طَرَحَ الإمام الخامنئي(دام ظله) مصطلح "السِّيادة الشَّعبية الدِّينية", أو "حاكمية الشَّعب الدِّينية", لتقديم نموذج الجمهورية الإسلامية في إيران على نهج الإمام الخميني(قده) بأبعاده وأُسسه التي تحاكي متطلبات النَّاس في إقامة الدولة العادلة، مبيِّنًا قدرة الدِّين على إعطاء الحرَّية للشَّعب في خياراته السياسية والتنفيذية, ومواكبة متطلباته من خلال نظام الحُكم الإسلامي، فقال:
"إنَّ النظام الإسلامي الذي يمثل أنموذجًا جديدًا للسيادة الشَّعبية الدِّينية قدَّمَ نهجًا جديدًا للبشرية, يصون حياة النَّاس من آفات الأنظمة التي بُنيت على الاستبداد الفردي والحزبي, أو المنبثقة عن نفوذ الناهبين لثروات الشعوب الذين غرقوا في مستنقع الماديات والإباحية وابتعدوا عن الإيمان لكي يشكِّلوا جبهة جديدة ضدّ الموحدين الذين يعتمدون على أصوات الشعوب.
وأكَّد قائد الثَّورة المعظّم أنَّه لم يكن من المُستبعد تعرّض الأنظمة المبنيّة على أساس القوة والقهر والبطش والقوى الاستكبارية لظاهرةٍ حديثة تمثَّلت في السِّيادة الشَّعبية الدِّينية التي قدَّمت نموذجًا جديدًا في النمو والقوة والازدهار, لتدحض تلك الأنظمة التي فصلت الإنسان عن ربّه وإيمانه بذريعة الدفاع عن حقوقه, وغرست مخالبها في عنقه بمختلف الأساليب"(26).
وقد أكّد الإمام الخامنئي(دام ظله) على أنَّ أصول السِّيادة الشَّعبية تُبنى على حكم الإسلام وسيادة الشَّعب: "إنَّ تجربة هذه السنوات الـ 33 تدلُّ على أنَّ الإسلام يمكنه أن يمنح العزَّة لأيِّ بلد، ويُمكِن أن يرفع رأس أيّ شعب، ويُمكِن أن يرسم أهدافًا جيّدة، ويُمكِن أن يُعبِّد الطرق نحو هذه الأهداف، ويُمكِن أن يُوجِد حركةً علميّة، ويُمكِن أن يُحقِّق حركةً تقنية وصناعية، ويُمكِن أن يُوجِد حركةً تقوائية وأخلاقية، ويُمكِن أن يُبيِّض وجوههم في مقابل الشعوب الأخرى. هذه أحداثٌ جرت في بلدنا، وهذه أعمالٌ كبرى أُنجزت ببركة الإسلام في هذا البلد, فالإسلام دومًا هو لبُّ حركة نظامنا ومحتواه ومادّته الأساسية. أمَّا الشكلّ فهو شكلّ السِّيادة الشَّعبية، وهما أمران لا تفكيك بينهما, أي إنَّ هذه السِّيادة الشَّعبية هي أيضًا نابعة من الإسلام. إنَّ ما يُقال بأنَّنا اقتبسنا السِّيادة الشَّعبية من الغرب هو خطأٌ, إنَّ الصورة بحسب الظاهر واحدة. أمَّا سيادتنا الشَّعبية فلها أصولٌ وجذورٌ تمتدُّ في معرفةٍ دينية ورؤية كونية مختلفة, فماذا يقول هؤلاء؟ إنَّنا نؤمن بكرامة الإنسان ونعتقد بأهمية صوته، ونعتقد بأنَّ مشاركته أمرٌ ضروري لتحقُّق الأهداف الإلهية، ولا يمكن ذلك بدونها"(27).
إنَّ دور الشَّعب هو الأساس، وهو أحد ركني النظام، ولذا كان تعريف النظام الإسلامي بـ: "السِّيادة الشَّعبية الدِّينية"، فما دام الشَّعب هو الذي يختار القائد بالانتخاب، ويختار رئيس الجمهورية ومجلس الشورى ومجالس البلديات وكلّ مواقع الدولة الرئيسة بالانتخاب الشَّعبي، فالنظامُ الجمهوري قائم بسلطاته الحاكمة والتنفيذية على خيار الشَّعب ومشاركته. وأمَّا الركن الآخر فهو الإسلام، الذي يطرح الحلول الإلهية في بناء الدولة لمصلحة الإنسان، "وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ"(28أ).
وقد ورد التأكيد على دور الشعب في المادة السادسة والخمسين من دستور الجمهورية الإسلامية: "الله(سبحانه) هو الحاكم المطلق على العالم والإنسان، وهو الذي فوَّض إلى الإنسان حق تقرير مصيره الاجتماعي، ولا يجوز لأحدٍ سلب الإنسان هذا الحق الإلهي, أو إجباره لخدمة فردٍ أو جماعةٍ معينة، ويمارس الشعب هذا الحق الممنوح له من الله(سبحانه) بالطُّرق المذكورة في المواد اللاحقة"(28ب).
وقد اعتبر سماحة قائد الثَّورة الإسلامية "الجمهورية" و "الإسلامية" بأنَّهما رکنان أساسيان للنظام الإسلامي. وقال في معرض تبيينه للمفهوم الحقيقي للجمهورية: إنَّ المشاركة وشعور الشَّعب بالمسؤولية على صعيد تشكيل النظام وانتخاب مسؤوليهم هي من مصاديق "الجمهورية" في النظام الإسلامي.
إنَّ المفهوم الآخر للجمهورية يتمثّل في أنَّه يجب على مسؤولي النظام أن يكونوا من الشَّعب ومع الشَّعب, وأن تكون تصرفاتهم مشابهة لأبناء الشَّعب, ويكونوا بعيدين كلّ البعد عن الديکتاتورية والأرستقراطية وإهمال الشَّعب.
وأشار سماحته إلى قضايا مثل: الاحترام للمعتقدات وتطلعات أبناء الشَّعب وقِيَمهم والاهتمام بسمعة وشخصية وهوية الشَّعب باعتبارها أبعادًا أخرى من جمهورية النظام الإسلامي.
وفي معرض تبيينه "إسلامية" النظام قال: إنَّ مختلف أبعاد "الجمهورية" تحظى أيضًا بالدعم الإسلامي والمعنوي في الجمهورية الإسلامية, وإنَّ كلّ عمل هادف لرفاه الشَّعب وتعزيز أُسس النظام الإسلامي واعتزازه له مكافأة إلهية"(29).
إنَّها دعوةٌ لتبنّي الإسلام كتشريعٍ للدولة ينافس التشريعات المادِّية، ويتفوَّق عليها بأطروحته الإلهية التي تؤمِّن متطلبات الإنسان السعيد، ولعلَّ الخطأ الكبير الذي يقع فيه الكثيرون هو التعامل مع الإسلام كعصبية منافسة للعصبيات الدِّينية الأخرى، أو كانتماءٍ ديني مقابل الانتماءات الأخرى، علمًا بأنَّ مشروع الإسلام للدولة يطرحُ رؤيةً تنظيميةً متكاملة, وهي المقابل للنظريات الرأسمالية والشيوعية وغيرهما. قال الإمام الخامنئي(دام ظله): "في السِّيادة الشَّعبية الإسلامية، إنَّ الروح واللب والمادّة الأساسية عبارة عن الإسلام، ولا ينبغي تخطّي هذا الأمر أبدًا، وهذا غير موجود، وإن شاء الله لن يكون موجودًا. ففي إعداد التشريعات واختيار الأفراد يكون الإسلام معيارنا. إنَّ شكلّ العمل وقالبه ونهج الإدارة هو السِّيادة الشَّعبية. فالنَّاس الذين يدخلون إلى ساحات العمل يحملون عقيدةً راسخةً بالإسلام، ولو كان من الممكن أن يبدو لبعضهم بحسب الظواهر أنَّهم ليسوا ملتصقين بالإسلام والنظام الإسلامي، ولكنَّهم في الواقع كذلك، وهم يحبّون الإسلام"(30).
الحقيقة الساطعة بأنَّ نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو نظامٌ مُبدع، قد أوجَدَ له حضورًا في هذا العالم، وشقَّ طريقه بحضورٍ واسع في مواجهة الهيمنة والاستكبار. قال الإمام الخامنئي(دام ظله): "إنَّ نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية نظامٌ مُبدع من حيث التركيز على الدِّين في تشكيل نظامه السياسي والاجتماعي، وهذا الإبداع بعنوان سيادة الشَّعب الدِّينية وبهويته المناهضة للهيمنة والاستكبار تمكَّنَ من تبوء مكانته في العالم وبين المسلمين سيّما المفكرين ونخبة العالم الإسلامي، والقوى العظمى اضطرت إلى الاعتراف بهذا الواقع"(31).
ليس كلّ من رفع شعار الإسلام أو ادَّعاه صَدَقَ في شعاره أو ادعائه، وهنا تكمن أهمية المصطلحات في انسجامها مع المقصود منها. وقد سمعنا بشعار "الإسلام المعتدل"، وكأنَّ الإسلام بحاجة إلى هذه الإضافة المندكَّة في تعاليمه بالأصل، فلا يمكن الحديث عن الإسلام إلَّا وفيه التعبير الحقيقي عن الاعتدال، قال تعإلى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاس وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاس لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ"(32). لكنَّهم يقصدون بهذا الشعار تلك الدول التي وضعت في دساتيرها بأنَّ دين الدولة الإسلام ولكنَّ مضمونها غربي، وهم يمارسون مظاهر الصلاة والصوم واستخدام المفردات الإسلامية في خطبهم وأحاديثهم، إلَّا أنَّ أفكارهم وأعمالهم ودساتيرهم ومواقفهم السياسية بعيدة عن الإسلام ومنسجمة مع مطالب الاستكبار، ونسمع دائمًا من الدول الغربية إشادةً بـ"الإسلام المعتدل"! الذي تتبناه بعض الدول، والذي فضحه الإمام الخميني(قده) بإعطائه الوصف الحقيقي بأنَّه "الإسلام الأميركي" الذي لا علاقة له بدين الله تعإلى.
لا يجوز أن نقع فريسة المصطلحات التي تُستخدم لتشويه الحقائق والتشويش وصرف المسار، كالديمقراطية والسَّلفية والاعتدال..., وقد بيَّن الإمام الخامنئي(دام ظله) عدم اعتراضه على بعض المصطلحات إذا ما كانت تعبِّر عن حقيقة سليمةٍ وصائبةٍ، ولكنَّه رفض بشكلّ قاطع المصطلحات التي تستبطن المعاني والمضامين المخالفة للإسلام. قال الإمام الخامنئي(دام ظله): "في هذا الجهاد الكبير، مهمتكم الأصلية ستكون جبران ما عاناه بلدكم في حقب التخلف، والاستبداد، والابتعاد عن الدِّين، والفقر، والتَّبعية، في أقصر مدّة بإذن الله، وستكون كيفية بناء مجتمعكم بتوجّه إسلامي وبأسلوب حاكمية الشَّعب مع مراعاة العقلانية والعلم، وتتجاوزوا التهديدات الخارجية واحدة بعد أخرى، وكيف تؤسسون "الحرِّية والحقوق الاجتماعية" بدون الليبرالية، و"المساواة" بدون "الماركسية"، و"التنظيم والانضباط" بدون "الفاشية الغربية". حافظوا على التزامكم بالشريعة الإسلامية التَّقدُّمية دون أن تقعوا في جمودٍ وتحجُّر، واعرفوا كيف تكونون مستقلين دون أن تنزووا، وكيف تتطورون دون أن تكونوا تابعين، وكيف تمارسون الإدارة العلمية دون أن تكونوا علمانيين ومحافظين.
يجب إعادة قراءة التعاريف وإصلاحها. الغرب يقترح عليكم نموذجين: "الإسلام التكفيري", و"الإسلام العلماني"، وسوف يواصل التلويح بذلك كي لا يستقوي الإسلام الأصولي المعتدل والعقلاني بين ثورات المنطقة. استعيدوا تعريف الكلّمات مرة أخرى وبدقّة.
إذا كانت "الديمقراطية" بمعنى الشَّعبية والانتخابات الحرَّة في إطار أصول الثورات فلتكونوا جميعًا ديمقراطيين. وإذا كانت بمعنى السقوط في شراك الليبرالية الديمقراطية التقليدية ومن الدرجة الثانية فلا يكن أحدٌ ديمقراطيًّا.
و"السَّلفية" إذا كانت تعني العودة إلى أصول القرآن والسنة، والتمسك بالقِيَم الأصيلة، ومكافحة الخرافات والانحرافات، وإحياء الشريعة، ورفض التغرُّب فلتكونوا جميعًا سلفيين، وإذا كانت بمعنى التعصّب والتحجُّر والعنف في العلاقة بين الأديان أو المذاهب الإسلامية, فإنّها لا تنسجم مع روح التجديد والسماحة والعقلانية التي هي من أركان الفكر والحضارة الإسلامية، بل ستكون داعيةً لرواج العلمانية، والتخلّي عن الدِّين.
كونوا متشائمين من الإسلام الذي تطلبه واشنطن ولندن وباريس، سواء من النوع العلماني المتغرّب، أو من النوع المتحجّر والعنيف. لا تثقوا بإسلام يتحمّل الكيان الصهيوني لكنَّه يواجه المذاهب الإسلامية الأخرى دونما رحمة، ويمدّ يد الصلح تجاه أمريكا والناتو لكنَّه يعمد في الداخل إلى إشعال الحروب القبلية والمذهبية. وراء هذا الإسلام من هم أشداء على المؤمنين رحماء بالكافرين. كونوا متشائمين من الإسلام الأمريكي والبريطاني إذ إنّه يدفعكم إلى شرك الرأسمالية الغربية والروح الاستهلاكية والانحطاط الأخلاقي"(33).
25- الفتوح لإبن الأعثم, ج 5, ص: 33 - مقتل الخوارزمي, ج1, ص: 188.
26- 20/2/2007.
27- خطاب الولي 2012, ص: 120.
28- سورة النمل, الآية: 6.
28ب- دستور الجمهورية الإسلامية في إيران, ص: 37.
29- 7/10/2009.
30- خطاب الولي 2012, ص: 119.
31- 17/4/2007.
32- سورة البقرة, الآية: 143.
33- خطاب الولي 2012, ص: 70 و71.