محاضرات

وظيفة التربية الدينية في عالم متغير

بسم الله الرحمن الرحيم

الدين هو الرسالة الخالدة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه ، وتجسدت بخاتمهم محمد (ص)، فكان كاملاً "ا الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ".

بسم الله الرحمن الرحيم

الدين هو الرسالة الخالدة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه ، وتجسدت بخاتمهم محمد (ص)، فكان كاملاً "ا الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ". عندما نعمل للإسلام من خلال هذه الرسالة السماوية الخالدة والثابتة ، إنما نهدف إلى مركزة توجه الأجيال حول هذا الدين .. لا إلى إيجاد تغيير في الدين مع تغيّر الأزمان، وهذه مهمة صعبة خاصة مع هذه التطورات والتغيرات التي تظهر للوهلة الأولى بأنها تغييرات في البنية الإنسانية، تتطلب تغييرات في البنية الدينية.. لكنها في الواقع تغييرات في الأساليب وفي بروز الكفر والانحراف على الإيمان، وهذا يتطلب منا أن نفهم كيف ندخل إلى هذه المساحة كي نعمل على المستوى الديني بما يجعلنا نواكب تلك التطورات.. ولا أقصد بذلك أن لا نطور من إمكاناتِ تناغُم الدين مع تطور المجتمع .. لكن يجب أن نميز بين الفهم المعاصر للدين وقدرات الأحكام الدينية على مواكبة الحياة وبين تغيير الدين ليواكب الحياة .. هناك فرق بين الأمرين.. نحن نتحدث عن أسس ثابتة للدين نحتاج إلى أن نثبتها في تربية الإنسان، وان نتصرف في الأمور التي تحمل قابلية التطوير في الأساليب والطرق .. لكن لا نستطيع أن نغير الدين لمصلحة تغيير الزمن وإلا خرجنا من إيماننا، وخرجنا من التزامنا.

إذا لدينا مهمتان كبيرتان .. واحدة تعليمية ، وأخرى تربوية، يجب أن نركزها بشكل أساسي لصقل شخصية الولد من أجل أن نربطه بهذا الدين بشكل مباشر .. وهنا أتحدث بداية عن الوظيفة العامة للمعلم، ثم أتحدث عن الخصوصيات التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار في هذا العالم المتغير .. أما الوظيفة العامة فهي:

أولاً: النص والثوابت: علينا أن نربط الأولاد بالنص القرآني ، والنص النبوي ، ونصوص الأئمة (ع) كأساس ثابت للحصول على الشريعة المقدسة ، ولمعرفة الأحكام الإلهية.. لأننا نؤمن بمحورية النص، ولأن التزامنا بأساس الدين في حياة الناس يعني أن نتمسك بالنص ، وندور حول النص . كل النقاش يجري في فهم النص .. وفي تفسير النص .. وفي صحة النص أو خطأ النص .. ولا يجري النقاش في استبدال النص .. لأننا لو وصلنا لاستبدال النص يعني أننا خرجنا عن الدين لأمر آخر .. إذا نحن بحاجة أن نثبت في عقول الأولاد ثقافة النص بشكل كبير ، وقداسة النص ليصبح أساساً في النقاش وأساساً في الإلتزام .. من هنا نحن بحاجة إلى أن نربط الأولاد بالنص ، وأن نربطهم بالضوابط الإسلامية الثابتة والأساسية كمسلمات لا إمكانية للنقاش فيها ، أو كمسلمات لا إمكانية لتغييرها ، يعني نحن لا نستطيع أن نناقش إذا كانت الصلاة يمكن أن ترتفع في هذه المرحلة أم لا بسبب تطور الزمان ، لأن الصلاة ثابتة من ثوابت الإسلام .. الصلاة لا زالت باقية وستبقى ما دامت الحياة .. نحن لا نستطيع ان نلغي الحجاب على قاعدة أنه ثابتة من الثوابت الإسلامية المرتبطة بالتشريع .. وهكذا يوجد عندنا مجموعة من الثوابت التي وردت في النصوص أو وردت في بعض أقوال النبي (ص) والأئمة (ع) ، علينا أن نركز ثقافة النص واعتبار النص مرجعية لا بد أن نعود إليه ، ولا بد أن نتحاكم على أساسه .. يعني علينا أن نركز عند الأولاد أنه إذا حصل اختلاف على أمر معين، نعود إلى آية في القرآن الكريم ، نعود إلى رواية، نعود إلى المرجع الذي يستنبط هذه الأمور ، ويقدمها لنا حتى يصبح الإيمان بما أنزله الله عز وجل إلينا أساسياً لنعود إليه للمحاسبة والمحاكمة والحل لما يدور بيننا.

ثانياً: التأثير على السلوك: أن نعمل للتأثير السلوكي للدين على مستوى الأفراد، لأن الهدف الديني كما تعلمون هو تغيير السلوك، ليس الهدف هدفاً استعراضياً ، كأن يكون للدين أنصار بدون التزام، فالهدف ليس هدفاً عصبوياً ، الهدف هو هدف تغييري، الهدف هو أن يؤمن الإنسان عملياً بهذا الدين ، وأن يغير حياته على هذا الأساس ، فمهمتنا أن نعمل من اجل تركيز تأثير الدين على السلوك كي نحدث التغيير المناسب ، وكي نجعل الإنسان ملتزماً على المستوى العملي ، ومتفاعلاً على المستوى العملي:" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا " فنحن بحاجة إلى تركيز الإلتزام من خلال الارتباط النفسي والحيوي والعملي وفي النهاية: " وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ " الموضوع لا يرتبط بمجرد الإيمان، الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، إذاً نحن بحاجة إلى السلوك " وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ".

هذا أمر مفهوم عندنا ، لكن يجب أن نعلم أن هذا التأثير الديني على السلوك له أنماط أربعة ، قد تجتمع في بعض الأحيان في شخص واحد ، وقد يجتمع بعضها وقد ينحصر الأمر بنمط واحد حسب طبيعة الأشخاص ، وقابليات الأشخاص وإن كانت تجتمع في معظم الأحيان عدة أنماط في شخص واحد.

النمط الأول: البناء، يتركز على عملية البناء ، والبناء يكون في أرض خالية ، وخاوية ليس فيها عقبات ، وليس فيها صعوبات ، وهذا يصدق على الأطفال ، وعلى الأولاد الصغار ، وعلى الذين تساعد مجتمعاتهم بيئتهم المنزلية،بحيث أنك إذا أعطيتهم من الشريعة المقدسة وجدتهم يتلقون من دون اعتراض ، ويتفاعلون ، وكأنك في كل يوم تضع مدماكاً فوق المدماك الآخر.

وهذه أسهل أنواع الأعمال . يعني عندما نعمل على بناء الولد ، وهو لا يعترض ، وليس عنده مصاعب ولا مشاكل ، فمعنى ذلك أن علينا استغلال هذه الفرصة إلى أقصى حد ، لأن كل ما نبنيه يترسخ ويؤتي ثماره ، بسبب الفراغ الذي يعيشه ، وبسبب الاستعداد في التلقي الدائم.

النمط الثاني: الهدم ثم البناء ، يعني أن يكون هناك بعض الأسس الخاطئة الموجودة عند الآخر ، أو هناك بعض المفاهيم المغلوطة التي أثرت في شخصيته ، فنحن بحاجة أن نهدم ما عنده من أجل أن نعطيه ما هو موجود في الإسلام ، وهذه عملية أصعب لأنه قد ننجح في الهدم ، وقد لا ننجح، قد نكون موفقين في أسلوبنا ، وقد لا نكون، قد يكون عصياً فلا نؤثر عليه، ولذلك عملية الهدم ثم البناء هي عملياً أشق أو أصعب . لكن يجب أن نتوقع بشكل طبيعي أن هذا النمط موجود،غالباً ما نجده في المراحل الأعلى يعني في المتوسط وفي الثانوي، من الصعب أن نجده في الابتدائي بسبب مجتمعنا واوساطنا .. لكن ربما لو كنا ندرس ديناً حتى في المرحلة الابتدائية في أمريكا أو فرنسا مثلاً، من الممكن أن نجد صعوبة كبيرة، لأنه توجد مجموعة كبيرة من المفاهيم التي تحتاج إلى تغيير ، وهذا أمر صعب جداً على مدرس واحد أمام مجموعة من المعلمين في المدرسة وفي البيت وفي المجتمع من الذين يؤثرون على شخصية هذا الولد ..

النمط الثالث: المواكبة، يعني أن لا أكتفي بالإلقاء ، والتلقين ، أن أواكب هذا الولد وألاحق تطورات شخصيته من أجل أن أزرع في الوقت المناسب، وهذا شبيه بين الولد وتلك الغرسة التي نزرعها في البستان، بحيث إذا زدنا سقايتها تموت ، أو قللنا من سقايتها أيضاً تموت ، حتى الجرعة الدينية في كيفية إعطائها والتدرج فيها تحتاج إلى حنكة ، وتحتاج إلى فهم متطلبات الولد، يمكن أن يقول البعض لكننا مرتبطون ببرنامج ولا نستطيع أن نغير وأن نبدل، أقول حتى في هذا البرنامج الذي بين أيديكم تستطيعون أن تتصرفوا في كيفية تقديمه، الموضوع يرتبط بالأسلوب، بحجم المسابقات، بتمرير بعض الإجابات على الأسئلة، بالصحبة التي تجري في الملعب، بالمشاركة في النشاط، في الذهاب سوياً في الرحلة، يوجد أنشطة مواكبة تستطيع فيها أن تقترب من الولد أكثر ، وأنا أقول لكم أن المواكبة هي أضعف ما يكون عند أساتذة الدين وهذه مشكلة حقيقية، والبعض يقول أنه لا يوجد وقت لديهم ، وأنا شخصياً لا أوافق ، أعتقد انه إذا خطط المعلم ليستغل وجوده في الملعب من أجل أن يراه الأولاد ويتكلم معهم ، ويجيب على أسئلتهم لمدة ربع ساعة، يكون تأثيره على أربعة أو خمسة أولاد أهم من سنة دراسية كاملة في داخل الصف ، لأنه جزء من عملية المواكبة. لا تصح عملية المواكبة بالتلقين في داخل الصف ولا تكفي، عملية المواكبة تحتاج إلى نوع من المعايشة والعشرة حتى أرى ما هو المناسب لأعطيه للولد، إذ لا يمكن أن أقوم بعملية المواكبة لثلاثين تلميذاً داخل الصف . لكن أستطيع المواكبة بالإجمال، إذ توجد بعض الأفكار التي تجعل المدرس حاضراً وقريباً من القلوب والنفوس ، وهذا أمر مؤثر ومهم وضروري.

النمط الرابع: التحصين، يعني عندما نقوم بعملية البناء ، ثم عملية الهدم والبناء ، ثم عملية المواكبة في الأنماط الثلاثة الأولى فالهدف منها هو التحصين، كي يتمكن هذا الولد من رفض المنكر وحده من دون أن نكون معه .. من الاختيار بملء إرادته من مواجهة التحديات الموجودة، والتحصين طبعاً هو نتيجة هذه الأنماط الثلاثة ، ونتيجة الأساليب التي نعتمدها ، ونتيجة رسوخ الفكرة الإسلامية أو الحالة الإسلامية في داخل قلبه، وخشيته من الله تعالى وارتباطه به ، كلما كانت الرقابة أكبر في شخصيته ، كلما كانت أفضل وهذا يساعده على التحصين، فإذا أصبح محصَّناً في الواقع لا نخاف من إنطلاقه في هذا المجتمع كيفما كان ، ولا خوف عليه، لأنه إذا كان محصَّناً يمكنه ان يباشر مواجهة المنكرات ويمكنه أن يكمل البناء ويكمل شخصيته بالاتجاه الإسلامي.

نحن بحاجة إلى استخدام الأنماط الأربعة: البناء، الهدم ثم البناء، المواكبة، التحصين، وأن نضعها أمامنا كأساليب نعمل عليها، وأن لا يفاجئنا وجود أي نمط من الأنماط التي نحتاج الى التركيز عليها أكثر من غيرها ، لأن الموضوع مرتبط بالمتلقي، مرتبط بمن نتفاعل معه، هو الذي يتطلب هذا النمط أكثر من النمط الآخر ، علينا أن ندرك مع من نتعاطى ، لا أن نعمل في عملية البناء بشكل مريح ثم يتبين لنا أن المطلوب الهدم أولاً ثم البناء.

وهذا يتطلب نوعاً من الإستقراء ، يتطلب فهم المجموعة التي نعمل معها . لا احد يقول بإن الطلاب جميعاً متشابهون لأننا في ساحة واحدة، فبين قرية وقرية تختلف الأمور في المناطق ، قرية يكون فيها انسجام واستعداد ، وقرية ثانية تشبه المدينة من حيث الانفتاح والاختلاط ، هذان نمطان مختلفان . من يدرس في بيروت ، غير من يدرس في مدرسة أخرى بعيدة ، أيضا اختلاف المدارس تختلف في استقطاب بيئة معينة . فهناك بيئة لها نمط تختلف فيه عن بيئة أخرى. مثلاً التدريس في مدرسة فيها غالبية من الأيتام وأولاد الشهداء ، يختلف عن التدريس في مدرسة ليس فيها هذا العدد ، يجب أن لا نعتبر كل الحالات متشابهة ، لأنَّ أعمارهم متشابهة بين الست والسبع سنوات ، لا ، فالبيئة مؤثرة، يجب أن نفهم بالإجمال من نخاطب ؟ ماذا يحتاجون ؟ أي نمط يجب أن نركز عليه أكثر من الأنماط الأربعة التي ذكرت؟

ثالثاً: تحصين النفس ونحن نعمل أساساً على النفس ، يجب أن ندخل إلى النفس الإنسانية " إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ".

العالم بأجمعه اليوم يعمل على هذه النفس، والله يعمل على هذه النفس ،"ونفس وما سواها ..." ويصف لنا النفس المطمئنة ، والنفس اللوامة ، والنفس الامارة بالسوء ، فهو يبيِّنها ليقول لنا : أنا اعمل على النفس ، وادعوكم لكي تعملوا عليها لاحظوا اليوم كيف أن الغرب يركز على المسألة المادية بشكل كبير.. يركز على الإباحية وعلى إثارة الغرائز، ماذا يستهدف؟، هو يدخل الى النفس ، لأنه يعلم بأن هذه النفس إذا انحرفت باتجاه معين ، ضَمِنَ من منطلق مفهومه أنه أدخلها في دائرة الحرام ، فصارت مرتبطة بالحرام ، وبالأسس والثقافة والمفاهيم التي يريدها . وبالتالي لا يعود بحاجة إلى توجيهها لأن النفس سوف تنقاد إليه. من هنا يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار كيف نصل إلى هذه النفس، لذا عندما نركز على الآخرة فهذا جزء من المساعدة لبناء هذه النفس ، وعندما نركز على ضرورة الابتعاد عن الأجواء الفاسدة ، فهذا جزء من حماية النفس، وعندما نحاول إثارة الحالة الروحية من خلال العبادات والتركيز على بعض الأنشطة كعاشوراء، وشهر رمضان ، وإحياء ليالي القدر وما شابه ، فهذا عمل لتربية النفس، فمحور العبادات بالأصل يركز على النفس الإنسانية في علاقتها مع الله تعالى ، حتى تستمد منه وتتأثر بتعاليمه، إذا نحن بحاجة إلى التركيز على هذه النفس بأن نعمل على المنطلق نفسه الذي ينطلق منه الجميع باتجاه تحقيق أهدافهم من اجل أن نحقق أهدافنا.

رابعاً: التوازن في الشخصية: أن نعمل على التوازن في الشخصية عندما نربي ، بمعنى أن لا نركز على جانب ونترك الجوانب الأخرى ، وهذا خطأ بعض المدرسين ، يأخذ جانباً ويركز عليه ، مثلاً تجد احدهم يأخذ موضوع المستحبات ، ولا يترك مستحباً ، سواء أكانت الرواية مأخوذاً بها ، أو على قاعدة التسامح في أدلة السند ، إلا ويركز فيها على المستحبات . مستحبات ، مستحبات ... إلى درجة انه إذا أراد أن يعمل بالمستحبات ، النهار بكامله لا يكفيه . مثلاً يستحب ألف ركعة في النهار .

لا يصح أن نركِّز على المستحبات بشكل كبير . غير آخذين بعين الاعتبار التركيز على أمور أخرى أيضاً. أو يركِّز أحدهم على الجانب الفكري أو العقلنة أو أن الإسلام منطق وأفكار , نحن نعرف أن الإسلام ليس بكامله هكذا ، الإسلام يبدأ بالعقيدة ولكن أين ينتهي ؟ ينتهي في الشريعة . ففي العقيدة يقول لك فكِّر وعندما تؤمن بأصول الدين تكون قد اكتفيت ، ويصبح عندك القدرة على الالتزام بجميع الأعمال ، ولا تعلم لماذا تم تحريم هذا الأمر أو ذاك ، مثلاً هل أستطيع بالعقل أن اعرف لماذا صلاة الظهر أربع ركعات وليست خمساً ؟ لا أستطيع بالعقل ولو واصلت التفكير إلى يوم القيامة، ولماذا الركوع واحد وليس اثنين ؟ هنا عليَّ أن التزم بالأمر الإلهي ، لأنني دخلت إلى ميدان العبادة بعد الاعتقاد، إذاً الأمر ليس موضوعاً فكرياً فقط .

وآخر يقول بالتركيز على الجانب العاطفي، وهذا خطأ ، لأنني يجب أن أحاكي العقل ، وأعطيه المقدمات اللازمة، نحن نقع في مشكلة في عملية التوجيه عندما نأخذ بالعقلنة، أو العاطفة ، أو التركيز على المستحبات ، ونذهب في العبادات إلى أقصاها، وفي السياسية إلى أقصاها ، وفي الثقافة إلى أقصاها ، وهذا لا يجوز، فالمطلوب أن يكون هناك توازن، هذا التوازن أشبه بالتوازن الذي دعانا إليه رب العالمين بين الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ".

التوازن موجود في الإسلام ، لكن نحن عندما نقدم الإسلام لا نقدمه بطريقة متوازنة، فنهتم بجانب ونهمل الجوانب الأخرى، يجب الاهتمام بمجموع الجوانب بطريقة شمولية ، بعدم التركيز على عامل واحد ، وإنما على العوامل المختلفة حتى أستطيع تكوين الشخصية المتوازنة والمترابطة ، وحتى يقتنع الولد أن يأخذ منا ما يصلح حاله ، وما يمكن أن يوصله إلى المستوى المناسب واللائق، فأنا أريد شخصية متوازنة ، وليس شخصية مغالية في هذا الاتجاه أو الاتجاه الآخر ، أو مبالغة في الاهتمام في جانب دون الاهتمام بالجانب الآخر.

لذا علينا تدريس النص القرآني لحفظ القرآن ، وإعطاء الرواية لحفظ شيء من الروايات ، والاهتمام بالعبادات مع بعض المستحبات ، وتنمية القدرة الفكرية بتوازن معين ،بحيث يتحقق هذا التوازن من خلال أدائنا ، من خلال أهداف الدرس ، من خلال كفايات الدرس . هذه القواعد الأساسية هي وظيفة التربية الدينية في كل زمان ومكان. وليس فقط في الزمن المعاصر الذي نحن فيه، بل كل وقت بحاجة إلى هذه القواعد ، وهذه هي الوظيفة العامة التي يجب أن نقوم بها جميعاً.

اذكر الآن بعض الخصوصيات التي تتعلق بالمتغيرات التي نعيشها من أجل الاستفادة منها.

أولاً: الاستفادة من الأساليب الحديثة: ضرورة الاستفادة من الأساليب الحديثة المتوفرة ، ومن التشويق الذي تحمله هذه الأساليب والوسائل، كاستخدام آلة العرض أو التلفزيون أو السلايد أو الكرتونة على اللوح ، أو استخدام اللوح، أي من كل شيء غير تلقيني ، فهذه الأساليب المختلفة يجب استعمالها. ومن الأساليب أيضاً المشاركة في الرحلات، فالرحلة هي معايشة وتأثير، حيث تبرز قدرة الافراد واستجاباتهم من خلال هذه الزيارة ، وتلك الرحلة ، وذاك المكان . وأيضاً من الأساليب الإشتراك في المسابقات، وإيجاد التحفيز للمنافسة في حفظ القرآن الكريم ، أو حفظ بعض الروايات، التحفيز في موضوع المطالعة بطريقة معينة كنوع من أنواع التحدي أو إيجاد حالة من التنافس، وعلينا أن نفتش عن كل الأساليب المناسبة والملائمة. لم يعد باستطاعتنا اليوم العمل تحت الزيتونة ، نجلس قبالة الأولاد مع مجموعة من العصي التي تطال إلى أبعد المسافات ، والتدريس طوال الوقت، أصبحت الأساليب اليوم كثيرة ومتغيرة ومتطورة ، إلى درجة انه علينا أن نجد طريقة لمواكبتها. أحياناً تؤثر حركة المدرس في داخل الصف وتوجد جواً من الحيوية بعيداً عن القراءة التقليدية للنصوص أو الجمود في الحركة. أحياناً حركات بسيطة لكن معبِّرة من المدرس تحقق الجو المناسب في الصف ، مثلاً لو أحضرت إبريقاً إلى داخل الصف لتعليم الأولاد الوضوء ، وقمت بتجارب تطبيقه مع الأولاد عن كيفية الوضوء ، فإنها ستكون مشوِّقة إلى أبعد الحدود ، وسيحفظون الوضوء بشكل متقن تماماً بعيداً عن السرد والجمود. وتكون قد كسرت الحالة التقليدية، وقدمت فكرة جديدة ، أذكر هذا المثال كي لا يتبادر إلى الذهن إلى أن الوسائل الحديثة غير متوفرة لدينا مثل غيرنا ، وبالتالي لا نستطيع أن نقوم بأي شيء في هذا المجال، أنا أقول العكس نحن نستطيع أن نستأذن من الإدارة ونستفيد من الإمكانات المتوفرة في المدرسة، ونطلب احضار بعض الأمور البسيطة والرخيصة والمتوفرة للقيام ببعض التطبيقات..

ثانياً- التخفيف من النقد والتشكيك: ألاحظ أن إخواننا وأخواتنا بشكل عام يتحولون إلى نقادين وشكاكين ، وعندما يُسأل احدهم عن الوضع يقول: يا أخي الوضع سيئ جداً . لا الحالة الإسلامية تعمل بشكل جيد ، ولا المؤمنون، ولا المسلمون في لبنان ، ولا المرجعية تُحتمل، وهكذا .... لا يترك بنياناً على حاله.وهو أمام التلامذة لا يتكلم بهذه الطريقة مرة واحدة فقط ولكن يطرح هذه الأمور التيئسية مرات ومرات بطريقة مُحبِطة، يُسأل من أحدهم عن رأيه بالمشاكل التي سببتها إحدى الأخوات التي تلبس العباءة ، فيقول كلهن يجب رميهن إلى البحر! إذا قصدت أن هذا التصرف لا يعجبك ، لا يصح أن تنال الجميع بسهامك، عليك أن تقول انه إذا كان هناك حالة خاصة نحن لا نعممها ، ونحن نحترم لبس العباءة..... ولا يصح أن تقول بأن اغلب المتدينين كذا وكذا عليك أن تنتبه منهم! بل قل : إذا كان لدى هذا الشخص حالة خاصة فهذه مشكلته وليست مشكلة الإسلام. علينا أن نعمل نوعاً من الحصانة لحالتنا الإسلامية ، حتى فيما بيننا وبعيداً عن التعليم والتدريس. أنا اعرف عدداً من الإخوة والأخوات يعيشون حالة إحباط ، لأنهم من كثرة ما يتحدثون عن هذه الأجواء بطريقة سلبية لا يجدون خيراً في كل العالم ، فكيف يستطيع أن ينقل الخير إلى الآخرين إذا كان يعيش المعلم في داخل نفسه هذه المصيبة ؟ لا يعجبه شيء ، لا يرى في المؤسسة إلا المشكلة ، ولا يرى في الشخص إلا المشكلة، ولا يرى في العمل الإسلامي إلا المشكلة ، لا يرى ايجابيات .

هل تتوقعون أنَّ من في مؤسساتنا أو أوساطنا أو جهاتنا هم من المدينة الفاضلة، فإذا كان عندك نقد على مؤسسة إسلامية ومهما كان اسمها ، لنجمع كم نقداً عندك وكم ايجابية عندك ،لنجمعهم ، فترى انه عندك 10 انتقادات و50 ايجابية فإذا احتسبت النسبة المؤية تحصل المؤسسة على 80٪ علامات ايجابية وهذا عظيم. لا يوجد نجاح 100٪ ، يقول بعضهم حتى هذه النسبة السلبية البسيطة يجب أن لا تكون !. تارة أنت في موقع ، أنت المسؤول ، وأنت من يعمل على حل المشاكل فعندها احرص على أن لا ترتكب أي خطأ، وتارة أخرى تراقب من بعيد، وترى مجموعة مشاكل ظاهرة، عليك أن تتمهل لأن لكل مشكلة أسبابها، ويمكن أن يكون العاملون غير قادرين على معالجتها لتعقيدات معينة أو لأسباب معينة . لا نستطيع أن نقول أن لكل مشكلة حلاً.عندما تتكوَّن الأسرة ، يتزوج الشخص ، ويصبح عنده أولاد فيسعد بوجود الأولاد ، ثم يكون عنده ولدان لا عشرة ولا 13 ولداً كما في السابق . بل بحسب مستلزمات الحياة المعاصرة حيث انه اكتفى بولدين ، يكاد يجن من التباين بينهما وصعوبة التربية، ولد في الشرق وولد في الغرب ، وهم داخل المنزل الواحد، لكن لكل ولد نمط ، فيقول : يا أخي والله عملت كل ما أستطيع ولم افلح مع هذا الولد.

الولد في النهاية له مقومات شخصية موجودة في الفطرة ، هناك طريقة تربية تستخدمها ، والناس يربونه معك من خلال العلاقات الاجتماعية، فتصل إلى أن هذا الولد يتصرف بطريقة لا تعجبك، ولا أتكلم هنا عن الحرام ، أتكلم عن سلوك يعجبك أو لا يعجبك. فإذا سبَّب الولدان لك العجز ، وتحاول معهما مئة أسلوب وأسلوب لتغيرهما، فكيف يكون الحال مع المجتمع؟ أو المؤسسة ؟ يجب أن نقلِّل من كثرة النقد والتشكيك في كل شيء ، يجب أن نعطي الصورة الايجابية بالإجمال ، وان نضع الإشكاليات في حدودها ، ولا نكبِّرها كثيراً.

ثالثاً- البدائل أولاً: إذا كان عندنا اعتراضات على بعض التعاليم ، بعض النصوص ، بعض التفسيرات ، بعض التفاسير، يجب أن يكون عندنا حلول بديلة قبل أن نهدم ما هو موجود . فانا لا أستطيع أن أقول للناس هذا خطأ ، وعندما أُسأل عن الحل أقول لا اعلم ، ولم يصلوا بعد إلى حل ، كيف أحطم قبل أن يكون هناك إمكانية للبناء؟ هذه مشكلة نواجهها عندما نرى أن بعض التعاليم الإسلامية تضغطنا في هذا العصر ، لكن ليس عندنا حلول أخرى أو بدائل أخرى. فعندما يقول لنا احدهم :"يا أخي المصافحة حرام ولكن صعبة في هذا العصر" ويبدأ بالنقاش أنهم لم يفتشوا عن الروايات بشكل سليم ، لم يحللوا بشكل سليم ، يجب أن تحل هذه المسالة لأنها صغيرة وليس لها قيمة ، ماذا ستكون النتيجة بهذا التهديم والتشكيك؟ وهكذا......

نقول له إذا لم تجد حلاً فلا تتكلم ، واترك الحلال حلالاً ، والحرام حراماً ، والروايات روايات ، حتى تأتي بحل.... لا أستطيع أن أحطم ، أو أن اهدم أفكاراً إسلامية موجودة أو تشريعات موجودة من دون إيجاد البديل .

وقد قرأت لعدد كبير ممن يتحدثون عن الحداثة ، ومواكبة الحداثة ، وتحديث الدين ، وتطوير الدين وتجديد الدين. وحتى لا أقول الجميع ، سأقول الأغلبية الساحقة يمرِّضون القلب عندما تقرأ لهم كتبهم، فهم يقولون : لا يجب أن يكون كذا ...ولا يجب أن يكون كذا ... وهذا النص يجب أن يفسر بطريقة مختلفة . التشريع يجب أن يتغير فنحن في عصر مختلف..... ولا يعطيك حلولاً ! يا أخي أنت تهدم كل الموجود كل الموروث ، والحل ماذا ؟.

احدهم وصل إلى حل انه يجب أن ننسف كل مناهج الاستباط من بدايتها إلى نهايتها ، ونعيد تأسيس مناهج جديدة حتى تتغير طريقة التفكير ، فإذا تغيرت طريقة التفكير نعيد تفسير النصوص ونحاكمها على ضوء طريقة التفكير الجديدة ونحل المشكلة . هذا الشخص يريد تغيير الدين من أساسه ، لأنه إذا غيرنا طريقة التفكير كلها ، واعتبرنا أن كل شيء قدمناه خاطئ، يعني أننا ننسف كل شيء ونقرر آليات ومقدمات لا نعلم إلى أين توصلنا !

رابعاً- التراكم القيمي: أن نساهم في المراكمة القيمية في مجتمعنا وفي شخصية الأولاد ، وهذا لا يحصل طبعاً دفعة واحدة ، يعني فليثق كل واحد منكم أن ما يقدمه يؤدي إلى تراكم ما في الشخصية ، في الوظيفة الاجتماعية العامة . وهذا التراكم يحافظ على القيم وينميها .

التراكم القيمي لا يظهر بسرعة ، يأخذ سنوات طويلة، أحياناً عشرين سنة أو ثلاثين سنة حتى تتغير قيمة. لاحظوا كيف استطاع مجتمعنا الإسلامي أن يواجه تحديات الغرب بشكل كبير فلم تستطع المؤثرات الغربية في الإباحية وغيرها أن تقلب مقومات المجتمع، ولكنها تركت مشكلة وتأثيراً فيه لأنه لا يزال لدينا حصانة معينة . أكثر من ذلك ، هناك اليوم ردة فعل بالعودة إلى الإسلام ، القيم الغربية أحدثت تحدياً، والسياسة الغربية سبَّبت تحدياً ، والناس يرجعون إلى الإسلام ، حتى أن بعضهم يرجع إلى أصعب تفكير في الإسلام يعني إلى حالة من الجمود ، والى حالة من الارتباط بالمسائل التي لا تتحمل اعترافاً بأحد ، ولا نقاشاً مع احد، مثل بعض السلفيين والطريقة التي يتصرفون بها ، ولا أقول أنهم مثلٌ لنا، ولكن أقول انه رغم كل الهجمة القيمية الموجودة على مستوى الغرب، لا يزال لدينا ثبات مهم جداً في القيم الإسلامية في مجتمعنا، واعلموا أن مساهمتكم في تربية هؤلاء الأولاد تساهم في تثبيت هذه الحالة القيمية وتعميمها وتحسينها بشكل أفضل .

خامساً- الواقعية: يجب أن نكون واقعيين ، قدرتنا على الجذب اضعف بكثير من قدرة الكفر على الجذب، فلا نطالب أنفسنا بما يقومون به خارج استطاعتنا، الأمر يرتبط بالمال المتوفر عندهم أكثر ، بإثارة الغرائز وهم يعملون على هذا الأمر الشيطاني، ونحن لا نستطيع أن نثيرها بالاتجاه الإيماني كما هم يفعلون . التطور السياسي ، والموقعية الدولية أيضاً تؤثر في أن تقود البلاد والعباد باتجاه معين . إذاً نحن نواجه صعوبات حقيقية ، وعندما نضع خططنا ومشاريعنا وأفكارنا للتأثير على الأولاد يجب أن نكون واقعيين، ونعرف حجم امكاناتنا وقدراتنا، ولا نتخلى عنها بحجة أننا أضعف ، نحن نعرف قبل أن نبدأ بأننا اضعف وأساليبنا محدودة وقليلة، ولكن لنرَ كيف نستثمر هذه القدرة الصغيرة بشكل أفضل. لأنه في المقابل قابلية أولادنا ومجتمعنا للتفاعل معنا قابلية كبيرة جداً ، وهذه مسألة يجب أن لا ننساها ، فوسطنا متأثر بالمناخ الإسلامي الذي أوجدته الثورة الإسلامية المباركة والمقاومة الإسلامية ، والعلماء الأعلام ، كل من عمل في الواقع المعاصر أو عبر التاريخ ، ساهم في هذا التأثير فأوجدوا ساحة مهمة جداً .

لو أجرينا اليوم دراسة عن الحجاب في وسطنا الشيعي بالمقارنة مع الحجاب قبل 25 أو 30 سنة، نحن أحسن بكثير مما كنا عليه قبل 30 سنة ، كان هناك تقليدية معينة، أما الآن فهناك وعي والتزام عن فهم وتمسك . إذاً وسطنا وسط مساعد فلا ينبغي أن نتهاون وننكسر ونقول ماذا نستطيع أن نواجه ؟ لا ، هناك عوامل استفزاز أحياناً تشكل لك نوعاً من الحصانة، الغرب يستفزنا . الحمد لله تعالى فقد تكون من نعمه هذه الحروب التي تحصل ، ووقاحة أمريكا في طريقة تصرفها ، لان هذه الاعتداءات تشكل استفزازاً وتحصيناً وردة فعل غير مباشرة ، يبقى علينا أن نستفيد ونبني على أسس متينة .

إذاً يجب أن نفهم قدرتنا بشكل جيد، وان نعمل بطريقة واقعية، كي نؤدي الهدف المطلوب .

اسأل الله تعالى أن نتوفق للقيام بهذه الوظيفة الدينية في هذا العالم المتغير بأكبر تشويق ممكن ، وبأفضل أساليب ممكنة، كي نخدم هذا الجيل ، ونقوم بتكليفنا الشرعي، والحمد لله رب العالمين.