محاضرات

الفتنة وكيفية درئها / المحاضرة الكاملة في الليلة العاشرة من عاشوراء في 3/11/2014

الفتنة وكيفية درئها / المحاضرة الكاملة في الليلة العاشرة من عاشوراء في 3/11/2014
الفتنة وكيفية درئها

المحاضرة الكاملة التي ألقاها في قاعة الجنان - طريق المطار

الفتنة وكيفية درئها


بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق مولانا وحبيبنا وقائدنا أبي القاسم محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، والسلام عليكم أيها الحسينيون والزينبيات ورحمة الله وبركاته.
السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، وعلى الشهداء الذين قدموا لمسيرة الإسلام المحمدي الأصيل منذ آدم إلى قيام إلى يوم الدين.
كيف نواجه الفتنة؟ وكي نعرف طريقة مواجهتها لا بدَّ أن نعرف الفتنة، لنعلم ما نواجه؟ وما هي الحقوق التي نتمثل فيها؟ وما هي عوامل القوة وعوامل الضعف التي تحيط بالفتنة؟
1- معاني الفتنة.
 روى النعماني بأن أمير المؤمنين الإمام علي(ع) سُئل عن المتشابه من الفتنة، لأن كلمة فتنة وردت في القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة، وكل آية فيها معنى قد يختلف عن المعنى الآخر، ولذا كان سؤال السائل: ماذا في المتشابه من الفتنة، فقال(ع): "منه فتنة الاختبار، قوله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ. وقوله لموسى (ع): وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً" هنا الفتنة بمعنى الاختبار وهو المعنى الأصلي لفتنة، بحيث عندما نتحدث عن أي أمرٍ فيه اختبار للإنسان في هذه الحياة الدنيا فهو فتنة، فالفتنة اختبار وامتحان.
 "ومنه فتنة الكفر، قوله تعالى:  لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ . وقوله تعالى: " وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ" يعني ها هنا الكفر. وقوله سبحانه في الذين استأذنوا رسول الله (ص) في غزوة تبوك أن يتخلفوا عنه من المنافقين، فقال الله تعالى فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ".  وهنا الفتنة بمعنى الكفر، يعني عندما يميز رب العالمين بين الفتنة والقتال يتبين أن الفتنة أشد من القتل وأن الفتنة أكبر من القتل، فذاك الذي يدعي أن القتل والقتال هو أمرٌ منبوذ لديه الجواب الإلهي أن الكفر منبوذٌ أيضًا، ولذا القتال مشروعٌ في مواجهة الفتنة التي هي فتنة الكفر.
 "ومنه فتنة العذاب، قوله تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ، أي يعذبون, ويقول تعالى: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ، أي ذوقوا عذابكم، ومنه قوله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، أي عذبوا المؤمنين. وهنا الفتنة بمعنى العذاب وهي تشمل الكافرين في يوم القيامة، فهذا العذاب يُقال له فتنة.
 ومنه فتنة المحبة للمال والولد، قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ، أي إنما حبكم لها فتنة لكم". بمعنى أن الإنسان إذا تعلق بالمال والولد وكان هذا التعلق سببًا للانحراف بسبب تلك العلاقة العاطفية الخاصة للتمسك بالولد على حساب الشريعة، والتمسك بالجاه على حساب الشريعة، فهذه فتنة يسقط فيها الإنسان الذي يُبتلى بهذا البلاء. أما الإنسان الذي لا يبتلى بهذا البلاء فتكون هنا الفتنة اختبار لأنها في نهاية المطاف تعود إلى أصلها.
 "ومنه فتنة المرض، وهو قوله سبحانه: أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ، أي يمرضون ويعتلون"، فهنا الفتنة هي فتنة المرض.
 بيَّن أمير المؤمنين علي(ع) خمسة نماذج من نماذج الفتنة، هي: الاختبار والكفر والعذاب وكذلك المحبة للناس والأولاد وفتنة المرض. والأصل في النماذج كلها هي فتنة الاختبار، هذه ليست المعاني الحصرية للفتنة لأننا إذا أردنا أن نتوسع ونعطي أمثلة إضافية للفتنة أيضًا نجد معانٍ أخرى قد تكون لإحدى هذه المعاني الخمسة أو تعود إلى الأصل الذي هو فتنة الاختبار، ولكن من المفيد أن أشير لكم إلى معانٍ إضافية لتوضيح الصورة أكثر حتى نفهم هذا المصطلح وكيفية التعاطي معه من موقع الإسلام.
 قال تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ"، الخير فتنة والشر فتنة، الخير اختبار والشر اختبار، إذا منحك الله تعالى مالًا فهو خير، ولكنه اختبارٌ لك كيف تتصرف بهذا الخير، فإن نجحت وتصرفت بصرفه في محله الصحيح على العيال والطعام والشراب والأمور المحللة فقد نجحت في الخير، وإذا استعملت هذا المال في القمار أو في شراء المحرمات أو شراء الضمائر والإساءة وما شابه ذلك فقد حولت اختبار الخير إلى فشل من خلال طريقة التصرف. إذًا فتنة الخير هي اختبار الخير الذي يعطيه الله تعالى للإنسان.
 كذلك فتنة الشر اختبار، فإذا حصل معك أي نوع من أنواع الشرور كأن تتعرض لاعتداء، كيف ترد على هذا الاعتداء؟ قد ترد على هذا الاعتداء بالدفاع وتكون قد نجحت في فتنة الشر، وقد ترد عليه بالقتل والإيذاء وما لا يجوز لك وتكون قد وقعت في خدمة الشر. وهكذا يكون تفسير فتنتي الخير والشر بفتنة الاختبار التي هي الفتنة العامة التي تحدثنا عنها.
 كذلك يقول تعالى: "لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ"، هذا الاختبار لا يكون اختبارًا أحيانًا إلاَّ إذا وقع لمن في قلبه مرض أو كان قلبه قاسيًا، فتكون أمورًا عادية ومتاحة في هذه الحياة الدنيا ولكن الذي في قلبه مرض يفتتن بهذا الأمر الذي منحه الله إياه والذي يفترض أن يتعامل معه بشكل عادي وطبيعي: الأسرة والأولاد والحياة العامة وطبيعة العلاقات الاجتماعية، فإذا كان في قلبه مرض أساء في هذه جميعًا بطرق مختلفة من الإساءة الاجتماعية، والتربية والعلاقات داخل الأسرة وكل ما هو محرم، هذا فشلٌ بسبب قسوة القلب وبسبب المرض الموجود في قلب الإنسان.
 وهناك نوع آخر لطيف جدًا في رحمة الله تعالى بعباده، يقول تعالى: "رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"، فعندما يكون هناك صلاح واستقامة وجهاد وطاعة لله تعالى يصبح هذا النور مقياسًا، فالذين لا يلتزمون بهذا النور ولا يعملون معه ولا ينضوون تحت لوائه ولا يساعدونه يسقطون في الامتحان، فيكون المؤمنون فتنة للكافرين، فنحن لا نرغب أن نكون فتنة للكافرين فليفتتنوا بأموالهم وأولادهم وبمشاكلهم الخاصة ، لأن المؤمنين فتنة لهؤلاء.
 إذًا الفتنة بشكل عام هي اختبار وامتحان، وهي تعرض الإنسان لإمكانية النجاح وإمكانية الفشل بحسب مواجهتها إضافة إلى المعاني الأخرى التي تلتقي بشكل أو بآخر بهذا المعنى.
2- ما تحدثه الفتنة.
 لماذا هي فتنة؟ يمكن أن نقول أنها اختبار! لكن يوجد عنوان إضافي وأساسي في الفتنة، بحيث يتشوش الناس في فهمها، ويضيع الناس في التمييز حينها بين الحق والباطل، بين الصلاح والفساد، بين الاستقامة والانحراف، يقول أمير المؤمنين علي(ع): "إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ - وإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ - يُنْكَرْنَ مُقْبِلَاتٍ - ويُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ".
 يقف الإمام الحسين(ع) فيقول: "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله(ص)"، فالإمام الحسين إمام قائد وسيد شباب أهل الجنة، وهو لا يريد أن يعطي البيعة لخليفة فاجر وفاسق ، وجماعة يزيد يقولون بأن يزيد خليفة المسلمين، وتمَّ اختياره وفق الضوابط المعروفة، وبالتالي إذا كل واحد (يطلع ويعطي رأيه بخليفة المسلمين هذا يعجبه وهذا لا يعجبه وينعدم الانتظام العام) فعلى جميع المسلمين أن يلتزموا بأمر خليفة المسلمين وأن يكونوا معه مهما كان مقامه ومهما كان موقعه. ومثل إضافي: الإمام علي(ع) كان يعتبر أنه هو أحق بالخلافة بعد رسول الله(ص)، والإمام الحسن(ع) كان على خلاف مع معاوية وبقي تحت خلافة معاوية 10 سنوات فما الذي حدث الآن لتتغير الأمور، فالفكرتان تُضيِّعان الناس، هنا إذا أقبلت الفتنة شبهت، فالبعض من المسلمين يعيشون حالة إرباك: نكون مع هذا الاتجاه أو ذاك الاتجاه، هنا توجد أدلة وكذلك الأمر في الطرف الآخر، (طبعًا الأمر لا يسري على الجميع فهناك أناس يعرفون الحق وساروا معه). والمشهد الدقيق هو موقف الحر الرياحي الذي أتي لقتال الإمام الحسين(ع) فتبين له أن هناك معطيات مختلفة وكان هناك حالة تشبُّه في فتنة تشبهت له، ولكن الله تعالى أنجاه وعرف الحق في الوقت الصحيح وكان من جند الإمام الحسين(ع).
 "وإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ"، وعندما تنتهي الفتنة يستيقظ الناس، ويتساءلون: ماذا فعلنا؟ مثل التوابون أين كانوا عندما كانت فتنة يزيد موجودة، وعندما كان قتال الإمام الحسين(ع)، والنداءات كان تصل إلى الأمصار والرسل والكتب، أين كانت كل هذه الأمور؟
 "يُنْكَرْنَ مُقْبِلَاتٍ - ويُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ"، فإذا أقبلت الفتنة تُنكر ويقولون بأن لا فتنة، وعندما تنتهي الفتنة وينتهي وقتها وتظهر نتائجها تقع الحسرة والندامة.
 فالفتنة عادة تشبِّه لعامة الناس الذين ينقادون، والانقياد يحصل إما لعلماء الأمة، أو لقيادات الأمة، أو للصراع الموجود، ونحن نعرف أنه عبر التاريخ دائمًا هناك صراعات على مستوى الأمة "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيء إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" فنصل إلى حد أن يقتتل المؤمنون مع بعضهم البعض كما حصل في محطات تاريخية كثيرة، ورأينا أن قسمًا من المسلمين انحرفوا إلى مكان آخر، وفتنة الخوارج من أكبر الفتن التي مرت في التاريخ، وكانوا يقولون: لا حكم إلاَّ لله، فالشعار مليء بالإسلام والطاعة والعبادة لله تعالى، ولكنه فارغ من المحتوى لأنه في المقابل هناك القائد الإسلامي العظيم أمير المؤمنين علي(ع) الذي حدَّد الموقف وعليهم أن يطيعوه، إما لأنه خليفة للمسلمين وهذا واجب عليهم من زاوية الخليفة وإما لأنه حكيمٌ في موقفه وهو إمام الأمة وعليهم أن يطيعوه، ولكن الطرف الآخر تمرد عليه وقاتله.
 نعوذ بالله تعالى أن نعيش مثل هذه الحالات، ولكن هذه الحالات تتكرر على مستوى الحياة الفردية والأمة، والفتن الخطرة هي فتن الأمة والتي تأخذها إلى مسار يختلف عن المسار الآخر، واليوم مثلًا عندنا فتنة التكفيريين وهي فتنة موجودة قائمة، فتنة التكفيريين الذي يدَّعون أنهم يقيمون حكم الله تعالى على الأرض بأدلة وعقيدة وبإثباتات معينة، ويتكلمون بالآيات القرآنية، ويفكرون على قاعدة أنهم يحملون الإسلام، هذه فتنة وهناك أناس يلتبس عليهم الأمر، وبالتالي يزوَّر عليهم.
3- مسبِّبات الفتن.
 يقول أمير المؤمنين علي(ع) ويشرح كيف تبدأ الفتن، لأننا إذا عرفنا كيف تبدأ الفتن نعرف كيف نواجهها، يقول(ع): "إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ - يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّه - ويَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّه - فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ - لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ - ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ - انْقَطَعَتْ عَنْه أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ - ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ - فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه - ويَنْجُو "الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّه الْحُسْنى"، تبدأ الفتن من أتباع الهوى من سلطة ومال وغرائز، أو أحكام تبتدع فيفتش على حكم إسلامي ويروِّج لهذه الأدلة ويدلس على الناس أن هذا هو الموقف الحق، فلا يكون شيئًا لله تعالى وإنما الاستخدام هو لآيات الله تعالى مع مخالفة كتاب الله تعالى، فلو كان الحق واضحًا والباطل واضحًا لما التبس على الناس ولكن عندما يمتزجان بشيءٍ هناك يخفى على الناس الحق ويلتبس عليهم، وهنا ينقسم الناس قسمان: أولياء الشيطان يأخذون اتجاه الانحراف من الفتنة، والذين سبقت لهم منا الحسنى من المؤمنين يأخذون جانب الحق ويقدرون على التمييز بين الحق والباطل فلا يقعون في هذه الفتنة التي وقع فيها الآخرون.
 إذًا الفتنة اختبار بشكل عام، والفتن إذا أقبلت شبَّهت، وحصل اختلاط في المفاهيم بحيث أننا نحتاج أن نتعامل مع هذا الاختبار الخاص بالتشبه بالمفاهيم لكيفية مواجهته ومواجهة من يحملون الفتن.

4- مواجهة الفتن.
 اخترت أربعة أساليب لمواجهة الفتن، وطبعًا مستفادة من التاريخ والتجربة والروايات والآيات المختلفة:
 الأسلوب الأول: توضيح الهدف بناءًا على المباني المستقيمة: علينا دائمًا أن نبيِّن ما هو الحق؟ وما هو الهدف؟ وما هي القناعات؟ بالمفردات السهلة والبسيطة التي يفهمها الناس حتى ولو لم يؤمنوا بها. لماذا نقاتل إسرائيل؟ لأنها معتدية وتأخذ الأرض وستأخذ أرضًا أخرى وستطردنا من بلداننا فإذًا نحن نقاتلها. فيقولون: أنتم تقاتلون لمصلحة النظام السوري أو النظام الإيراني. نحن الذين نقاتل وندفع الأثمان مباشرة وكسبنا النصر بشكل مباشر. يقولون: لا، السلاح الموجود بين أيديكم هو من أجل السيطرة على السنة في البلد لأنه سلاح شيعي، نقول: أين استخدم هذا السلاح في مقابل السنة؟ وما علاقة السنة بالأسباب التي نطرحها؟ نحن نواجه إسرائيل والتكفيريين والانحراف ولا مرة قلنا بأننا نواجهكم أو دخلنا بمعركة معكم وكنتم مقابلنا! ولا مرة كنتم الهدف بالنسبة إلينا. توضيح الهدف والأمور يجب أن يكون موجودًا حتى نتمكن من المواجهة.
 قال ابن زياد لمسلم: لقد خرجت على إمامك، وشققت عصا المسلمين، وألقحت الفتنة.
فأجاب: كذبت يابن زياد، إنما شقَّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وإنما الفتنة ألقحها أنت وأبوك، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يد شر بريته".(معاوية الذي خرج عن طاعة أمير المؤمنين علي(ع) عندما كان خليفة للمسلمين وبالتالي بدأت المشكلة من هناك وأنا اتخذ موقفًا يمتد من معاوية إلى يزيد). فالمطلوب أن يتوضح الهدف ويتبين للناس.
 أعلن الإمام الحسين(ع) للجميع "إني خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله(ص)" وبيَّن "أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي"، ذكر الأهداف، وذكر أن الذي يواجهه قاتل وفاسق وفاجر وشارب للخمر... إلى آخر الصفات المذمومة، فهو يُبيِّن للأمة الهدف. فعلينا في أي مرحلة من المراحل أن نبين الهدف وبعبارات وتوضيحات نأمل على الأقل أن يفهمها المحايدون، أو المضلّلون بنسبة قليلة حتى تنقشع الغشاوة عنهم.
 كان يصف أمير المؤمنين علي(ع) النبي(ص) في نهج البلاغة فيقول: "بَعَثَه والنَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ - وحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ - قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ - واسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ - واسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ"، الله تعالى بعث رسوله محمد(ص) والناس لا يعرفون الحق من الباطل، فأتى الرسول الأكرم(ص) ليستنقذهم من فتنة الضلال التي كانوا عليها، من هنا كان توضيح الهدف أمر أساس.
 الأسلوب الثاني: الصبر وعدم الانجرار أو الاستفزاز الذي يسببه الخصم أو العدو: فمشكلة الفتنة أن جماعتها(يطيروا عقل الواحد)، فيستفزون ويحشرون حتى يدخل في مشروعهم،  عليك أن تنتبه وعليك أن تصبر لأن الصبر يعطِّل الفتنة، لاحظوا ما قام به أمير المؤمنين علي(ع) بعد تنصيب الخليفة الأول، أبو سفيان هو الذي عرض على الأمير وقال أنك أحق بالخلافة وأنا معك فيما تريده، أبو سفيان سيساعد الإمام علي(ع) ليأخذ الحق ويصبح خليفة بدل الخليفة الأول؟! الأمير(ع) تعامل معه بالحسنى، وهناك عدد كبير من الناس شجَّعت الأمير على هذا الأمر، فقد ظهر للأمير(ع) أن الإخراج الذي حصل في تنصيب الخليفة الأول والظروف الموضوعية وطبيعة الواقع الإسلامي تجعل قبول المسلمين لما جرى أكثر بكثير من قبولهم لحربه على ما جرى، وثانيًا: ليس معلومًا لمن تكون الغلبة في هذه الحرب، وبالتالي تُفتت الدولة الإسلامية فيربح وقتها الأعداء، لأن المسلمين سيتقاتلون مع بعضهم البعض والأعداء يتربصون.
 العبارة المشهورة للأمير(ع) من أجمل العبارات: "والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جورٌ إلاَّ عليَّ خاصة"، فأنا أقبل أن لا أكون في الخلافة، وأقبل أن لا أقوم بهذا التكليف الذي أعتقد بأني أنقذ المسلمين فيه، لكن أن أخوض في دماء المسلمين وأخرب واقع الدولة الإسلامية الفتية، فهذا أمر لا أقوم به، فالصبر في مثل هذه المواقف أصعب بكثير من القتال.
 يقول الإمام علي(ع) في توجيهاته: "كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ - لَا ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ ولَا ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ"، كن في الفتنة  كابن الناقة عمره سنتين، لا تقدر أن تركب عليه لأن لا طاقة لديه لحملك، ولا تقدر أن تأخذ منه الحليب لأنه غير مهيأ لهذا الأمر ولم يصل إلى سن البلوغ، فلا تدع أحد يستخدمك، ولا يشجعك ويدفعك لأمور تورطك ثم تجد أن الأمور في محل آخر.
 كتب معاوية إلى الحسين(ع) أنَّه سمع عنه كلاماً ضده، وهذا ما يمكن أن يؤدي إلى الفتنة، وإلى ما لا تُحمد عقباه، فردَّ عليه الإمام الحسين(ع) بكتاب جاء فيه:
  "أما بعد، فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنَّه انتهت إليك عني أمور: ... ألستَ قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين الذين كانوا يستفظعون البدع،.. أوَلستَ بقاتل عمرو بن الحمق الذي أخلقتْ وأبلتْ وجهه العبادة؟ .. أوَلستَ المدَّعي زياداً في الإسلام(زياد ابن أبيه)، ..  أوَلستَ قاتل الحضرمي, الذي كتب إليك فيه زياد أنَّه على دين علي(ع)... وقلتَ فيما قلتَ: لا ترد هذه الأمة في فتنة. وإني لا أعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها".
 فالإمام علي(ع) كان ملتفتًا تمامًا، عشر سنوات في حكم معاوية والإمام الحسين(ع) لم يتحرك عسكريًا، لأن الإمام الحسن(ع) استشهد في سنة 50 للهجرة، وثورة كربلاء في سنة 61 للهجرة، ففي حكم معاوية كان المسلمون في حالة رخاوة بسبب طريقة حكمه، فالمواجهة مع معاوية في هذه الفترة لا تعطي الثمار المطلوبة وسيُقال بأن الإمام(ع) خرج على خليفة زمانه.
 عندما أراد الإمام الحسين(ع) مواجهة يزيد سار بخطوات فيها من الحكمة والصبر، في المدينة المنورة اتبع طريقة عدم الإجابة في بداية الأمر وبعدها أجاب وخرج من المدينة المنورة، وفي مكة المكرمة الوالي يريد أن يعطي الأمان للإمام الحسين(ع)، هناك من نصحه بالذهاب إلى مكان آخر ومنها اليمن، فالإمام لم يكن هدفه الاختباء وأن يحمي جسده ونفسه، هدفه هو كشف يزيد وأعماله، فالأمر بحاجة إلى صبر حتى تقع الحرب في وقتها وليس قبل ذلك، ولذلك ترك مكة المكرمة حتى لا يُقتل هناك ويضيع دمه بين العرب.
 رأى زهير بن القين في مرحلة من المراحل أن عدد الجماعة الذين حضروا إلى كربلاء لقتال الحسين(ع) لا يتجاوزون الألف ومقدورٌ عليهم، فطرح على الإمام الحسين(ع) أن يبدأهم القتال لأنهم قلة، فلم يقبل الإمام(ع)، وفي الروايات عندنا أن الإمام(ع) قال: لا نبدأهم بقتال، هذا صحيح وهي نظرية إسلامية صحيحة، ولكن هناك حكمة أخرى وراء ذلك: المصلحة أن لا يبدأ الإمام بقتال هذه المجموعة، فلو قاتلهم وقتلهم عن بكرة أبيهم فسيأتي الباقون وتعدادهم 30 ألفًا ويقتلون الإمام(ع) ومن معهم انتقامًا للألف الذين قتلهم الإمام الحسين(ع) أولًا، فيتبين أن هناك معركة متكافئة بشكل طبيعي، هؤلاء قتلوا فقتلوهم وانتهت القصة عند هذا الحد. فلا تكتمل المعركة إلاَّ إذا صبر للحظات الأخيرة، وتلاحظون بكلمات الإمام الحسين(ع): إذا لم تعودوا تريدونني، والكتب التي أرسلتموها إليَّ تراجعتم عنها، فأرجع ، ولكنهم لم يقبلوا أن يرجع الإمام، لماذا سيرجع؟ فهو يلقي الحجة ويكمل كل المعطيات التي تبين صبره ليجرهم إلى المكان الصحيح في الزمان الصحيح وفي الأسلوب الصحيح من أجل أن يستثمر أعلى استثمار لمصلحة ربح المعركة في تحقيق أهدافها، لذلك كان الإمام(ع) صابرًا في كل المراحل رغم آراء أصحابه والذين كان يرونه في الطريق والتحديات التي يواجهها.
 الأسلوب الثالث: مواجهة الانحراف والفتنة باتباع القيادة: الشخص الذي لا قيادة له سيسقط أكثر من مرة في الفتنة، يجب أن يكون هناك قيادة تقدر أن ترى الأمة والمستقبل والمسار، وتلاحظون في مسيرتنا الإسلامية عندما لم يكن هناك قيادة واحدة تتمثل بالولي الفقيه، كان هناك قيادات كثيرة وآراء مختلفة فيضيع المكلف، بينما عندما تكون قيادة واحدة وتطمئن أن لا تقع في الفتنة، لأنها تتحمل مسؤولية أن توجه الأمة نحو الاتجاه الصحيح، وتعرف متى الحرب ومتى السلم، ومتى يصح ومتى لا يصح.
 عندما قال الإمام الخميني(قده) لحزب الله في لحظة تاريخية لا تخطر على بال أحد أن عليهم قتال إسرائيل حتى تزول من الوجود! من نحن حتى نقاتل إسرائيل لتزول من الوجود في وقتها؟ القضية هي ليست مسألة أن تزول إسرائيل في زماننا أم لا، إنما المسألة هي أن القيادة التي تنظر بنور الله تعالى عندما تحدد المسار يعني تحدد لك طريقًا نظيفًا يتحمل العقبات التي تحصل في الطريق، وتأمن على نفسك في الوقوع في الفتنة المذهبية وفي الفتنة الوطنية وفي الفتنة الطائفية وفي كل أنواع الفتن، لأن هذه القضية هي الشرف الأول الذي يجمع حوله المسلمون من أقطار العالم كافة، فإذا كنا جزءًا من المسلمين استطعنا أن نتماسك وأن نحقق إنجازًا كبيرًا في هذه المنطقة بضرب إسرائيل وإراحة هذه المنطقة من شرها.
 ذهب الإمام الحسين(ع) إلى كربلاء ومعه 72 شخصًا، من الذي يقوم بمعركة بهذا العدد مقابل 30 ألفًا؟ التحليل الطبيعي أن يقول الفرد: لست قادرًا على هذا الأمر، ولكن عندما يكون عندك قائد وإمام يستطيع الإمام أن يتحمل مسؤولية أحداث أكبر، فالنتيجة أن هذه المعركة بشهادتها ستغير وجه المعادلة في المستقبل وستحفظ هذا الدين، وبالفعل هذا الدين اليوم محفوظٌ بفضل الإمام الحسين(ع) وما قدمه في كربلاء، والذي فضّح الطرف الآخر ومن مشى معه فضيحة كبرى.
 الإمام علي(ع) يقول: " اعلموا أنه من يتق الله يجعل له مخرجًا من الفتن ، ونورًا من الظلم".
 الأسلوب الأخير: القتال، " وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ"، "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ"، فالقتال هو أساس في هذا الموضوع حتى يؤثر في المعادلة.
 واليوم ما نقوم به من قتال التكفيريين هو جزء من درء الفتنة، وقتال أمير المؤمنين علي(ع) للقاسطين والمارقين والناكثين جزء من مواجهة الفتنة، وهو الذي قال(ع): " أَيُّهَا النَّاسُ - فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ - ولَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي - بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا - واشْتَدَّ كَلَبُهَا"، في قتاله للنماذج الثلاثة خلال أقل من خمس سنوات.
 أختم بتحديد الفتنة التي يجب أن نتجنبها سمع أمير المؤمنين علي(ع)، رجلًا يقول: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فقال له الأمير(ع): "أراك تتعوذ من مالك وولدك ، يقول الله تعالى: " إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ" ولكن قل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن".