كلمته في ندوة مكتبة الشيخ بهاء الدين العاملية العامة حول كتابه "في رحاب رسالة الحقوق"
الكلمة التي ألقاها في الندوة التي أقامتها مكتبة الشيخ بهاء الدين العاملي العامة حول كتابه "في رحاب رسالة الحقوق" - شرح رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (ع) والتي أقيمت في مجمع الصادق (ع) - طريق المطار، بحضور حشد من الفعاليات العلمائية والثقافية والسياسية.
وكانت كلمات لكلٍّ من ممثل آية الله العظمى المرجع السيد علي السيستاني في لبنان الحاج حامد الخفاف والدكتور ميشال كعدي.
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق مولانا وحبيبنا وقائدنا أبي القاسم محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وصحبه الأبرار المنتجبين.
السلام عليكم أيها السادة العلماء، أيها الأخوة والأخوات ورحمة الله وبركاته.
في البداية كل الشكر لإدارة مكتبة الشهيد العاملي على هذا الجهد القيِّم، الذي جمع نخبةً من المفكرين والمثقفين الذين يتصدون للشأن العام، كما الشكر لمجمع الإمام الصادق(ع) على رعايته لإحياء التراث الإسلامي والتدقيق في معالمه و...ونتائجه.
سأتحدث قليلًا عن الإمام زين العابدين(ع) من خلال رسالة الحقوق وهي الرسالة التي اشتهر بها ولكنها ليست مشهورة بالقدر الكافي في أوساطنا، وهو بسبب النقص والضعف والتقصير في محاولة وضع هذه الرسالة في متناول أيدي الناس.
اشتهر الإمام الرابع من أئمة أهل البيت(عم) زين العابدين علي بن الحسين(ع) - الذي ولد في 5 شعبان 38هـ, واستشهد مسموماً في 25 محرم سنة 95هـ- بأسلوبه التربوي النموذجي الهادف، من خلال الدعاء والمواعظ والحِكَمْ، وترك لنا رسالةً قيمة في الحقوق، التي شملت شبكةَ علاقات الإنسان الثلاثة، مع ربِّه ونفسِه ومجتمعه، فوصل عدد الحقوق إلى خمسين حقاً، لخَّصها الإمام(ع) في مقدمة الرسالة, بتعدادها مبيِّناً الصلة فيما بينها، بحيث تبدأ من الحق الأول وهو حق الله تعالى، وتصل إلى الحق الأخير، وكأنك أمام شجرة تتدلى أغصانها وتتواصل فيما بينها لتصمم حركة الإنسان في حياته ومجتمعه بشكل متكامل بأبعاده الثلاثة في علاقته مع ربه ومع نفسه ومجتمعه. ثمَّ فصَّلها بفقرة مستقلة لكلِّ حق، موضَّحاً فيها أبرز معالم الحق المقصود، فنتج عن ذلك دستورٌ في تنظيم العلاقات الاجتماعية، على هدي الإسلام، يحفظ حقوق الفرد، ويُرشِده إلى كيفية حفظ حقوق الآخرين، بما يحقِّق له إنسانيته وسعادته في الدنيا وثوابه في الآخرة".
كتب الإمام زين العابدين(ع) إطلالة موجزة لا تتجاوز الصفحتين، شرح فيها المدخل إلى الحقوق الخمسين، ثم بعد ذلك أخذ يشرح كل حق على حدى، فكان المجموع خمسين حقاً من الحقوق المختلفة التي تتناول جوانب حياة الإنسان، بحيث يصعب أن تجد جانباً لم يتحدث فيه الإمام (ع) عن حقوقه.
يقول الإمام (ع): "اعلم رحمك الله أنَّ لله عليك حقوقاً محيطة بك في كل حركة تحركتها، أو سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها، أو آلة تصرفت بها، بعضها أكبر من بعض".
"وأكبر حقوق الله عليك، ما أوجده لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصل الحقوق (ومنه تفرع حق الله)، ثم أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف الجوارح (من حقوق النفس)، فجعل لبصرك عليك حقاً، ولسمعك عليك حقاً، وللسانك عليك حقاً، وليدك عليك حقاً، ولرجلك عليك حقا، ولبطنك عليك حقاً، ولفرجك عليك حقاً، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال".
"ثم جعل عزَّ وجل لأفعالك عليك حقوقاً، فجعل لصلاتك عليك حقاً، ولصومك عليك حقاً، ولصدقتك عليك حقاً، ولهديك عليك حقاً، ولأفعالك عليك حقاً"، (هذه حقوق الأفعال)، أيضاً كتبت جزءاً يتعلق بحقوق الأفعال انسجاماً مع هذا السياق.
هنا ينتقل الإمام من حقوق النفس إلى حقوق الآخرين، "ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك، وأوجبها عليك حقوق أئمتك، ثم حقوق رعيتك، ثم حقوق رحمك، فهذا يتشعب منها حقوق".
وعندما انتهى الإمام(ع) من التقسيمات قال: "ثم حق مولاك المنعم عليك ليُعدد باقي الحقوق التي هي 26 حقاً".
أعتقد أن الإمام أراد أن يبوِّب ويُمنهج الفكر الإسلامي ليقدمه في مجالاته التربوية المختلفة خالياً من الشوائب، ومنسقاً بطريقة تصل معها إلى كل الأطراف وسط كل الجماعات الموجودة في المجتمع الإسلامي، لعلَّنا نفهم من الدعاء اعتراضاً على السلطان بطريقة الدعاء، لكني لم أفهم من رسالة الحقوق طريقة اعتراضية، إنما فهمت منها تنسيقاً وتبويباً لتسهيل تناولها من قبل المسلمين ومن يمكن أن يأتي من بعدهم، وفي كل الأحوال تميَّز الإمام زين العابدين(ع) بأدائه التربوي والتوجيهي الذي برز من خلال أدعيته من ناحية, ومن خلال رسالة الحقوق الرسالة المميزة من ناحية النقاط.
وقد لفتني في هذه الكتابة الأسلوب المعاصر الذي يتحدثون عنه اليوم، حيث يكتبون ملخصاً عن البحث في المقدمة، ثم يكتبون البحث بكامله ويقولون بأن هذا هو الأسلوب الحديث، هكذا فعل الإمام زين العابدين(ع) منذ ألف وثلاثمائة وخمسين وسنة، فكتب إطلالة سريعة لا تتجاوز الصفحتين، شرح فيها المدخل إلى الحقوق الخمسين التي فصَّلها لاحقًا.
يرسم الإمام زين العابدين(ع) في هذا التلخيص الخارطة التي يريد أن يوصلنا إليها، فيبدأ بحق الله، ثم حق النفس، ثم حقوق الآخرين، ثم يربط بين هذه الحقوق لتتكوَّن الشخصيةُ المنسجمةً مع دقة هذه الحقوق الموزعة على الجوانب المختلفة في حياة الإنسان، وهذا من أروع ما يمكن أن يُكتب في تنسيق الكتابة وتقديم الفكرة بما يستوعب حياة الإنسان بأكملها. الإمام زين العابدين(ع) منهجي، وقد كتب بأحدث طرق الكتابة التي لا يرقى إليها المعاصرون.
وفي التفصيل عن الحقوق لم يشرح كل التفاصيل فهي موجودة في السنة الشريفة، في أقوال وأفعال النبي(ص)، وأقوال وأفعال الأئمة(عم)، لكنه اختار من كل حق دعائمه الأساسية التي لا يستقيم الحق إلاَّ بها، فكتب الحق في أربعة أو خمسة أسطر وهي التي تمثل الأسس التي ترتكز عليها كل التفاصيل الأخرى، وهي قواعد التشريع الإسلامي لهذا الحق.
وأيضاً لفتني أن الإمام (ع) سبق حقوق الإنسان العالمية بألف وثلاثمائة وأربعين سنة، وهذا السبق يدل على عظمة الإسلام في مراعاة إنسانية الإنسان والبحث عن حقوقه، وعظمة الإمام السجاد(ع) في تقديم هذه الأطروحة التربوية الرائدة.
أمَّا الحقوق التي يتشدقون بها، وأقرتها الأمم المتحدة فهي حقوق التلطيف للمادية البغيضة التي انتشرت في هذا العالم من خلال الرأسمالية أو الأفكار الأخرى...وأمَّا الحقوق التي طرحها الإمام زين العابدين(ع) فهي من صلب الإيمان، وتكتسب موقعها الشرعي، بحيث يكون الإنسان آثماً لو لم يلتزم بهذه الحقوق، فالمسألة غير اختيارية ولا انتقائية لمن يلتزم بشريعة الله المقدسة.
يطل علينا الإمام(ع) بحقوقٍ تراعي تكوين الإنسان في توازن راقٍ بين الجسد والروح، فتجد في كل حق حالة روحية مندمجة مع التنظيم المادي لحياة الإنسان. بينما حقوق الإنسان عند الأمم المتحدة خالية تماماً من أية مسحة روحية، وهي لقواعد وقوانين مادية بحتة.
يمكننا القول بأن حقوق الإنسان على مستوى العالم اليوم أغرق في المادية إلى درجة سلطت الضوء على تفلت جسد الإنسان بلا ضوابط، ليغرق الإنسان في لذته وجسده، ثم بعد ذلك يضيع مما يُخطط له في السياسة والاجتماع وإدارة العالم، إنَّهم يلهوننا بالحديث عن حقوق المرأة وتشريعات تؤكد على حقها في التعالم والتملك والقرارات وكل ما هنالك، لنُفاجئ بعد ذلك أنها تُسحق في الإعلام وفي طريقة الدعاية، وفي الاستثمار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وتُخرج من خدرها وتعطل أسرتها، ولا نكون أمام حقوقٍ حقيقية إنما أمام امرأة خرجت من خدرها إلى ساحة المجتمع لتضيع فيه باسم حقوق الإنسان.
وهذا ما نراه بالنسبة للإنسان بشكل عام، ولو أردنا أن نرى التطبيقات العملية لوجدنا الكوارث، أين حقوق الإنسان في سلوك أمريكا في التعاطي مع الأمم المختلفة؟ أين حقوق الإنسان الذي ترعاه أوروبا وتتحدث عنه؟ بينما نرى أتباع الإمام زين العابدين(ع)ن، أتباع الإسلام الأصيل يتفوقون بأخلاقية عالية في الموقع السياسي والجهادي والعملي، ويقدمون رحمة الإسلام كما ورد في تطبيق عملي يلامس خط النبي(ص) والأئمة(عم). وهذا ما فضح المدَّعين للإسلام، فضح التكفيريين الذين لا علاقة لهم ولا يمتون بصلة إلى الإسلام المحمدي الأصيل الذي سلكناه وتعرفنا عليه، فالدين رحمة وبناء وسعادة ودنيا وآخرة، بينما عندما لا نجد هذه المعاني في أي طرحٍ من الطروحات نجده مرميًا وخالٍ عن القدرة والتأثير.
الإمام زين العابدين(ع) مدرسة في التربية, ونحن بحاجة أن نوصلها إلى كل بيت، وأقول أكثر من هذا: لا أستطيع أن أتعقل أن تكون بيوتنا خالية من رسالة الحقوق للإمام زين العابدين(ع)، ولا أتحدث عن المجلد وإنما عن الرسالة نفسها، لأنها في الواقع مدرسة قائمة بذاتها وفيها الكثير من الدقة.
ارتأيتُ تسهيلَ تناول هذا السِفر العظيم مشروحاً بيسرٍ للشباب وعموم الناس، فكان إصداره سبعة أجزاء، تناول كل جزء منها مجموعةً من الحقوق المتجانسة مع بعضها، ليتمكَّن القارئ من تناول موضوعه المحدَّد من أحد هذه الأجزاء، فانتهت سلسلة شرح "رسالة الحقوق" الخمسين إلى سبعة كتيبات بالترتيب التالي:
1- حقوق الجوارح: 7 حقوق.
2- حقوق الوالدين والولد: 4 حقوق.
3- حقوق الأفعال: 4 حقوق.
4- حقوق الزوج والزوجة: حقٌ واحد.
5- حقوق المعلم والمتعلم: حقَّان.
6- الحقوق الثلاثة: 14 حقَّا.
7- حقوق الناس: 18حقَّا".
وقد ضمّيتُ أجزاء السلسلة في كتاب واحدٍ مجلَّد باسم "في رحاب رسالة الحقوق"، فبلغت صفحاته 928 صفحة من الحجم الكبير.
كتبنا المحتوى العام لكل الأجزاء قبل مقدمة الكتاب، وبما أنَّنا كتبنا في ترويسة الصفحات اسم الجزء والعنوان الفرعي للموضوع، فبالإمكان الوصول بسهولة إلى الجزء المقصود, ثم إلى الموضوع, من خلال رقم الصفحة الموجود في المحتوى العام.
اعتمدت في الكتاب على حشد كبير جداً من الآيات والروايات كأدلة تفصيلية لكلام الإمام زين العابدين(ع) كي لا يكون شرحي هو المقياس، وإنما ما أنقله على النبي وآل محمد(عم)، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
واختم بأن اسمها رسالة الحقوق، وقد اعتدنا على المستوى الشرعي أن نتحدث عن الواجبات، وهنا يتحدث عن حقوق وليس عن واجبات، لينقلنا من إطار الإلزام بالواجب إلى إطار التطوعي لإعطاء الحق، فإعطاء الحق ألطف بكثير من الإلزام بأداء الواجب، وهذا هو ديدن الشريعة المقدسة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.