإيمانه ومستقبله الأخروي، بل تشمل منظومة المجتمع السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية... لتحيط المؤمنين به بحركة صاعدة إلى الأمام على المستويين المادي والروحي. قال الإمام(دام ظله): "هذا التَّقدُّم تقدُّمٌ شامل يستوعب التَّقدُّم المادي والمعنوي، وينبغي إلی جانب العمل الرامي إلی تمتع المجتمع بمستوی معيشي، وفرص عمل، ورفاه، وتقدُّم علمي مناسب، أن يتمتَّع المجتمع بمستوی جيّد من العدالة، والأخلاق الإسلامية السامية، والروح المعنوية، والإيمان العميق، والتحفز المضطرد"(8).
إنَّ منهج الإسلام منسجم مع القوانين والسنن الإلهية، فعندما يحصل التقدم المادي المصحوب بحسن الإدارة والعدل والتساوي في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع تتدفق الخيرات المادية، وعندما نهتم بالتوجيه المعنوي والروحي تتحقق الطمأنينة في علاقة الإنسان بربه، وهي العلاقة المتصلة في كل حركة الحياة الدنيوية بحياة البرزخ ويوم القيامة. قال الإمام(دام ظله): "إنَّ الإيمان بالله تعإلى يُمَكِّن النَّاس من الحصول على كلّ الأشياء التي يحتاجونها في حياتهم المادِّية ، ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكلّواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾. لو أنَ الدِّين أُقيم وعُمل بالتعاليم الإسلامية في المجتمع, فإنَّ النَّاس سيصلون من حيث الرفاهية إلى حيث لا يبقى أي شيء من حاجاتهم غير متوفر. ومن حيث الاستقرار المعنوي والروحي والشعور بالأمن والطمأنينة يبرز دور الإيمان أيضًا، يقول القرآن: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾. فالقرآن يعلِّم البشر طُرق السَّلام والطمأنينة والسَّلامة الروحية، هذا الطريق الذي يوصل الإنسانية إلى الطمأنينة الروحية, وهو ذلك الشيء الذي يفتقده العالم ويؤدي إلى حال الغليان"(9).
3- تصحيح المفاهيم.
أنجزت الثورة الإسلامية الإيرانية بتوجيهات وآراء الإمام الخميني(قدس سره)، ومن بعده الإمام الخامنئي(دام ظله) إنجازين مفصليين في الثقافة الإسلامية، فطبقت منظومة الحكم الإسلامي بصيغته المعاصرة, وبما يؤكد قدرة الإسلام على مواكبة العصر، وقادت حركة تصحيحية شاملة للكثير من المفاهيم الإسلامية.
أما الإنجاز الأول المتمثل بإقامة الدولة الإسلامية، فقد "طرح الإمام الخميني(قدس سره) إقامة النظام اسلامي في إيران على أساس: الجمهورية الإسلامية، فالنظامُ إسلاميٌ, والشكلُ جمهوريٌ، وهو بتبنيه الشكل الجمهوري في إدارة إيران، يكون مجدَّداً ومنسجماً مع تطورات الحياة المجتمعية ومتطلبات العصر الحديث.
لعلَّ المرتكز في الأذهان من تجربة المسلمين الطويلة، بدءاً بإقامة أول دولة إسلامية في المدينة المنورة على يد رسول الله(ص)، وانتهاءً بالدولة العثمانية، أنَّ عنوان الحكم في الإسلام ينحصر بالخلافة، التي يترتب عليها هيكلية إدارية محددَّة للدولة. علماً بأنَّه لم يبقَ من الخلافة في حقبات الحكم الإسلامي المختلفة الا عنوانها، فقد اختلفت الهرمية والشكل الإداري والتنظيمي للدولة بشكل كبير بين خليفة وآخر، ودولة إسلامية وأخرى، وكذلك كانت طرق اختيار الخليفة بعد رسول الله(ص) مختلفة، إلى أن جاءت بدعة توريث الخلافة الذي بدأ مع بداية الدولة الأموية، وتكرَّس بعد ذلك مع أطوار الدول الإسلامية المختلفة، أكانت الدولة الاسلامية جامعةً لكل أقطار المسلمين، أم موزَّعة دولاً متفرقة بينهم.
لا يُعتبر شكل الحكم في الإسلام مُنزَّلاً من عند الله تعالى كهيكلية إدارية وتنظيمية في توزيع الصلاحيات والمسؤوليات داخل الدولة، وإنما هو جزء من مساحة الفراغ (الاباحة) التي أباحها الشارع المقدس، ليختار المسلمون ما يناسبهم, بحسب متطلبات الزمان والمكان, ومنها شكل وهيكلية الحكم، على قاعدة أن يكون المضمون إسلامياً، لقوله تعالى: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ"، وقال جلَّ وعلا: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"(10).
"كما تخطى الإمام(قدس سره) كل التقليديين وحواجزهم المصطنعة، وأولئك الذين غرقوا في عالم المصطلحات، فأسرتهم لفظة الخلافة، مع أنَّها مصطلحٌ بدلالاتٍ وهيكليات خدمت في مراحل قيام الدولة الإسلامية في الزمن الأول، ولا ضير في تغيير المصطلح انسجاماًُ مع متطلبات العصر. فلفظة الخلافة، وآليات عملها، ليست حكماً شرعياً منزلاً، وإنما هي شكلٌ من أشكال الحكم الإسلامي"(11).
هذا النظام الإسلامي الذي يستند إلى أطروحة ولاية الفقيه في القيادة والإدارة، هو الذي أعطى للشعب صلاحية اختيار قيادته وممثليه ومحاسبتهم بما يجعل النظام معبِّرًا عنهم، وهو ما أطلق عليه الإمام الخامنئي(دام ظله) تعريف نظام "السيادة الشعبية الدينية"، الذي أكد على أنَّ أصوله تُبنى على حكم الإسلام وسيادة الشَّعب: "أمَّا سيادتنا الشَّعبية فلها أصولٌ وجذورٌ تمتدُّ في معرفةٍ دينية ورؤية كونية مختلفة, فماذا يقول هؤلاء؟ إنَّنا نؤمن بكرامة الإنسان ونعتقد بأهمية صوته، ونعتقد بأنَّ مشاركته أمرٌ ضروري لتحقُّق الأهداف الإلهية، ولا يمكن ذلك بدونها"(12).
أما حركة تصحيح المفاهيم فشملت المصطلحات ومعانيها، وحقائق المفاهيم الإسلامية الأصيلة، وقد بدأ الإمام الخميني(قدس سره) بعنوان الإسلام، فوجد التشويهات الكثيرة التي ألحقها به الجهلة والمتعصبون والمعادون، فأعلن طرحه المتكامل بعنوان: "الإسلام المحمدي الأصيل"، تمييزًا له عن "إسلام السلاطين" و "الإسلام الأمريكي" و "إسلام الجهلة"...
وشملت أدبيات الثورة مفاهيم كثيرة مثل:
أ- رفض الاستكبار والتبعية له, والمحافظة على حرية المستضعفين في خياراتهم وإيمانهم.
ب- المقاومة كحق مشروع لمواجهة الاحتلال وخاصة إسرائيل، ونصرة الحق في دعم حركات التحرر والشعوب المستضعفة.
ج- الجهاد في سبيل الله تعالى له ضوابطه وأخلاقياته التي تنسجم مع تعاليم الإسلام، وهو حالة دفاعية عن الإيمان والأرض والإنسان, وليس فرضًا أو تسلطًا أو عدوانًا على الآخرين.
د- العودة إلى الأصول الإسلامية لتحديد معنى الحرية وضوابطها وعدم الإنجرار أمام الأفكار المادية الغربية المضلِّلة.
هـ- الامتناع عن الحرام لا يمنعنا من بناء العلاقات الدولية النَّدية، ولذا علينا الالتزام بالقيام بما أحله الله تعالى والامتناع عما حرَّمه بإثبات وإبراز هويتنا الإسلامية والدفاع عنها.
و – ديننا عين سياستنا، وسياستنا عين ديننا، ولا يجوز بأي حال فصل الدين عن السياسة، فالإسلام ليس للموعظة والحالة الفردية فقط, بل هو للمجتمع والحياة والدولة.
تحدث الإمام الخامنئي(دام ظله) عن إنجازات الثورة البنيوية فقال:
"كانت لثورتنا هذه الخصوصيّات:
أ- لقد قضت على نظامٍ مناهضٍ للإسلام, وجاءت بنظامٍ إسلامي إلى الحُكم.
ب- مَحَقَتْ نظامًا دكتاتوريًّا مستبدًّا، وأقامت نظامَ حكمٍ شعبي بدلًا عنه.
ج- مَحَت التَّبعية التي كانت بلادنا تعاني منها طوال سنين متمادية, - حيث وصلت إلى أفجع وأفظع أحوالها في العهد البهلوي- ومنَحَتْ الشَّعب استقلالا شاملًا.
د- قضَتْ على القمع والتعسّف الرهيبين اللذين كانا مسلّطين على شعبنا، ومنحته الحرِّية, ومكَّنتْ أبناء الشَّعب من طرح آرائهم وكلّامهم بحريَّة، وأضحت الأجواء أجواء حريَّة.
هـ- قضت الثَّورة على الضعف النَّفسي وعقدة الدونية لدى شعبنا، وأحلَّت محلها الثقة بالنَّفس الوطنية.
و- كان شعبنا معزولًا ومُعرِضًا عن الشؤون السياسية ولا يهتم لأحداث البلاد. وقد انتزعت الثَّورة هذه الحالة من شعبنا, وجعلتنا شعبًا واعيًّا وسياسيًّا"(13)
4- التجديد.
الهدف من الاجتهاد هو بذل الوسع لاستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها، بالاستفادة من كل العلوم ذات الصلة، ومن القواعد والأصول التي تساعدنا على فهم النص، وذلك برعاية الزمان والمكان, وكل ما تمت إضافته من علوم وأفكار مساعدة لمواكبة متطلبات الزمان والمحافظة على ثوابت الإسلام.
ولا نقاش بأن التجديد بهذا المعنى، مطلوب، وقد اطَّلعت على مقالات وكتب كثيرة جدًا تسوقُ أدلةً لضرورة وأهمية التجديد، وهي جيدة لإنعاش الفكرة، ولكن المطلوب هو التطبيق والاجتهاد في هذا المجال، وعدم الاقتصار في بعض الأحيان على إثارة الشكوك فيما وصلنا إليه وتهديمه من دون تقديم المعالجة المناسبة.
يمكننا رسم خطوات التجديد التي تحقق لنا مضمونًا ثقافيًا إسلاميًا أصيلًا وفق التوجيهات الآتية:
1- إن مبادئنا ثابتة, ولا نغيِّرها بحجة تغيُّر العالم، قال الخامنئي(دام ظله): "والحجّة هي أنَّ العالم قد تغيَّر وكلّ شيء قد تغيَّر. هناك أشياء لا تتغيّر، ومن بداية التاريخ وإلى اليوم، حُسن العدل والمطالبة بالعدالة لم يتغيّر، وقبحُ الظلم لم يتبدّل، وحُسن الاستقلال الوطني والعزّة الوطنية لم يتغيّر، هذه وكثير من الأصول الأخرى لا تقبل التغيير. فتغيُّر العالم لا ينبغي أن يكون حجّة من أجل أن نغيّر سلوكنا وأهدافنا ومبادئنا. فعندما تتغيَّر المبادئ يتبدَّل الطريق، وعندما يتبدَّل الهدف النّهائيّ فلا يعود هناك معنىً لأن تتحرّكوا على الطريق السابق، بل ستتحرّكون باتجاه هدفٍ جديد له طريق جديد، وطريقٌ آخر(14).
2- "إنَّ التفكير المتجدّد ضروريٌّ: "إنَّ تبيين الرؤية المعرفية للإسلام والفكر الاقتصادي والسياسي للإسلام، والمفاهيم الفقهية والحقوقية، التي تشكلّ أركان ذلك الفكر الاقتصادي والسياسي، ونظام التعليم والتربية والمفاهيم الأخلاقية والمعنوية وغيرها وغيرها، يجب أن تُعدّ وتُهيّأ بصورة دقيقة وعلمية ومقنعة وناظرة إلى الأفكار الرائجة في العالم. هذا هو عمل الحوزات"(15).
3- وعلى العلماء أن يستوعبوا متطلبات المجتمع، "ما لم يكن لعلماء الدين حضوراً فاعلًا في القضايا والمعضلات كافة، ليس بوسعهم أن يدركوا بان الاجتهاد المصطلح غير كافٍ لإدارة المجتمع. وان الحوزات العلمية وعلماء الدين مطالبون دائماً باستيعاب حركة المجتمع والتنبؤ بمتطلباته واحتياجاته المستقبلية، وان يكونوا مهيأين لاتخاذ ردود الفعل المناسبة إزاء الاحداث قبل حدوثها. فمن الممكن أن تتغير الأساليب الرائجة لإدارة أمور المجتمع في السنوات القادمة، وتجد المجتمعات البشرية نفسها بحاجة إلى أفكار إسلامية جديدة لإيجاد حلول لمشكلاتها. ولهذا ينبغي لعلماء الإسلام الكبار ان يفكروا بذلك من الآن(16).
4- والالتفات إلى أهمية عنصري الزمان والمكان في الاجتهاد، "الزمان والمكان عنصران رئيسيان في الاجتهاد، فمن الممكن أن تجد مسألة كان لها في السابق حكماً، وان المسألة نفسها تجد لها حكماً جديداً في ظل العلاقات المتغيرة والحاكمة على السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظام ما. أي أنه ومن خلال المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالموضوع الأول الذي يبدو أنه لا يختلف عن السابق، ولكنه في الحقيقة أصبح موضوعاً آخر يتطلب حكماً جديداً بالضرورة. ولهذا ينبغي للمجتهد أن يكن محيطاً بقضايا عصره(17).
5- ويجب المحافظة على منجزات الثورة، وقراءة أصولها وعدم حرفها عن مسارها، "الوصية الأخرى هي إعادة قراءة أصول الثورة بشكل مستمر. الشعارات والأصول يجب أن تخضع للتنقيح والتطبيق مع أصول الإسلام ومُحكَماته. الاستقلال والحرية والعدالة، وعدم الاستسلام أمام الاستبداد والاستعمار، ورفض التمييز القومي والعنصري والمذهبي، ورفض الصهيونية رفضاً صريحاً وهي التي تشكّل أركان النهضات المعاصرة في البلدان الإسلامية، هي بأجمعها مستقاة من الإسلام والقرآن.
دوِّنوا مبادئكم، وحافظوا بحساسية كبيرة على أصالتكم، ولا تدعوا أعداءكم يدوّنون نظام مستقبلكم، لا تدعوا أصولكم الإسلامية تُقدَّم قرباناً على مذبح المصالح العابرة"(18).
5- الأساليب والخطوات العملية.
يجب أن تكون الاستراتيجية الثقافية محكومة للقواعد الأربعة الآتية:
1- خلق الله الإنسان متميزًا بأفضل المقومات: "لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"(19).
2- وجعله خليفة لأداء دوره باستقامة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ"(20).
3- على أن يستفيد من وجوده على الأرض للعمل الصالح كمحطة للآخرة: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ"(21).
4- ولكنه سيعاني ويُبتلى ويُختبر قبل أن يحصل على النتيجة: "يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ"(22).
وعلى كلّ المسؤولين أن يأخذوا بنظر الاعتبار في قراراتهم ومواقفهم العناصر الثلاثة, وهي بحسب الإمام الخامنئي(دام ظله):
1 - المبادئ والأهداف.
2 - الاستراتيجيات العامة والكلّية.
3 - الواقع والواقعيات.
الذي أكد في معرض بيانه لعنصر المبادئ والأهداف: "هدف الجمهورية الإسلامية الإيرانية وطموحها هو خلق حضارةٍ إسلامية ومجتمعٍ متقدِّم من الناحية المادِّية والمعنوية. وقال: استراتيجيات الوصول إلى هذا الهدف معروفة ومشخصة. إنَّها استراتيجيات الاعتماد على الإسلام والنزعة الإسلامية، وملاحظة أن لا نكون ظالمين ولا مظلومين في علاقاتنا المختلفة، وإستراتيجية الإتِّكاء على أصوات الشَّعب، وإستراتيجية العمل والسعي العام، وإستراتيجية الوحدة الوطنية"(23).
أمَّا أهم الأساليب والخطوات العملية فهي:
1- أن يكون الإسلام هو المحور: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإسلام"(24).
وقال الإمام الخامنئي(دام ظله): "المهم بالدرجة الأولى هو أن تكون لنا أفكارنا وخارطة طريقنا وإيديولوجيتنا، ونعلم ما الذي نريد أن نفعله, ونُعيِّن رسم الأهداف.
من الأهداف المهمّة التي يتوجّب الاهتمام بها في هذه الثورات هو عدم خروج الإسلام عن المحوريّة، يجب أن يكون المحور هو الإسلام، الفكر الإسلامي والشريعة الإسلامية يجب أن يكونا محورًا"(25).
فالأنبياء بُعثوا لبناء المجتمع الإنساني، قال الإمام الخامنئي(دام ظله): "لم يأت الأنبياء لوعظ النَّاس فقط، بل الوعظ والتبليغ يعدّان جانبًا من عمل الأنبياء، جميعهم بُعثوا لبناء مجتمعٍ أساسه القِيَم الإلهية"(26).
2- تقديم الثقافة الإسلامية في أربعة مجالات:
"المجال الأول والأهم: هو المجال الفكري. يجب أن نأخذ المجتمع نحو أن يكون مجتمعًا مفكّرًا, وهذا درس من دروس القرآن. لاحظوا كم ترد في القرآن الكريم عبارات: ﴿ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾, و﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾, و﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾, و﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ﴾. علينا جعل تفجّر الأفكار والتفكير في مجتمعنا حقيقة واضحة جلية.
المجال الثاني: الذي تعدّ أهميته أقل من أهمية المجال الأول هو مجال العلم, يجب أن نتقدّم في العلوم.
المجال الثالث: مجال الحياة الذي سبق أن أشرت إليه، وتندرج فيه جميع الأشياء المطروحة في حياة المجتمع كقضايا أساس وخطوط أساس, من قبيل الأمن والعدالة والرفاه والاستقلال والعزة الوطنية والحرِّية والتعاون والدولة.. هذه كلّها أرضيات للتَّقدم, يجب متابعتها والخوض فيها.
المجال الرابع: وهو الأهم من كلّ هذه الأمور ويعدّ بمثابة الروح لكلّ هذه الأمور, هو التَّقدُّم في المجال المعنوي... يجب أن يتضح للجميع أن المعنوية لا تتعارض إطلاقًا لا مع العلم ولا مع السياسة ولا مع الحرية ولا مع الأمور الأخرى، إنما المعنوية هي روح كلّ هذه الأمور. يمكن بالمعنوية الوصول إلى قمم العلم وفتحها، بمعنى أن تكون هناك معنوية وقيم روحية ويكون هناك إلى جانبها تقدّم علمي. وحينئذٍ سيكون العالم عالـمًا إنسانيًّا، سيكون عالـمًا جديرًا بحياة الإنسان. والعالم اليوم هو عالم الغابة. العالم الذي يترافق فيه العلم مع المعنوية وتترافق فيه الحضارة مع المعنوية وتترافق فيه الثروة مع المعنوية سوف يكون عالـمًا إنسانيًّا(27).
3- الاستفادة من نتائج الملتقيات الاستراتيجية الأربعة(28) التي عقدتها الجمهورية الإسلامية. وقد بيَّنَ الإمام الخامنئي(دام ظله) أهدافها فقال: "إنَّ للجمهوريّة الإسلامية عدَّة أهداف أساسيّة من وراء إقامة ملتقيات الأفكار الاستراتيجية، والتي لا ينبغي لنا أن ننساها أو ندعها تغيب عن أعيننا. أحدها أنَّ البلد بحاجةٍ ماسّة في مجال المقولات المتعلّقة بالبُنية التحتيّة إلى الفكر والتفكير". وقد شارك في هذه الملتقيات نخبة من العلماء وأصحاب الرأي والمفكرين, وقدموا أوراق عمل مدروسة, وعقدوا جلسلت مطولة, واستفادوا من التجارب المختلفة, فأنجزوا وثائق استراتيجية مهمة لتهتدي بها الجمهورية الإسلامية الإيرانية في خططها وبرامجها للوصول إلى أهدافها. وهي:
أ- الملتقى الأول: النموذج الإسلامي - الإيراني للتقدُّم. والذي يهدف للوصول إلى ثقافةٍ توجيهية واحدة، ومفاهيم ناتجة عن الفكر الإسلامي، ورؤى فكرية أصيلة مستمدة من خصوصيات الجمهورية الإسلامية، بعيدًا عن التقليد والتَّبعية.
ب- الملتقى الثاني: العدالة. وهو موضوع كلّ المبادئ والأنظمة في العالم، والتي تعتبر منهجها ورؤاها هي التي تجسِّد العدالة. وكما هو معروف, فالصفة اللازمة للإسلام هي أنَّه دين العدل.
ج- الملتقى الثالث: المرأة والأسرة. التزم الملتقى بتوجيهات وقواعد الإسلام الأساسية التي تحترم المرأة وتستثمر طاقاتها وإمكاناتها، وترعى بناء الأسرة على الصلاح والاستقامة.
د- الملتقى الرابع: الحرِّية. موضوعٌ إشكالي كبير في عالمنا المعاصر, تُطرحُ عنه أسئلةٌ كثيرة: هل الحرِّية مُطلقة أو مُقيَّدة؟ فإذا كانت مُقيَّدة, فما هي الضوابط التي تحفظ كرامة الإنسان وتحافظ على حريَّته؟ وهل تتشابه الحرِّية من منطلق الإسلام مع الحرِّية من المنظور الغربي؟ ولماذا نرفض نموذج الحرِّية الغربية، وما هو البديلُ السليم؟
نجدُ الإجابات وفيرةً في الضوابط الإسلامية، التي أعطت للإنسان حريته, ولكنَّها قيدته في إطار الحلال والحرام بحيث يكون أداؤه منسجمًا مع الحدود الإسلامية، فلا ينساق مع هواه ورغباته التي تحرفه عن إنسانيته واستقامته.
وكذلك يمكن الاستفادة من وثيقة التحول البنيوي التربوي(29). التي عالجت شؤون التربية والتعليم، فوضعت قواعده وسياساته وآفاق المستقبل.
4- الاهتمام بالعلوم الإنسانية: عندما زار الإمام القائد(دام ظله) قم المقدسة، تحدّث بما يُشبه برنامج عمل الحوزات وتوجيه العلوم الإنسانية فيها وفي الجامعات، فقال:
"إنَّ من يتمكَّن من بيان أحكام الإسلام ونظريّته في باب النظام الاقتصادي وفي باب الإدارة وفي باب الحرب والسلم وفي باب القضايا التَّربوية وفي غيرها من الكثير من القضايا هو المتخصص الدِّيني والعارف بالدِّين. وإذا لم تجرِ تعبئة مكان هذا التنظير، وإذا لم يقم علماء الدِّين بهذا العمل، فإنَّ النظريات الغربية والنظريات غير الدِّينية والنظريات المادِّية ستملأ هذا الفراغ... إنَّ هذه العلوم الإنسانية التي تروَّج اليوم، فيها من المضامين ما يتعارض ويخالف بماهيَّته الحركة الإسلامية والنظام الإسلامي, وهو يعتمد على رؤية كونية مختلفة، ولديه مقولات وأهدافٌ أخرى. عندما راجت هذه الأمور تمَّ إعداد المديرين على أساسها، والذين هم أنفسهم من يتصدّى لشؤون الجامعات, ويقف على رأس اقتصاد الدولة وعلى رأس قضاياها السياسية والداخلية والخارجية والأمنية وغيرها وغيرها"(30).
وقال: "نحن بحاجة في مجال العلوم الإنسانيّة إلى البحث والتجديد. إنّ المواد والمفاهيم الأساسيّة، التي يتسنّى على أساسها إنتاج وصياغة الحقوق، والاقتصاد، والسياسة، وسائر الحقول الرئيسية في العلوم الإنسانية وعرضها، هي موجودة في الثقافة الإسلامية العريقة العميقة بالمعنى الحقيقي للكلمة، فلا بدّ لنا من الاقتباس منها. طبعاً، هنا يمكن للحوزة العلمية والأساتذة المؤمنين بالإسلام ممارسة دورهم عبر البحث والاستقصاء"(31).
5- الاعتماد على المباني الإسلامية في العلوم الإنسانية وتأليف الكتب، قال: "نقبل بالتلفيق بين العلوم الإنسانيّة الغربيّة والعلوم الإنسانيّة الإسلاميّة إذا لم تكن بمعنى الانبهار والانسحاق والخضوع مقابل تلك العلوم، فلا إشكال عندها. انظروا ماذا يقول لكم الفكر الإيمانيّ والتّراث العظيم والعميق الموجود عندكم في العلوم الإنسانيّة"(32).
وقال: "على الأساتذة وأصحاب الرأي والمحقّقين أن يسعوا لتدوين العلوم الإنسانيّة المتطابقة مع المباني الإسلاميّة؛ فلا تكون العلوم الإنسانيّة مبنيّة على أساس الفلسفات المادّيّة الخاطئة"(33).
وقال: "... الاهتمام الخاص بالتوجّهات الإسلاميّة في المواد الدراسيّة التي لها ارتباط بالمسائل القيميّة في الإسلام. ومثل هذا الأمر ينبغي أن يكون في العلوم الإنسانيّة من قبيل تلك العلوم التي استوردناها ولم يكن عندنا منها شيء كعلم النفس وعلم الاجتماع وما شاكل. إنّ هذا السعي لا يمكن أن يسري إليها ويجب القيام بعملٍ خاص"(34).
6- نقد النظريات الغربية وتدوين النتائج: "عندما تُطرح قضيّة فإنّها تتطلّب جواباً، إمّا منهم أو منّا؛ غاية الأمر، ما هو مهم شيئان: الأوّل، هو ضرورة تدوين هذا الجواب الذي نحمله ـ وهذا العمل ينبغي أن تقوموا به أنتم، أساتذة الحوزة والجامعات؛ فمن ينهض به(غيركم)؟! فهو ليس وظيفة الحكومة. الثاني، إيجاد الشجاعة لمناقشة المنهج الغربي الحالي الناشئ من الليبرالية الديمقراطية؛ فهذان الأمران ضروريّان. وكلاهما بأيديكم؛ بيد الأساتذة المتخصّصين في العلوم الإنسانيّة. وما ذُكر حول ضرورة وجود إدارة لهذا الأمر وتشكيلات خاصّة هو محلّ تأمّل؛ ويجب البحث بشأنه وهو كلامٌ صحيحٌ ـ بالحدّ الأدنى في إطاره الكلّي ـ لكن على أيّ حال العمل هو عمل أساتذة العلوم الإنسانيّة"(35).
7- تقوية العلم الديني والعلم المادي معًا: "... الذي يمكن أن يحفظنا مقابل هجوم الأعداء من جميع الجّهات وفي المستويات المختلفة هو هذه اللائحة التي عرضتها: تقوية الإيمان وتقوية العلم وتقوية التكنولوجيا والتسلّط على فنون العصر والرّيادة في إنتاج العلم، وتفتّح الاستعدادات والطاقات المحليّة والشبابيّة في الفروع المختلفة ـ سواء العلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعية أو أنواع العلوم التجريبية المختلفة ـ وحفظ الانسجام الوطني وتقوية روحية التّعاضد بين أفراد الشعب"(36).
8- وضع الهندسة الثقافية التي تطل على كامل المشهد الإنساني المعاصر وما نريد الوصول إليه: "إنّني في اجتماع المجلس الأعلى للثّورة الثقافيّة قلت للسّادة المؤثّرين في الثّقافة أنّ موقعكم في هذا البلد هو موقع المهندس الثقافيّ. لقد قلت في ذلك الاجتماع أنّه يوجد فرعان أساسيّان هما: العلوم الإنسانيّة والعلوم الأوّليّة؛ وكلٌّ له موقعه"(37).
ومن مستلزمات رسم المشهد الثقافي إيجاد المؤسسات العاملة في هذا الاتجاه: "إنّني أدعو المجلس الأعلى للثّورة الثقافيّة، سيّما رئيسه المحترم، أن يضع هذه الفكرة (المناظرات المؤطّرة بالقانون والمقرونة بإمكانيّة التحكيم وبمشاركة لجان تحكيم عمليّة أو في إطار فسح المجال أمام أصحاب النظريّات ومن ثمّ نقدها وتحليل نظريّاتها من قبل روّاد الفنّ) في مقدّمة أولويات عمله، من أجل الارتقاء بالعلوم الجامعيّة وممارسة النّقد للنّصوص المترجمة والانطلاق بمرحلة جديدة من الإبداع والانتاج في ميدان العلوم والفنون والحِرَف، سيّما في فروع العلوم الإنسانيّة وكذلك المعارف الإسلاميّة، لتتهيّأ الأرضيّة لهذا العمل الضّخم تدريجيّاً؛ لتقف جامعاتنا مرّة أخرى في مقدّمة صنّاع الحضارة الإسلاميّة والازدهار العلمي والإبداع التّقني والثقافي"(38).
6- خاتمة مستفادة.
الخطوة الأولى هي الإقناع بالمنهج كمبدأ وأصل وبداية، من بين المنهجين الاستراتيجين: الإلهي والمادي، بصرف النظر عن تشعباتهما, وتعدد التفاسير والتفاصيل داخل كل واحد منهما.
الخطوة الثانية بعد الإيمان بالمنهج الإلهي، تبيان الصورة الحقيقية للإسلام المحمدي الأصيل، وتعرية التجارب الخاطئة والمنحرفة والتكفيرية باسم الإسلام.
الاتجاه التكفيري نتاج تحالف المال السعودي والهيمنة الامريكية, والخطر هو التعليم الديني بطريقة منحرفة لأجيال الشباب الباحثين عن الخلاص الروحي والسياسي والاجتماعي, ويعود أهم أسباب انتشار هذه الظاهرة إلى الأداء التقليدي للعلماء من ناحية, وإلى انكفائهم عن حمل قضايا الأمة من ناحية أخرى.
القاعدة ومتفرعاتها ظاهرةٌ مضرةٌ بالاسلام والمسلمين, وهي حالة سياسية بغطاء ديني, يستخدمها حكامٌ ودولٌ لا يعنيهم الدين بل مصالحهم, كما يساهم التبرير التعصبي المذهبي للقاعدة في أعمالها الاجرامية والمخالفة لتعاليم الاسلام. ولولا الغطاء والرعاية الدولية والخليجية لما رأينا عناصرها مجتمعين في سوريا والعراق. علينا مواجهتها فكريًا وسياسيًا وجهاديًا, وبإمكاننا كشف انحرافها وهزيمتها, وهي مسؤولية جميع المسلمين وخاصة علماء الأمة والحركات الإسلامية, بل وكل أحرار العالم.
يمتلك مشروع المقاومة سلامة الاتجاه الفكري وحكمة الأداء العملي, في مقابل هزائم النصرة وداعش في جرود القلمون وعرسال كمؤشر على إمكانية هزيمة مشروع القاعدة ومن وراءها, كجزء من هزيمة المشروع الامريكي الاسرائيلي, والآن وقت العمل لإظهار الصورة المشرقة العظيمة للإسلام والمواكبة للحداثة, وفضح المدعين المسيئين له.
الخطوة الثالثة، الاستفادة من تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومن الأساليب والخطوات العملية التي عرضناها في هذا البحث، للقيام بعمل تثقيفي تربوي هادف وبنَّاء، يحاكي العقل ويصقل الروح، في الإطارين المعرفي والوجداني، بالاستفادة من المهارات والتقنيات والأساليب الحديثة التي يمكننا تسخيرها لخدمة مشروعنا، على قاعدة أن الأساس هو العمل على هذه النفس الإنسانية، قال تعالى: " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا"(39). وقد ربط الله تعالى بين العلم والتزكية فقال: " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ"(40).
وعن النبي(ص): "جاهدوا أهواءكم تملكوا أنفسكم"(41).
وعن الإمام علي(ع): "رأس الدين مخالفة الهوى"(42).
لا ينفع التلهي بتقديم بدائل جاذبة مقابلة جاذبية المادة وشهوة الجسد التي تحاكي هوى النفس، ولا ينفع رمي المشكلة على بُطء التجديد ومواكبة العصر، فما بأيدينا وما يمكننا إنجازه يساعدنا كثيرًا على تحقيق التقدم في هداية الناس إلى الإسلام، وما إقبال الجيل المعاصر على دين الله تعالى التزامًا وثورةً وجهادًا إلاَّ دليلٌ على توفر الكثير من مقومات الثقافة والتربية في هذا المجال، لكنَّ المطلوب منّا أن نثابر ونُبدع، وأن نهتم بالمهارات العملية لتحقيق الأهداف, وقبل ذلك أن نعلم بأن البداية ثقافية تربوية قبل أي شيء، "وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى"(43).