في أواخر العام 2010م انعقد الملتقى الأول للأفكار الاستراتيجية، وقد انطلقت الفكرة من تبني موضوع واحد أساسي بحسب الأولوية, في المجتمع والدولة، ومعالجته من الجوانب المختلفة، بحضور العلماء والنُّخب والمتخصصين، ثم إصدار الخطة الاستراتيجية لهذا الموضوع, ثم تتالت الملتقيات لمعالجة موضوعات أخرى وبشكلّ شامل من الجوانب كافة, بحسب الأولوية والحاجة.
أكَّد الإمام الخامنئي(دام ظله) على وجوب امتلاك تخطيط طويل الأمد، انطلاقًا من البصيرة التي تفتح الآفاق نحو الخيارات المفيدة والسليمة. قال: "نحن يجب أن نمتلك تخطيطًا طويل الأمد. وليس هذا مكان البحث في البرنامج الطويل الأمد - هناك مراكز فكرية، نوادٍ فكرية، مراكز سياسية وثقافية، تتابع هذه المسائل وينبغي أن تقوم بها, وهي تقوم بذلك حاليًّا - ما يمكن أن أقوله اليوم إنّ هناك أرضية أساسًا للتخطيط الطويل المدى، ذكّرت بها مرارًا، وأجد من الواجب أن أتحدّث حولها أكثر، ألا وهي مسألة اكتساب البصيرة"(10).
وقد أُعلن في الاجتماع الأول من نوعه في الجمهورية الإسلامية أهداف الملتقى الأول للأفكار الاستراتيجية، تحت عنوان "النموذج الإسلامي - الإيراني للتقدّم", والذي يهدف للوصول إلى ثقافةٍ توجيهية واحدة، ومفاهيم ناتجة عن الفكر الإسلامي، ورؤى فكرية أصيلة مستمدة من خصوصيات الجمهورية الإسلامية، بعيدًا عن التقليد والتَّبعية. تحدّث الإمام الخامنئي(دام ظله) في الملتقى، ومما قاله: "هذا هو الاجتماع الأول من نوعه في الجمهورية الإسلامية. ..
هدفنا الأول من إقامة هذا الاجتماع - أو بكلّمة أدق: سلسلة الاجتماعات التي ستستمر في المستقبل أيضًا إن شاء الله - هو بالدرجة الأولى أن يندكَّ مفكرو البلاد بقضايا البلاد الكبرى ..
هدفنا الثاني الذي نتوخاه من هذه الجلسة هو: إيجاد ثقافةٍ وخطابٍ بين النخبة أولًا، وثانيًّا بين عموم المجتمع تبعًا لذلك.
هذه الآراء التي طرحتموها الليلة حينما تنتشر على مستوى المجتمع سوف تَسوقُ أذهان النخبة ومن ثم أذهان عموم النَّاس إلى اتجاه معيَّن أساس: هو التفكير في نموذج للتَّنمية ونموذج للحركة نحو الإمام، والشعور بأنَّنا يجب أن نكون مستقلِّين في هذا المجال, ونقف على أرجلنا, حالة سوف تكشف أكثر فأكثر عن معايب التَّبعية والاعتماد على النماذج الأجنبية. هذا ما نحتاج إليه راهنًا. للأسف مجتمع نخبتنا لم يصل إلى نتائج صحيحة في أجزاء مهمة من هذه القضية، وهذا ما يجب أن يحصل وسيحصل بحول الله وقوته.
هدفنا الثالث هو: احتياجنا إلى تمهيد السبل ومدّ السكك لإدارة البلاد على مدى عشرات الأعوام القادمة. هذه الجلسة والجلسات الشبيهة بها سوف تُفضي إلى مثل هذا التمهيد للسُّبل ومدّ السكك.
حسنًا، قدَّم الأعزاء نقاشات جيّدة بخصوص مفردات هذه الجملة: "النموذج الإسلامي - الإيراني للتقدم". تم تقديم آراء جيدة حول معنى هذا النموذج، وما هو المراد من الإيراني, وما هو المقصود من الإسلامي، والتَّقدُّم في أي اتجاهات؟ ما أريد أن أضيفه هو أولًا: كلّمة التَّقدُّم اخترناها بدقة وتعمّدنا عدم استخدام كلّمة التَّنمية. والسبب هو أن كلّمة التَّنمية لها محتوى من حيث القِيمة والمعنى, ولها لوازمها التي قد لا نكون من المواكبين أو المتماشين أو الموافقين لها. لا نريد استخدام مصطلح عالمي دارج يُفهم منه معنىً خاص وإشراكه في مهمتنا وعملنا. إنما نطرح ونعرض مفهومنا الذي نقصده، وهذا المفهوم عبارة عن "التَّقدُّم".
وقد كانت لنا تجربة عدم استعارة المفاهيم في مواطن أخرى من الثَّورة. لم نستخدم مثلًا كلّمة إمبريالية واستخدمنا كلّمة استكبار. قد تكون هناك بعض الجوانب في معنى الإمبريالية لا نوافقها ولا نقصدها، وتأكيدنا ليس على تلك الجوانب وإنما على المعنى المستحصل من كلّمة الاستكبار. لذلك طرحنا هذه الكلّمة وتكرَّست في الثَّورة، والعالم اليوم يفهم قصدنا منها، وكذا الحال بالنسبة لمفاهيم أخرى.
إذن، هذا النموذج إيراني، ومن ناحية أخرى فهو نموذج إسلامي، ذلك أن غاياته وأهدافه وقيمه وأساليب العمل فيه مستقاة كلّها من الإسلام. أي إنَّ اعتمادنا قائم على المفاهيم والمعارف الإسلامية. نحن مجتمع إسلامي وحكومة إسلامية.
من دون الخارطة الشاملة سوف نُصاب بالحيرة والاضطراب، وقد كنا طوال هذه الأعوام الثلاثين نُعاني من تحركات غير هادفة وارتدادية, فنذهب ذات اليمين وذات الشمال وربما قمنا أحيانًا بشيء ثم قمنا بنقيضه - سواء في مجال الثقافة, أو في مجال الاقتصاد, أو في المجالات المتنوعة الأخرى - والسبب في ذلك عدم وجود خارطة شاملة. وهذا النموذج هو الخارطة الشاملة التي تقول لنا إلى أي اتجاه يجب أن نسير, وما الهدف الذي يجب أن نتجه نحوه ..؟
ما أضيفه هنا هو أن مجالات هذا التَّقدُّم يجب أن يتم تشخيصها عمومًا. هناك أربعة مجالات أساس:
المجال الأول والأهم: هو المجال الفكري. يجب أن نأخذ المجتمع نحو أن يكون مجتمعًا مفكّرًا, وهذا درس من دروس القرآن. لاحظوا كم ترد في القرآن الكريم عبارات: ﴿ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾, و﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾, و﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾, و﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ﴾. علينا جعل تفجّر الأفكار والتفكير في مجتمعنا حقيقة واضحة جلية.
المجال الثاني: الذي تعدّ أهميته أقل من أهمية المجال الأول هو مجال العلم, يجب أن نتقدّم في العلوم.
المجال الثالث: مجال الحياة الذي سبق أن أشرت إليه، وتندرج فيه جميع الأشياء المطروحة في حياة المجتمع كقضايا أساس وخطوط أساس, من قبيل الأمن والعدالة والرفاه والاستقلال والعزة الوطنية والحرِّية والتعاون والدولة.. هذه كلّها أرضيات للتَّقدم, يجب متابعتها والخوض فيها.
المجال الرابع: وهو الأهم من كلّ هذه الأمور ويعدّ بمثابة الروح لكلّ هذه الأمور, هو التَّقدُّم في المجال المعنوي... يجب أن يتضح للجميع أن المعنوية لا تتعارض إطلاقًا لا مع العلم ولا مع السياسة ولا مع الحرية ولا مع الأمور الأخرى، إنما المعنوية هي روح كلّ هذه الأمور. يمكن بالمعنوية الوصول إلى قمم العلم وفتحها، بمعنى أن تكون هناك معنوية وقيم روحية ويكون هناك إلى جانبها تقدّم علمي. وحينئذٍ سيكون العالم عالـمًا إنسانيًّا، سيكون عالـمًا جديرًا بحياة الإنسان. والعالم اليوم هو عالم الغابة. العالم الذي يترافق فيه العلم مع المعنوية وتترافق فيه الحضارة مع المعنوية وتترافق فيه الثروة مع المعنوية سوف يكون عالـمًا إنسانيًّا.
بخصوص المحتوى الإسلامي كان للأعزاء إشارات جيدة جدًّا:
الأولى التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار هي مسألة المبدأ أو مسألة التوحيد. ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾.
الثانية هي قضية المعاد والحساب, وعدم انتهاء المطاف والأمور بزوال الجسم عند الموت. إنَّها قضية على جانب كبير من الأهمية أنّ هناك حسابًا وكتابًا, ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾. الشَّعب الذي يعتقد بهذا ويكون هذا المعنى في برامجه العملية: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾. سوف يحدث تحول أساس في حياته. ..
ثم هناك مسألة عدم الفصل بين الدنيا والآخرة: "الدنيا مزرعة الآخرة"..
المسألة الأخرى هي مسألة الإنسان، ونظرة الإسلام للإنسان، ومحورية الإنسان..
وبخصوص المسألة الاقتصادية قدّم السادة بحوثًا جيدة. ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾ معيارٌ مهم. قضيةُ العدالة مهمة جدًّا. لا بدَّ أن تكون العدالة من الأركان الأصلية في هذا النموذج. ..
المسألة الأخرى هي النظرة غير المادِّية للاقتصاد. الكثير من هذه المشكلّات التي ظهرت في العالم إنما هي بسبب النظرة المادِّية للمسألة الاقتصادية ومسألة المال والثروة. كلّ هذه الأمور التي ذكرها الأعزاء حول انحرافات الغرب والمشكلّات العديدة وحالات الاستثمار والاستعمار وما إلى ذلك بسبب النظرة المادِّية للمال والثروة. يمكن تصحيح هذه النظرة. فالإسلام يهتم بالثروة ويقيم اعتبارًا لها. وإنتاج الثروة في الإسلام عملية محبَّذة، ولكن بنظرة إلهية ومعنوية. والنظرة الإلهية والمعنوية هي أن لا تُستخدم هذه الثروة للفساد والهيمنة والإسراف, وإنما تُستخذم لصالح المجتمع.. وغير ذلك من المسائل العديدة الموجودة"(11).
شكَّلَ الاهتمام بالمصطلحات الفكرية والثقافية الجديدة التي تنسجم مع الإسلام أحد المفاصل الأساسية في لغة الثورة, والشعارات التي أطلقها الإمام الخميني(قده), والتوجيهات التي ركَّزَ عليها الإمام الخامنئي(دام ظله), وقد نالت حظًّا من البحث والتأكيد عليها في الملتقى الأول للأفكار الاستراتيجية، فلكلّ مصطلح يصدر عن أيّ فكر أو جهة معناه وخصوصياته, فإذا ما نقلناه كما هو, كان مُثقلًا بالمعاني التي أرادها واضعوه, وهو يختلف عما نريده ونعنيه, لذا كان من مهمات هذا الملتقى أن يعالج هذه المسألة, وقد أعطى سماحته بعض النماذج عن المصطلحات ومعناها, وما نقبله وما نرفضه, وذلك في أحد اجتماعات التعبئة العامة. فقال: "من الأمور الضرورية في كلّ حركة عامة وفي كلّ نهضة، أن يتم "وضع اصطلاحات", وكذلك بناءُ مؤسساتٍ على أساس الأفكار والأسس الأصيلة لهذه النَّهضة الإسلامية وهذا التيار. عندما يُطرح فكرٌ جديد - كفكر الحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي والنَّهضة الإسلامية - فإنَّ هناك مفاهيم جديدة تظهر في المجتمع, لذلك فإنَّ على هذه الحركة وهذه النَّهضة امتلاك الاصطلاحات المتناسبة معها. إذا جرت استعارة الاصطلاحات الأجنبية فإنّ الجوّ سيتلبد ويرتبك، وستبقى المفاهيم المطلوبة غائبة.
نحن نقبل بحاكمية الشَّعب (الديموقراطية), وكذلك نقبل بالحرِّية، ولكنَّنا لا نقبل بالليبرالية الديموقراطية، مع أنَّ المعنى اللغوي لـ "الليبرالية الديموقراطية" هو الحرِّية وحاكمية الشَّعب هذه، لكنَّ اصطلاح "الليبرالية الديمقراطية" في معناه الرائج عند شعوب العالم وفي تلقي الجميع، يترافق مع مجموعة مفاهيم نحن لا نُقرّها, فلا نرغب بوضع ذلك الاسم على المفهوم النَّقي والصحيح والخالص الذي نملكه, لذلك فإنَّنا نضع اسمًا جديدًا على نظامنا المنشود, فنقول: "حاكمية الشَّعب الدِّينية" أو "الجمهورية الإسلامية", أي أنَّنا نختار اسمًا جديدًا.
وفيما يتعلق بالتوزيع الصحيح للثروة والاستفادة الجماعية من الأموال العامة، والتي هي من الأهداف الأصلية السامية للإسلام، فإنَّنا لا نستخدم اصطلاح الاشتراكية "سوسياليسم", مع أنَّ الاشتراكية لغويًّا تعني ذلك المفهوم، لكنَّها ترافقت مع مفاهيم أخرى لا نرتضيها، وتمتزج مع وقائع لا نقبلها في التاريخ والمجتمع. لذلك وبدلًا من الاصطلاحات التي كانت معروفة بين الماركسيين واليساريين وغيرهم، طرحنا اصطلاح "الاستكبار", و"الاستضعاف", و"الشَّعبية". نحن وضعناها، أي إنّ الثَّورة وضعتها، ولم يكن لأشخاص معنيين في هذا المجال، تأثير حتمي وقاطع"(12).
10- خطاب الولي 2010, ص: 424.
11- خطاب الولي 2010, ص: 470 و 477.
12- خطاب الولي 2011, ص: 468.