محاضرات

البحث الذي قدمه سماحة الشيخ نعيم قاسم في مؤتمر القيم والسلوك الذي أقامته جمعية التعليم الديني الاسلامي تحت عنوان "اجراءات لتحويل القيم إلى سلوك" 3/7/2006

الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد (ص), وعلى آله الطيبين الطاهرين , وأصحابه المنتجبين, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بعد أن حسمنا خيارنا في اختيار الإسلام كمنهج للحياة، يحتوي منظومة القيم الكاملة التي نعمل لتنشئة أجيالنا عليها، يواجهنا السؤال المركزي الصعب: كيف نحوِّل القيم إلى سلوك؟

الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد (ص), وعلى آله الطيبين الطاهرين , وأصحابه المنتجبين, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بعد أن حسمنا خيارنا في اختيار الإسلام كمنهج للحياة، يحتوي منظومة القيم الكاملة التي نعمل لتنشئة أجيالنا عليها، يواجهنا السؤال المركزي الصعب: كيف نحوِّل القيم إلى سلوك؟

فالكثيرون شرحوا موضوعية القيم وثباتها بثبات الشريعة الصادرة عن خالق البشر، والكثيرون ركَّزوا على شرح المعارف الإسلامية ما أنجز حضوراً ثقافياً إسلامياً واسعاً في عالمنا الإسلامي, والكثيرون ألَّفوا وفسَّروا وناقشوا ونقدوا ولم يتجاوز المناخ العام دورَ الإسلام في الحياة على الرغم مما عصف بالمسلمين من استعمارٍ وتجهيلٍ ومحاولاتِ إقصاءٍ لمفاهيم دينهم، ثم جاءت الثورة الإسلامية المباركة في إيران بقيادة الإمام الخميني(قده) لتعطي حيوية واسعة في إعادة الإسلام إلى مسرح الحياة السياسية والثقافية والحضارية.

لكننا نواجه في المقابل مأزقين:

الأول - مستوى الانتشار العالمي للحضارة المادية الغارقة في الجسد والهوى، والتي تمتلك فنون الترويج والتعبئة والدعاية والإعلام، وتسيطر على مفاصل التوجيه العالمي ثقافياً وتربوياً، وتُخفي في تمظهرها البرَّاق أخطار الفساد والانحراف والضياع، ما يجعلها قادرة على غزو مجتمعاتنا والتأثيرعلى شبابنا وشاباتنا، بهدفِ تضييع المفاهيم الأصيلة، وتسريع حضور الأفكار الالتقاطية عندنا، وحرماننا من التأمل أو التفكير، ليتحوَّل ما يُصدَّر إلينا كالمسلَّمات التي لا نقاش فيها.

الثاني- ضعفُ الوسائل والأساليب المستخدمة في تربية الأجيال وتنشئتهم، وغلبةُ النمط التقليدي في تعليم الإسلام، وقلةُ النماذج القدوة الصالحة للمستويات المختلفة، ما يجعلنا أمام تحديات كبرى نحاول مواجهتها بإمكانات محدودة تفتقر إلى المنهجية والتخطيط المتكامل من جهة، وإلى التشويق والجذب من ناحية أخرى.

ولطالما لاحظنا مأزق التفاوت الكبير بين القيم التي نؤمن بها والسلوكِ الذي يترجمها على المستوى العملي. نحن نسمع المواعظ والأفكار والتحليلات العميقة، لكننا نرى ضعفاً في الأداء، لا يُمكِّننا من تطويع الناشئة بهذه المفاهيم. إذاً نحن أمام تحدياتِ تحويل القيم إلى سلوك، أمام نقلِ الإطار النظري والعقدي للإسلام إلى الإطار العملي الفردي والمجتمعي, بمستويات متقدمة تحمي الأفراد والمجتمع من التأثر بالأغيار.

من أجل معالجة بنَّاءة وفاعلة، نحتاج إلى مجموعة من الخطوات التي تساهم كلُّ واحدة منها في وضع مدماكٍ يساعد بنيانَ الالتزام على السمو، شرط أن نتعامل معها كسلة واحدة يُكمِّل بعضها بعضها الآخر، ويحمي بعضُها البعض الآخر، وذلك في إطار خطة مدروسة توضع لها الآليات والبرامجُ التنفيذية المساعدة للتوصل إلى الحلول لما نعاني منه في تحويل القيم إلى سلوك.

1- المكَِّون المعرفي: المعرفة بوابة تحديد الطريق، وهي المدخل الأول لتحديد القيمة التي لا تكتمل إلاَّ بمكوِّناتها الثلاثة: المعرفي، والوجداني، والأدائي(أوالمهاري). وهذا ما يتطلب تعليماً وتثقيفاً للمراحل العمرية المختلفة بما يتناسب معها، ترسيخاً للقواعد الأصيلة الثابتة في تبني القيم, بالتأكيد على مصدرها وأهدافها وطريق تحصيلها. علينا أن نحقق في المكوِّن المعرفي عدة أمور:

أ- الشريعة الإلهية مصدر القيم، فالمشرِّع هو الله الذي " خَلَقَ الإِنْسَانَ "(1)، والذي يعرف شؤونه وشجونه وخفاياه ومتطلباته : " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ"(2)، وقد أرسل إليه الأنبياء والرسل، وختمهم بسيدهم وخاتمهم محمد(ص) الذي حمل القرآن الخالد كتاباً لهداية البشرية : " إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً "(3).

ب- تُنظِّمُ الشريعة رغبات الإنسان وحاجاته واهتماماته، بإرشاده إلى السلوك الأفضل الذي يسعده في دنياه، وهذا هو الفلاح والنجاح الذي يتمناه كل بني البشر. قال تعالى: " الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "(14)، وقال: " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "(5).

ج- قيمُ الخير ثابتةٌ بثبات فطرة الإنسان، وقد صدرت عن الله تعالى مراعية لهذا الثبات التكويني، فهي ليست نسبية متغيرة مع الأزمنة والعصور، ولا تتبع الأهواء والخصوصيات، وإنما تحاكي بني البشر بحسب تكوينهم الإلهي، فقد أتى الدين منسجماً مع ما فُطر الإنسان عليه، لينساب الالتزام بالقرآن الكريم في إطار الاندماج الطبيعي في أقيَّم صورة وأفضل انسجام وتماهي مع سنة الله تعالى في الكون: " فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ "(6).

د- تشكِّل القيم منظومة شاملة في ثوابها وآثارها الاجتماعية، ما يستدعي الاهتمام بها ككلٍ متكامل، وعدمَ التصرف معها بانتقائية،"أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ "(7).

هـ- تحفيزُ الإنسان لتعلمها وفهمها، وتيسيرُ السبل المختلفة لتوفيرها له بالتبليغ والتدريس والإعلام والنشر..، وتشجيعُه على السؤال والبحث كحاجة ضرورية للاهتداء إلى الطريق الأنجح، " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ "(8).

و- إكساب المتعلم القدرة على التمييز بين الخير والشر، وتعليمه المقاييس التي تساعده على رسم الصورة السليمة للقيم، لتكون ثوابتُ القيم بصوابيتها واضحةً له, وتشكل له المثل العليا التي تعبِّر عن الأهداف التي يجب السعي إليها، ذلك أنَّ المعرفة الواضحة بالقيم مقدمة ضرورية للعمل باتجاهها.

2- الإيمان بالله تعالى: يشكل الإيمان بالله تعالى النقطة المحورية التي نحتاج التركيز عليها تصوراً وتصديقاً، عقلياً ووجدانياً، في إطار التفاعل الشامل الذي يحقق الحضور الإلهي في حياة الإنسان, وفق منطوق الآية الكريمة: " وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ "(9)، على أن لا تكون هذه المعيَّة مقتصرة على الرقابة على الأعمال، بل تتجاوزها إلى حالةٍ من الحب والعشق والمناجاة والمحاورة والسؤال والذكر والأنس, " الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ "(10).

إنَّ الطريقة المعتمدة في عقد القلب ليؤمن بالله تعالى تقتصر غالباً على الترغيب والترهيب، بينما علينا أن نركز أيضاً وبالأساس على التفكير بعطاءات الخالق، وبما منحنا من النعمة والرحمة والحب والتفضل والرعاية الدائمة، وهذا ما يجعل الوجدان متفاعلاً في كل لحظاته مع الذات الإلهية، وهنا لا يخفى انعكاس هذا العيش على الاستقامة والسلوك القويم.

فلنلاحظ التوجيهات الإسلامية المكثفة في كل المجالات لتأكيد الصلة بالله تعالى: كالتوكل على الله، وشكره، ودعائه، والتأمل في خلقه، وحشد الأدعية لكل عمل من أعمالنا اليومية قبل الطعام وبعده، وخلال أفعال الوضوء واحداً واحداً، وقبل الانطلاق للسفر، والبسملة التي نفتتح بها أعمالنا... اننا نجد بمراجعتنا للمستحبات أنَّها تشمل كل تصرفات الإنسان, بتوجيهها له بأن يذكر الله تعالى على كل حال، قال تعالى: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"(11).

3- استحضار الرقابة الإلهية: بطريقة توجيهية، تُشعر المتعلم بجدية الحضور الإلهي في حياته، وتترسخ في ذهنه الرقابة التي لا تنقطع، " إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ "(12). وهي ليست رقابةً إحصائية، بل رقابةُ ثوابٍ وعقاب. علينا أن نذكِّره دائماً بالجنة والنار، في كل مراحله العمرية, بما يتحمل من تفاصيل في كل مرحلة ، شرط أن لا نستخدم هذه الرقابة لتحقيق رغباتٍ نريدها، أو أوامر نلقيها عليه، لأنَّه إذا ربط بين مطالبنا منه وهذا الاستحضار للحساب، فسيفهم أنها مطالبنا وإرادتنا وأوامرنا. نحن بحاجة لأن نُفهمه مصلحته الشخصية المباشرة في تنفيذ الأوامر الإلهية والانتهاء عن معاصيه ، لشأنٍ يتعلق بحياته ومستقبله وآخرته، وليس لنا في هذا كله أي مكسب شخصي.

في المقابل يجب أن نقنعه بالحضور الإبليسي الدائم، الذي يحضر ويعمل بأشكالٍ وطرق مختلفة، ليحرف الانسان عن مصلحته وسعادته، لذا عليه أن يكون دائم الحذر والاستنفار ضد إبليس وأعوانه، " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ *مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ

* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ "(13)، وقال تعالى:" وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"(14). وبذلك يكون قد تزوَّد من خلال استحضار الرقابة الإلهية بالقدرة على المواجهة، ومن خلال رفض الوسوسات الشيطانية بالمناعة والحصانة الذاتية.

4- التربية على ظاهر الشريعة: يحتاج المتعلم إلى طريق واضح يتعرف من خلاله على المسموح والممنوع، حيث يمكنه فهم تكليفه من دون تعقيدات أو خفايا أو أسرار يصعب عليه إدراكها, أو أن يعتبرها غير متوفرة بالنسبة إليه. فشريعتنا ظاهرية وليست باطنية، وهي تخاطب عامة الناس بلغة مفهومة وميَّسرة، يقول الإمام الخميني(قده): "واعلم، أنَّ طي أي طريق في المعارف الإلهية، لا يمكن إلاَّ بالبدأ بظاهر الشريعة، وما لم يتأدب الإنسان بآداب الشريعة الحقة، لا يحصل له شيء من حقيقة الأخلاق الحسنة، كما لا يمكن أن يتجلَّى في قلبه نور المعرفة، وتتكشف له العلوم الباطنية وأسرار الشريعة. وبعد انكشاف الحقيقة، وظهور أنوار المعارف في قلبه، لا بدَّ من الاستمرار في التأدب بالآداب الشرعية الظاهرية أيضاً"(15).

تبين الشريعة خطوات التوازن في حياة الإنسان، ويتوجب علينا أن لا نرهق المتعلم بمطالب تقصيه عن دنياه، فهذا ما لم تطلبه الشريعة المقدسة، يجب أن نعرف حقَّه الدنيوي الذي يستحق أن يعيشه من دون حرج، فالإسلام للدنيا التي تمهد للآخرة، ولا بدَّ من التوازن بين متطلبات الجسد ومتطلبات الروح، قال تعالى:" وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"(16)، وما التوجيه في المسائل الدنيوية إلاَّ لتركيزها في دائرة الحلال وعدم الاعتداء وعدم الإسراف، قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ "(17)، وقال:" يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ "(18).

5- إقامة الشعائر الجماعية: تؤثر الأجواء العامة في التأثير على أولادنا، وكلَّما كثَّفنا منها، كلَّما ساعدنا على إحاطتهم بالمناخات التربوية والثقافية والروحية التي نريد تثبيتها في شخصياتهم، فالذي توفره هذه الأجواء لا يمكن الحصول عليه من خلال المتابعة الفردية التعليمية أو السلوكية فقط، فغالباً ما تترك الأجواء التربوية العامة بصماتها على الأولاد بترسيخ قيمٍ ومفاهيم تتحول إلى مسلمات في إذهانهم ولو لم تكتمل صورتها في تسلسل الدليل والإقناع بها، فهي تتفاعل في وجدانهم وكأنها غرزت في فطرتهم، قال تعالى:" ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ"(19). في هذا الإطار يمكننا الاستفادة من الاهتمام بالإحياء الجماعي لبعض العبادات والشعائر الإسلامية، مثل:

- إقامة صلاة الجمعة.

- التركيز على صلاة الجماعة في المسجد أو المدرسة أو عندما يحل وقت الصلاة في أي اجتماع .

- التشجيع على حضور الأيام والليالي العشر من عاشوراء .

- متابعة برنامج مترابط ومنوع في شهر رمضان المبارك وبشكل يومي بنشاط جماعي .

- إحياء ليالي القدر في المسجد أو مع الجماعة في مكان مشترك .

- الاهتمام بموسم الحج ودفع الشبان والشابات لأداء هذه الفريضة بتسهيل الاستطاعة ومن خلال الحملات الهادفة .

- إقامة احتفالات ولادة النبي(ص) والأئمة(ع).

- احتفالات التكليف .

- الاحتفاء بالمناسبات الإسلامية وإجراء المسابقات فيها, وتوزيع الجوائز والحلوى.

- إشراك الأولاد في تنظيم ومتابعة الأنشطة المختلفة لتكون لهم مساهماتهم ودورهم...

6- القيمة للعمل والسلوك: تعويد التلامذة على أن يكون موقفهم وسلوكهم معبِّراً عن مضمونهم، وتبيان سلبية الاكتفاء بالاثبات النظري للموقف, أو قسم اليمين لإثبات صحة ما يتحلون به من صفات ، فإنَّ سلوكاً ينعكس على الآخرين أفضل من بيانات ومطولات لإثبات سلوك غير بارز بين الناس.

الصدق سلوكٌ وليس إدعاءً، والأخلاق الحسنة سلوكٌ وليست كلاماً، والتعاون مع الآخرين سلوك وليس فكرة مجرَّدة، " وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"(20). ومن المفيد في هذا المجال إقامة برامج تدريبية للسلوك، من خلال الأنشطة المدرسية التي تتطلب تعاوناً وصبراً وسهراً وتضحية... ومن خلال الرحلات التي تكشف طبيعة الأفراد وتمكن المسؤولين من التوجيه العملي المباشر، بل تكون من خطتهم في الرحلة تحقيق جملة أهداف منها: التعاون بين الأفراد، الإيثار في المقعد أو الطعام، الخدمة الجماعية بتهيئة المكان، الكلام المهذب في التعاطي مع بعضهم... وهذا ما يستلزم أن لا تقتصر تلك الأنشطة على العبادة كما في بعضها، أو على الترفيه فقط كما في بعضها الآخر، بل يمكن رسم مجموعة من الأهداف لتحقيقها عن طريق تعزيز السلوك من خلال العمل.

7- العبادات بوابة تصويب السلوك: كيف نشجع الأولاد على ممارسة العبادات باهتمام واستمرارية؟ كيف نحفزهم ليشعروا أنها تؤنسهم وتريحهم؟

قال تعالى:" اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ "(21)، وهكذا في الصوم" لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"(22)، وفي الحج" وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ "(23). مهما اجتهدنا في اختيار الأساليب التربوية الناجحة فإنَّه لا غنى لنا عن عبادات الإسلام كبوابة للسلوك الفاضل والانتهاء من الفحشاء والمنكر، ولذا يترتب علينا أن نقنع الأولاد بأن لا قيمة لهم من دون العبادة، وأن حياتهم ستذهب سدى إذا لم يؤدوا فرائضهم في هذا المجال، وأن نحفزهم بالتشجيع والاحترام والتقدير والمكافأة والتمييز عند اهتمامهم بالعبادات.

لعلَّ التوتر الذي ينشأ بين الأهل وأولادهم في توجيههم للصلاة ينشأ من شعورهم بالإلزام والآمرية المجرَّدة عن أحاسيس التفاعل والأنس بها، ومن اقتصار الطلب على الواجب من دون رعاية سلوك الأهل أمام أولادهم, وما يعطيه انطباع شخصياتهم عند أولادهم، أو أنهم لم يعودوهم على نمط من الأخوَّة والتفاعل مرتبطاً بالامرة بالصلاة، كما نحن بحاجة إلى تعلية مقام المصلين، وإبرازهم كنموذج ناجح ومحبوب، وتهيئة الأجواء ليكون التقدير والأولوية للمصلين، ولا مانع من التفكير بسلسلة تصرفات أو أعمال أو وعود ترتبط بالتزام الأولاد بأداء فرائضهم. عليهم أن يدركوا أن ثمار العبادات قوة لهم، عن أبي عبد الله(ع): قال رسول الله(ص):"قال الله تبارك وتعالى: ما تحبَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وإنَّه ليتحبَّب إليَّ بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي أعطيته بها"(24).

8- تقوية الإرادة: من الضروري أن نضع برنامجاً لتقوية الإرادة، فلا نعتمد على الوعظ والتوجيه فقط، وفي هذا المجال يمكن العمل على جوانب عدة في شخصية المتعلم:

أ- تشجيعه على اتخاذ بعض القرارات في أداء الواجبات وترك المعاصي، ومراقبته لنفسه بتسجيل ما فعله ليعود إليه في محاسبة النفس، ولا مانع من مساعدته في البداية بمراقبة ما أنجزه وتصويب أدائه في الاتجاه الصحيح.

ب- تكلفيه بأعمال مرغوبة بالنسبة إليه بحيث يرى قيمة ما انجزه ويفرح بقدرته على القيام به .

ج- تكلفيه بما هو سهلٌ عليه وغير معقد في بداية الطريق ، ويمكن أن نتدرج معه في الصعوبة ليألف هذا النموذج من الاعمال .

د- وضع برنامج بسيط لاستبدال عادات بأخرى ، على أن لا تكون كثيرة ، ولا معقدة ، ولا تتطلب جهداً كبيراً ، وإنما الهدف تحقيق البديل بما ينسجم مع المطلوب منه على مستوى ترسيخ القيم الحقة .

هـ- تعريفه على الآثار السلبية من خلال تجارب الآخرين ، أو من خلال استعراضها واعطائها كدليل عندما يُقدم على العمل ويرتكب الخطأ.

و- ابعاده عن الأماكن التي تؤثر على أدائه بطريقة سلبية .

ز- ابعاده عن الأفراد والاصحاب الذين يؤثرون عليه باتجاه الانحراف .

ح- تعزيز ثقته بنفسه بأن لا يتوقف عن المحاولة ولو فشل فيها مرات عدة ، فمع التصميم ينجح ، قال أمير المؤمنين علي (ع) :"أصل العزم الحزم وثمرته الظفر "(25).

9- عناوين للمساهمة : كما توجد مجموعة من العناوين التي تصلح للمساهمة في تحويل القيم إلى سلوك عند المتعلم ، اكتفي بسردها لتوسعتها في وقت لاحق ، ومنها :

1- ربط التزكية بالتعليم وعدم التفكيك بينهما ، " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ "(26).

2- تعويده على مجموعة من التصرفات بحيث تتناغم مع النظم والقوانين المعتمدة ، لتصبح تقليداً طبيعياً وعادياً في حياته اليومية.

3- تأمين الحماية القانونية والنظامية للسلوك الحسن ، بحمايته من خلال القوانين المدرسية التي تؤيده وتسانده ، وكذلك من خلال قوانين الاسرة ، وقوانين الأماكن التي يرتادها .

4- تعويده لرفع سقف سعيه باتجاه الأفضل دائماً ، وعدم اكتفائه بالأدنى ، " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ " (27) .

5- تأكيد الثقة لديه بأن الله يتوب عليه مهما كان ذنبه ، فال تعالى : " وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى "(28) .

6- أن يؤمن بأن نتائج الصلاح خيرات لا تحصى ولا تعد ، قال تعالى :" وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ " (29).

7- أن ينظر المتعلم دائماً إلى أهمية انعكاس سلوكه على العلاقة مع الآخرين ، فهو ليس وحيداً ، ومؤشر علاقته المجتمعية هي التي تؤكد سلامة السلوك السليم بسبب انعكاسه بوضوح في حياة الناس.

8- ترسيخ فكرة الابتلاء كمقوّم أساسي في الحياة مهما بلغت شدته ، والقيمة الحقيقية لمن يجتازه لا لمن يتأفف منه ، ولا قدرة لأحد أن يمنع عنه البلاء ، قال تعالى : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " (30).

9- العلاقة مع الجماعة والانضواء في إطارها تقوي قدرة الصمود أمام التحديات ، قال تعالى : " وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً"(31).

10- محاولة التخلص من الامراض التي تصيب الانسان والتي حذَّرنا الله تعالى منها ، كالعجلة ، قال تعالى : " وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً " (32) ، والكفر بالنعمة مع أنه لا نعمة إلا من عند الله ولا نجاة إلا بتوفيق الله تعالى:"وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً " (33)، والظلم والجحود بحق النفس الانسانية في علاقتها مع خالقها ، "وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ "(34) .

الهوامش:

1- سورة الرحمن، الآية:3.

2- سورة ق، الآية:16.

3- سورة الإسراء، الآية :9.

4- سورة البقرة، الآيات:1-5.

5- سورة الاعراف، الآية : 157.

6- سورة الروم: الآية: 30.

7- سورة البقرة، من الآية: 85.

8- سورة النحل: الآيتان: 43-44.

9- سورة الحديد، من الآية:4.

10- سورة الرعد، الآية: 28.

11- سورة آل عمران، الآية:191.

12- سورة ق، الآيتان: 17-18.

13- سورة الناس.

14- سورة فصلت، الآية: 36.

15- الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ص: 30.

16- سورة القصص، الآية: 77.

17- سورة المائدة، الآية: 87.

18- سورة الأعراف، الآية: 31.

19- سورة الحج، الآية : 32.

20- سورة التوبة، الآية: 105.

21- سورة العنكبوت، الآية: 45.

22- سورة البقرة، من الآية: 183.

23- سورة البقرة، من الآية : 197.

24- الشيخ علي الطبرسي، مشكاة الأنوار، ص: 256.

25- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص: 121.

26- سورة الجمعة، الآية: 2.

27- سورة الحجرات، من الآية: 13.

28- سورة طه، الآية: 82.

29- سورة هود، الآية: 52.

30- سورة البقرة، الآيتان: 155-156.

31- سورة الكهف، الآية: 28.

32- سورة الإسراء، الآية: 11.

33- سورة الإسراء، الآية: 67.

34- سورة إبراهيم، الآية: 34.