محاضرات

الكلمة التي ألقاها في مؤتمر دور القرآن في نهضة الشعوب الذي أقامه معهد المعارف الحكمية في قاعة رسالات في 3/10/2012

دور القرآن في نهضة الشعوب

 بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق مولانا وحبيبنا وقائدنا أبي القاسم محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وصحبه الأبرار المنتجبين.
 السلام عليكم أيها السادة العلماء، أيها الأخوة والأخوات، ورحمة الله وبركاته.
 أشكر رئيس معهد المعارف الحكمية سماحة الشيخ شفيق جراده على اقامة هذا المؤتمر القيِّم: "أثر النص القرآني في بناء نهضة الأمة"، لأننا بحاجة ماسة لنستعيد بعض الأسس التي أدَّت إلى النهضة الإسلامية المعاصرة التي نعيشها اليوم، والحديث ليس عن نهضة سابقة، وإنما عن نهضة مستمرةٍ متكاملة تمَّ إحياؤها من جديد ببركة الإمام الخميني(قده).
 القرآن الكريم من الخالق إلى البشر، وهو التعبير عن الأكمل إذ لا كمال فوقه، والنص القرآني هو مرجع للمواقف الإسلامية وللتوجهات التي يجب أن تسلكها الأمة، ويسلكها رواد النهضة الإسلامية في هذا الزمان وفي كل زمان، ومن دون النص القرآني لا يمكن أن تتحقق الأهداف، بل يجب علينا أن نعرض جميع النصوص على النص القرآني للأطمئنان الى صحتها, فعن رسول الله(ص): "أيُّها النَّاس، ما جاءكم عنِّي يوافق كتابَ الله فأنا قُلتُه، وما جاءكم يُخالفُ كتابَ الله فلم أقُلْهُ"(1)، وهذا ما يوحد الضابطة العامة التي توصلنا إلى القواعد الأساسية كي ننطلق إلى النهضة الحقيقية.
   تتقوم البنية الإنسانية بتعاليم الإسلام، أكان على مستوى الموضوعات أو الإدارة أو التطبيق أو مساحة المباحات ...، فنحن بحاجة إلى أن نجوب دائماً في النص القرآني لنصل إلى ما يتكامل مع متطلبات إنسانيتنا، وهنا تتحقق النهضة من داخل هذا الخيار الإنساني, فهي ليست أمراً اعتبارياً مضافاً من خارجه, وقد أكَّد القرآن الكريم على دور تعاليمه في الاهتداء الى الافضل واللأكمل, قال تعالى: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ"، وقال رسول الله(ص): "يا معاذ، إنْ أردتَ عيشَ السُعداء, وميتةَ الشهداء, والنجاةَ يوم الحشر, والأمنَ يوم الخوف, والنورَ يوم الظلمات, والظِّلَ يوم الحرور, والرَّيَ يوم العطش, والوزنَ يوم الخِفَّة, والهُدى يوم الضلالة, فادرس القرآن، فإنَّه ذكرُ الرحمن, وحرزٌ من الشيطان, ورجحانٌ في الميزان"(3). وعن أمير المؤمنين علي(ع): "وإنَّ القرآنَ ظاهرُه أنيقٌ, وباطنُهُ عميقٌ, لا تَفنَى عجائبُه, ولا تنقضي غرائبُه, ولا تُكْشَفُ الظلماتُ إلا به(4).
1. القواعد الأربعة: انَّ النهضة المعاصرة مدينةٌ لأربعة قواعد أساسية شكَّلت محركاً للنهضة القرآنية الإسلامية المعاصرة انطلاقاً من القرآن الكريم:
 القاعدة الأولى: قاعدة الدين القيِّم, قال تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"(5), الذي يرسخ أصول النهضة الثابتة، ويُبيِّن طبيعة الثوابت والحقائق، ويفسح المجال أمام المتغيرات التي تساعد على الانسجام مع واقعنا وحاضرنا.
 القاعدة الثانية: قاعدة الرحمة، قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"(6)، ليتبين أن القرآن الكريم يخاطب البشرية جمعاء، ويعطيها ما يؤنسها ويريحها ويطمئنها وينظم حياتها، ثم ينقلها بعد ذلك إلى مصاف الأمم العظيمة من موقع رحمته وتفضُّله جلَّ وعلا لخير البشرية.
 القاعدة الثالثة: قاعدة الوحدة، التي دعانا الله تعالى إليها: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا"(7)، الوحدة التي تتمحور حول توحيد  الخالق، والرسالة الواحدة، والنبي الواحد الأكرم محمد(ص)، الوحدة التي تُتَرجم عملياً من خلال الأداء في حياتنا، فهي ليست فكرة في الكتب نتحدث عنها ولا نطبقها، ومن ادعى أنه مع الوحدة عليه أن يرينا مساره العملي كيف اجتمع مع باقي المسلمين في إطار هذه القاعدة القرآنية التي أطلقها الله تعالى.
 القاعدة الرابعة: قاعدة الجهاد، للتحصين والدفاع, "انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ"(8)، هذا الجهاد هو الذي يحمي أمتنا ومجتمعنا، وهو الذي يحصِّننا كي لا يفرضوا علينا أفكارهم وقناعاتهم، وهو الذي يجعلنا نقف دفاعاً عن حقوقنا وعن قناعاتنا، فلا نأخذ ما ليس لنا، ولكننا لا نقبل أن يجرنا الآخرون إلى ما يريدون.
  هذه القواعد الأربعة: الدين القيم، والرحمة، والوحدة، والجهاد، هي التي حرَّكت النهضة المعاصرة التي أطلقها الإمام الخميني(قده)، مستنداً الى الدور الرئيس والمركزي للقرآن الكريم في تحقيق السعادة البشرية, وهو القائل: "ولمَّا كان هذا الكتاب السماوي الشريف – كما يشهد الله تعالى– كتاب هداية وتعليم، ونبراس طريق السلوك الإنساني، لذا وجب على المفسِّر أن يوجِّه المتعلِّم – من خلال كل قصة من قصصه، بل كل آية من آياته نحو الاهتداء إلى عالم الغيب، وإلى حيث تكون العلامات التي تؤدي إلى طريق السعادة، وسلوك طريق المعرفة الإنسانية"(9).
وقال الإمام الخامنئي(حفظه الله ورعاه): "إنَّ الحديث كله يتركَّز على أن القرآن كتابُ حياة الإنسان، إنسان اللانهاية، الإنسان المتكامل، الإنسان ذي الأبعاد، الإنسان الذي لا حدَّ لتكامله، إنَّ هذا الهادي والمعلِّم للإنسان، قادرٌ على أن يرعاه في كل العصور، وإنَّ نظام الحياة اللائق بالإنسان، إنَّما يتعلَّمه الإنسان من القرآن لا غير(10).
 استلهم رجال النهضة الإسلامية هذه المعاني في زمن الاستعمار والاستبداد والتحكم والظلم، فأطلقوا معاني القرآن وبدأوا بتغيير الواقع، وقد استفادت الصحوة الإسلامية المعاصرة من توجيهات النص القرآني، وهذا ما فعلته الثورة الإسلامية المباركة في إيران التي أحيَّت الصحوة من منطلق القرآن الكريم، فاتخذت الدور الريادي بالعودة إلى شريعة الله المقدسة. وانطلق حزب الله الذي حرَّر الأرض والإنسان, فأصبح نموذجاً اسلامياً رائداً, انطلاقاً من إيمانه بالقرآن الكريم، وإتباعاً لنهجه وآياته وتوجيهاته، واستعادت حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين دور الجهاد والمقاومة من منطلق القرآن الكريم.
 القرآن الكريم هو مرجعية الأمة لمواجهة الانحرافات الفكرية والعملية، وهو مرجعية الأمة في الاختلافات المذهبية لتعود إلى وحدة أرادها الله تعالى مشفوعةً بتوحيدٍ لا ينظر إلى المذاهب، وهو المرجعية لتحديد تعريف المؤمن والكافر، فلا يجوز لأحد أن يتهم بعض المسلمين بالكفر أو أنهم مشركون بسبب الاختلاف في التفسير أو الانتماء المذهبي أو الاختلاف السياسي، وكذا لا يجوز ايذائهم أو قتلهم, ففي الحديث الشريف: "كل المسلم للمسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه".
2. العدو الحقيقي للأمة: حققت الصحوة الاسلامية اليوم إنجازاً كبيراً بتحديد العدو الحقيقي للأمة وهو اسرائيل، التي تمثل جرثومة سرطانية في قلب المنطقة، وهي التي تحولت إلى عبء على العالم بأسره، وليست عبئاً على العرب والمسلمين والمسيحيين في هذه المنطقة فقط. إسرائيل لها وظيفة واحدة، وهي إشعال الحروب وإحراق المنطقة لإسقاط كل نهضة وصحوة. وهي تشكل تهديداً يومياً للأمن والسلام العالميين، ويُعتبر وجودها والالتزام بمشروعها نقيضاً للنهضة الإسلامية، فمبنى النهضة مغاير للمشروع الإسرائيلي، الذي لن يسمح للفكر الإيماني الحر أن ينطلق.
أول قواعد النهضة الاستقلال الثقافي والسياسي والاقتصادي والعسكري، وأول نتائج النهضة المباشرة في منطقتنا، تلك المقاومة الإسلامية الشريفة البطلة التي انطلقت من القرآن الكريم، فاختصرت الطريق وقلبت موازين القوى بسرعة في المنطقة، وفاجأت آثارها اللاعبين الدوليين.
3. رؤية المقاومة: إن رؤية المقاومة القرآنية أهم من سلاحها وإمكاناتها، فالرؤية التي تحرك السلاح وليس السلاح منفصلاً عنها. لقد وظَّفت المقاومة هذه الرؤية في الاتجاه الصحيح، ما ادَّى الى أن تنتصر القلَّة على الكثرة من موقع الرؤية وتوفيق الله تعالى, وليس من موقع الإمكانات، وما الانتصار الميداني الذي تحقق في مواجة اسرائيل في تحرير عام 2000, وانتصار عام 2006, إلاَّ بسبب هذه الخلفية القرآنية الإيمانية، التي أطلقت قوة كاملة في أمتنا من أجل التغيير. هذه المقاومة هي جزء من الاستراتيجيا وليست تكتيكاً، هذه المقاومة هي مكوِّن إسلامي ووطني وليست حالة عابرة.
انَّ الذين يصوِّبون على سلاح المقاومة لا يريدون المقاومة، وليس تصويبهم على السلاح وإنما على المقاومة وعلى رؤيتها، فهم يريدون لإسرائيل أن تبقى، هذا هو المشروع الأمريكي الإسرائيلي الذي يريد للسلاح أن يسقط من أجل أن تبقى إسرائيل.
هذه المقاومة الاسلامية هي التي حررت وحمت ومنعت الحرب خلال السنوات الست الماضية، وسيبقى سلاحها مرفوعاً للدفاع بوجه إسرائيل واحتلالها ومشروعها مهما علت الصراخات، فما حقَّقته دماء الشهداء لا يمكن أن تُسقطه بعض الأفواه التي تخدم المشروع الأمريكي الإسرائيلي، سواء عرفتْ ذلك أم كانت جاهلة، لذا سنستمر بالتجهيز والاستعداد بالحد الأقصى مهما كانت التطورات، ولتتجه الأنظار إلى العدو لا إلى إراحته وخدمته.
4. الإساءة للنبي(ص): أختم بحديثٍ عن الإساءة الموصوفة للنبي(ص)، والتي يسلكها الغرب كجزء من مخطط إسقاط نهضة الأمة، هذه الإساءة هي تعبيرٌ عن عجز المواجهة المنطقية والعملية للإسلام الأصيل الحضاري، ولصرف الأنظار عن الاحتلال والعدوان. إن خطوات الدفاع عن النبي(ص) يجب أن تملأ الساحات والعالم، وأن تكون حاضرة بشكل يومي، ويجب أن يفهم الغرب أن مقدساتنا عصية على الاقتلاع، وأن ردة الفعل معاكسة لما يتوقعون، فإذا أرادوا من خلال الإهانة أن يُسقطوا قدسية ومشروعية حضور النبي(ص) والقرآن فينا، فسيكتشفون أنهم عزَّزوا هذه القدسية فينا, وحفَّزونا للمزيد من الاستعداد لمواجهة مخططاتهم، وفقنا الله تعالى وإياكم لكل خير, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

1) الشيخ الكليني، الكافي، ج 1، ص: 69.
2) المصدر نفسه.
3) المتقي الهندي, كنز العمال, ج 1, ص: 545.
4) نهج البلاغة, من الخطبة 18, ص: 63.
5) سورة الروم, الآية: 30.
6) سورة الأنبياء, الآية: 107.
7) سورة آل عمران, الآية: 103.
8) سورة التوبة, الآية: 41.
9) الإمام الخميني(قده)، آداب الصلاة، ص: 286.
10) الإمام الخامنئي(حفظه المولى)، مجلة التوحيد، ص: 41.