مقالات

المقالة التي نشرتها جريدة السفير لسماحة الشيخ تحت عنوان "الانتصار نموذجاً تطبيقياً للمرتكزات السلوكية عند حزب الله" في 14/7/2007

تبقى المقاصد التربوية مجرد أهداف نظرية إذا لم تترجم بخطط وبرامج عملية تربوية، تتحول إلى مرتكزات سلوكية تطبع أداء المنتمين إلى حزب الله. وقد ركز حزب الله اهتمامه لتحويل النظرية إلى سلوك، وبذل جهوداً متنوعة في المجالات المختلفة، فغطَّى مساحة هامة في الفكر والروح، والتربية، والسلوك، والجهاد، والسياسة، ... ما أوجد حالة تكاملية في بناء الفرد والجماعة، بمراعاة تنوع المنضمين إلى حزب الله من شرائح المجتمع المختلفة.

تبقى المقاصد التربوية مجرد أهداف نظرية إذا لم تترجم بخطط وبرامج عملية تربوية، تتحول إلى مرتكزات سلوكية تطبع أداء المنتمين إلى حزب الله. وقد ركز حزب الله اهتمامه لتحويل النظرية إلى سلوك، وبذل جهوداً متنوعة في المجالات المختلفة، فغطَّى مساحة هامة في الفكر والروح، والتربية، والسلوك، والجهاد، والسياسة، ... ما أوجد حالة تكاملية في بناء الفرد والجماعة، بمراعاة تنوع المنضمين إلى حزب الله من شرائح المجتمع المختلفة.

ولا يمكن تعريف الفرد في حزب الله على أساس قناعته الفكرية أو التزاماته السياسية، بل لا بدَّ من ملاحظة إيمانه وسلوكه وجهاده، من خلال عباداته ومعاملاته ومقاومته، لتكتمل الصورة عن مميزات الملتزم بهذا المنهج بشكل واقعي.

وقد كشف العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006 قوة وصلابة البناء المقاوم عند عناصر حزب الله، وفي كل البيئة الاجتماعية المحيطة بهم، بحيث واجه الصهاينة رجالاً أشداء واثقي الخطى، ومجتمعاً مقاوماً صابراً وصامداً. فكان الانتصار الاستراتيجي الكبير للمقاومة بعد ثلاثة وثلاثين يوماً من المواجهة الشرسة التي استخدمت فيها كل الإمكانات لإنجاز الهدف، وكان العزُّ عظيماً بتحقيق تلك الثلة المؤمنة المجاهدة أول إنجاز من نوعه منذ نشأة الكيان الإسرائيلي الغاصب في منطقتنا.

يمكننا أن نتلمَّس بوضوح مجموعة من العناوين التطبيقية الهامة التي أبرزها انتصار الوعد الصادق في مواجهة عدوان تموز 2006، وهي حصالة المرتكزات السلوكية للمقاصد التربوية عند حزب الله، وتمثَّل النموذج التطبيقي، كثمرة واقعية، تتيح لنا المجال لتقييم قدرة المرتكزات في الواقع العملي، نذكر منها:

1- المقاومة حالة تربوية متجذِّرة: وهذا ما ظهر جلياً عند المقاومين ومجتمع المقاومة، من خلال الاعتقاد والسلوك. حيث تحولت المقاومة عندهم إلى قناعة راسخة بوجوبها، وأولويتها على ما عداها، وضرورتها لحماية الأهل والوطن، وقدرتها على أن تشكل بوابة الصمود أمام الرياح الدولية والعدوانية. وتحولت إلى حياة يومية يعيشونها في مواكبتها، وتطوير فعاليتهم من خلالها، ومتابعة أخبارها وإنجازاتها، وتربية الأسرة والمحيط على الارتباط بها، والعمل الدؤوب لحماية وجودها، وبناء منظومة العلاقات الوطنية على أساس تأييدها ونصرتها.

أصبحت المقاومة جزءًا من حياتهم اليومية، هي التي تمثل الشأن الأهم في مقابل كل شيء، فقد رأوا من خلالها إنجازات التحرير والانتصار والعز والاحترام ومعنى الحياة الشريفة المستقلة. هُمُ المقاومة والمقاومة هم، حيث يصعب التفكيك بينها وبينهم، فعاشوها كما النسيم، بل هي الحياة بعينها بالنسبة إليهم. فقد لاحظنا كيف عاش العالم بأسره روح المقاومة والمقاومين في مواجهات عدوان تموز، تبرز في المواقع الأمامية، وفي القرى، وأماكن التهجير، وفي كل نتيجة من نتائج الصمود الأسطوري لهؤلاء الشرفاء.

2- التأسيس والتأصيل: ليست المقاومة ردة فعل سطحي وعفوي، بل هي ردة فعل تأسيسي وتأصيلي. أمَّا الفعل التأسيسي في بنية مشروع المقاومة الفكري والسياسي، فهو الذي ينظر إلى الحالة الصهيونية في منطقتنا كخطر داهم ومستمر باستمرارية هذا الكيان التوسعي، وأنَّ مواجهته تحتاج إلى بنية متينة، تتعرف على واقع وحقيقة هذا العدو، وتؤسس بما يكون مؤهلاً لمواجهته ومواجهة أهدافه ومشاريعه ضد منطقتنا وبلدنا.

أمَّا الفعل التأصيلي فهو الذي يتعاطى مع المقاومة كمشروع متكامل، لا يكفي معه السلاح للمواجهة، بل لا بدَّ من حشد كل المقومات الثقافية والسياسية والإعلامية والتربوية والعسكرية... من منظور سيادتنا واستقلالنا وحريتنا في بلدنا ومنطقتنا، وفي إطار تكاملي للنهوض بهذه المهمة. فالتأصيل خروج عن تسطيح الفعل المقاوم وآنيته، إلى تثبيت قواعده تحقيقاً لاستمراريته، وكذلك هو الاستفادة من المرتكزات الفكرية والمعنوية التي تصوِّب التوجيه في المسار الطويل نحو الهدف.

من هنا فإنَّ الحديث عن المقاومة لم يعد يجدي معه تسليط الضوء على سلاحها، فهي ليست سلاحاً مقابل الأسلحة، ولا سلاحاً في مقابل جيش الدولة، بل هي رؤيا متكاملة في مواجهة أخطر عدو في العصر الحديث، وأعقد قضية يواجهها لبنان والمنطقة. وما الانتصار الإلهي الكبير في معركة الوعد الصادق، إلاَّ انتصار لهذه الرؤية، في مقابل من يريد المقاومة معبراً سياسياً مؤقتاً لتحسين بعض الشروط، في إطار التسليم للشرق الأوسط الجديد والهيمنة الدولية والصهيونية على وطننا وحقوقنا.

3- القوة المتراكمة: كل شيء قابل للنمو مع التصميم والعزيمة، "وما كان لله ينمو"، فالمهم أن نُعد أنفسنا بهدف التفوق على العدو، مهما كانت إمكانات العدو، ومهما كانت بدايتنا متواضعة. قال تعالى:" وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ "(1). فالاعداد بقدر الاستطاعة، التي تبدأ متواضعة، ثم تكبر وتزداد مع الزمن، وبما أننا بذلنا أقصى الجهد، بروحية الواثق المتكل على ربه، فإنَّ النصر بالمعايير المادية والمعنوية يتحقق بشكل أكيد في مواجهة المعايير المادية البحتة.

لم يكن الاستعداد المقاوم في أي مرحلة مرتبطاً بحدود مرسومة، بل هو الاستعداد بأقصى الاستطاعة، وبتوفير مقوماتها التراكمية لتتراكم القوة معها كماً ونوعاً، من خلال الإمكانات والتدريب، والاستفادة من العلم والتقنيات الحديثة، ومراكمة التجارب والخبرات.

ولا عجب أنْ ظنَّ بعض المحللين عند إنجاز التحرير في أيار 2000، بأنَّ مهمة المقاومة قد انتهت، وأن دافعيتها للعمل قد تضاءلت، وأنَّ الظروف المستجدة ستضعها أمام المساءلة والتضييق تمهيداً للإنهاء، وذلك بسبب رؤيتهم القاصرة التي تعاطت مع التحرير بأنه إنجاز مهم وكافٍ، على الرغم من بقاء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا مع الصهاينة، وبقاء الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية، واستمرارية التهديد الإسرائيلي للبنان بسبب الأطماع الصهيونية، وتجارب استخدام القوة المفرطة ضد لبنان. وكذلك لأنهم راهنوا على تعب المقاومين والشعب، وفتور همتهم، بعدما عانوه وتحملوه من تضحيات. ولأنهم رأوا عند الدول الكبرى المهيمنة قراراً حاسماً وقدرةً متوفرة لفرض ما يريدون من إضعاف لبنان في إطار الضمانات الدولية الهشة.

لكنَّ المقاومة استمرت في استعداداتها، معتبرة بأن تحرير العام 2000 إنجازٌ كبير وليس نهاية المطاف، بل كان الاعتقاد السائد عند قيادة المقاومة بأن ما يمكن أن يواجهنا في المستقبل قد يكون أعظم وأشرس، لذا لا بدَّ من الاستمرار في الاستعداد على المستويات كافة، تسليحاً، وتدريباً، وتهيئة للمجتمع المقاوم، وتوفيراً لكل مقومات الصمود السياسية والاجتماعية...وقد أعلنت المقاومة في مناسبات عدة وعلى لسان قادتها، بأنَّ استعداداتها مستمرة، وهي أفضل وأقوى بكثير عما كانت عليه قبل التحرير، وأنها تزداد يوماً بعد يوم، لتحذر العدو من مغبة الاقدام على خطوة حمقاء، فالتلويح بالقوة قد يوفر استخدامها، ولكن لا بدَّ من استخدامها عند الضرورة، وهذا ما حصل في صد عدوان تموز 2006، حيث أنعم الله تعالى علينا بالنصر،" وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ". وبعد كل ما حصل فإنَّ توفير القوة المتراكمة مطلوبٌ بحسب الاستطاعة، لأنَّ الخطر الإسرائيلي لم يرتفع، ولا بدَّ من الجهوزية لكل طارئ، بعيداً كان أو قريباًً.

4- حتمية المواجهة: لو راجعنا تاريخ العدو قبل نشأة الكيان الصهيوني وبعده، لوجدناه حافلاً بالاعتداءات والجرائم والاحتلالات، وإذا أردنا تأريخ مساره فلن نجد إلاَّ المجازر واحتلال أراضي 48، واحتلال 67 لباقي فلسطين وأراضٍ من سوريا ومصر والاردن، واحتلال 78 لأراضٍ من لبنان، ثم اجتياح لبنان عام 82، وعدوان إسرائيل على لبنان في أعوام 93، 96، 2006، ...ولم يكن شعب فلسطين ومقاومته، أو المقاومة في لبنان إلاَّ في إلى موقع رد الفعل على هذه الأعمال العدوانية التي لم تتوقف.

فإذا رفضنا الاحتلال لأرضنا، علينا أن نستعد للمواجهة، وهي حتمية، لأن إسرائيل عدوانية وتوسعية واستيطانية، وهي تريد لبنان متكأً لعبور سياساتها باستخدامه في أوراق ضغطها على دول المنطقة، وجعله مركزاً لتوطين عدد كبير من الفلسطينيين، والنفاذ إليه مباشرة لتلبية احتياجاتها من بعض أرضه (مزارع شبعا وتلال كفرشوبا)، والتحكم بتوجهاته السياسية بما يخدم مصالحها، ما يجعلها تفرض شروطها على الحكم في لبنان.

هذه المواجهة مع إسرائيل ليست خياراً ابتدائياً بالنسبة للمقاومة، بل هي خيار دفاعي حالي ومستقبلي، وحيث لا يمكن تحقيق ذلك في ظروف انعدام توازن القوة مع إسرائيل، والتواطؤ الدولي لمساندتها بالكامل، لا بدَّ من المقاومة كحالة ممانعة شعبية قادرة على التحرك، وتحقيق إنجاز الصمود، ومنع الأهداف الإسرائيلية من أن تتحقق في بلدنا. وهي الخيار لأي شعب يبتغي الحصول على قراره الحر المستقل على أرضه.

أدركت المقاومة أن المواجهة حاصلة، من دون معرفة بالتوقيت أو بالتطورات التي قد تؤدي إليها بهذا الشكل أو ذاك، ولا حاجة لمبررات المواجهة، فإسرائيل قادرة على أن تخترع المبرر أو أن توظف أي مبرر تحقيقاً لأهدافها. وهي تركِّز في لبنان على قوته، بحيث تعمل لإسقاط هذه القوة المقاومة لإضعافه تمهيداً لإملاءاتها ومطالبها منه. لذا فإنَّ عدوان تموز نتيجة الرؤية الإسرائيلية لوجود لبنان الضعيف، وليس بسبب أسر جنديين، وقد حصل في هذا التوقيت بالذات، تلبية للمطلب الأمريكي في إعادة صياغة خارطة المنطقة من جديد، ومحاولة للتأثير على الواقع الفلسطيني في داخل الأراضي المحتلة، وسيبقى عنوان إضعاف لبنان حاضراً في المشروع الإسرائيلي، رغم الخسارة الفادحة التي جنتها إسرائيل من عدوانها الأخير، وعلينا أن نُبقي على قوتنا التي تشكل صمام الأمان، الذي يدفع إسرائيل للتفكير كثيراً قبل الإقدام على أي خطوة، بلحاظ تكلفتها ونتائجها.

5- نماذج المقاومين: المقاومون شبابٌ من هذا المجتمع الطيب، لكل منهم خصوصيته الفردية والاجتماعية، فهم بين تلميذ وجامعي ومهندس وموظف وعامل... وهم من أعمار مختلفة من الثامنة عشرة إلى العشرين والثلاثين والأربعين...، وهم بين أعزب وخاطب ومتزوج، يملك كل واحد منهم إمكانات وكفاءات تؤهله لدوره في الموقع الجهادي، لكنهم يشتركون جميعاً بخصائص الإيمان والارتباط بالله عزَّ وجل، والاقتداء بالرسول(ص) والأئمة(عم)، والجهاد، والاستعداد للشهادة، والشجاعة والاقدام، وفهم الأهداف، ومعرفة الضوابط الشرعية، والانضباط في منظومة الهيكلية التنظيمية الحزبية، وقناعتهم بالدفاع عن الوطن، ويتنافسون ليكونوا في المواقع الأمامية ضد العدو. نورهم يسعى بين أيديهم، فهم رهبان الليل وأسود النهار، لا يبحثون عن موقعٍ أو دورٍ أو سمعةٍ أو كسبٍ خاص، ويسعدون لنصرة الأمة وفوز الجماعة.

هؤلاء يفهمون معنى الحياة العزيزة، ولا يقبلونها ذليلة، يقتدون بقول أمير المؤمنين علي(ع):"فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين"(2)، كرامتُهم وكرامة بلدهم أغلى ما عندهم حيث ترخص دونها الأشياء، تحريرُ أرضهم يستحق كل عطاء ولا معنى لأي عطاء لا يضع أمامه هدف التحرير. أعمالهم أقوى دلالة عليهم من كلماتهم، ونتاجهم يبرز فجأة في الميدان من دون حاجة إلى الحديث عنه أو الترويج له، لا يتباهون بإنجازاتهم، ولا يضيِّعون البوصلة مهما بلغت العقبات السياسية الداخلية والحسابات الطائفية والمذهبية والفئوية.

عن أي نموذج نتحدث؟

عن الاستشهاديين المستبشرين بلقاء الله تعالى، وقد أدَّوا ما عليهم في هذه الدنيا، واختاروا اللحظة التي تحقق مكسباً نوعياً للمسيرة.

أم عن المرابطين على الثغور، الذين يمكثون الأيام والليالي الطوال، رصداً للعدو ودفاعاً عن الأرض والعرض والحرية والمقدسات.

أم عن أصحاب السمعة العطرة التي ملأت الآفاق، بصمودهم في مارون الراس وبنت جبيل وعيتا الشعب ووادي الحجير وغيرها.

أم عن المجاهدين الذين تعرف أسماءهم وصفاتهم بعد شهادتهم أو جرحهم، حيث بلاغة الدم والجراحات أصدق إنباءً من الكلمات.

لقد تحول المجاهدون من أبناء المقاومة الإسلامية في لبنان إلى أسطورة، وأصبحوا قدوةً وقبلةً للأحرار التوَّاقين إلى الحرية والتحرير، وأسسوا لمعادلة المقاومة القادرة على حماية الوطن والأهل في مواجهة الاحتلال والعدوان، وأعادوا الثقة للأمة بقدراتها لاسترجاع حقوقها. أعاروا الله جماجمهم فمنحهم السكينة والنصر والمكانة. فعن أمير المؤمنين علي(ع) لابنه محمد ابن الحنفية:"تزول الجبال ولا تزل، عضَّ على ناجذك، أعرِ الله جمجمتك، تِد في الأرض قمك، ارمِ ببصرك أقصى القوم، وغض بصرك، وأعلم أنَّ النصر من عند الله سبحانه"(3).

6- ميزان المعركة: لو أردنا قياس ميزان المعركة بالقوة المادية والعسكرية المتوفرة للطرفين، لرجحت قوة إسرائيل على قوة المقاومة بما لا يقبل المقارنة، بسبب الهوة الواسعة بين قدرات إسرائيل البرية والجوية والبحرية، ومن كل أنواع الأسلحة المتطورة والحديثة، إضافة إلى الجسر الجوي الأمريكي المفتوح للدعم، وبين قدرات المقاومة التي تعتمد على الكر والفر، والتي لا تقترب بأي حال من قدرة الجيوش، لكنها تتناسب مع القدرات المتاحة وطبيعة حركة المقاومة.

إذاً كيف انتصرت المقاومة الإسلامية على إسرائيل، وأفشلت عدوانها في تموز 2006؟

لقد توفَّرت للمقاومة مقومات ترجيحية ومساعدة لم تكن موجودة لدى إسرائيل، وأهمها القوة المعنوية الحاضرة بزخمها وأعلى وتيرة لها، والمتمثلة بالارتباط بالله عزَّ وجل، الذي أعطى المقاومين ثقة وطمأنينة بالدعم الإلهي والتوفيق،:" وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى"(4)، ومهما حاولنا إعطاء تفسيرٍ مادي لهذه القوة المعنوية فسنكون عاجزين عن التعبير، لكنَّ الذين يفهمون معنى الإيمان بالله تعالى وآثاره يدركون تماماً مدى القوة الدافعة والمحفزة التي تشحذ همة المؤمن وتملأ قلبه، لتصبح قوته مضاعفة مرات ومرات عن قوته الحقيقية، ولتكون استفادته من الإمكانات المادية المتوفرة بين يديه بجرأة وشجاعة تفوق ما اعتاده الناس من فاعلية لهذه الإمكانات.

من مفردات هذه القوة المعنوية تتجلَّى الشجاعة، وعدم الخوف من الموت، والصبر في الظروف الميدانية الصعبة، وتوقع الشهادة باستعداد ورغبة، وتوقع النصر بدرجة عالية. فإذا ما أضفنا العوامل الموضوعية لمصلحة المقاومة، ومنها: الحق في استعادة الأرض المحتلة، والدفاع المشروع والضروري للسيادة الحقيقية، ورفض التبعية للأجنبي، ورفض الظلم والعدوان والاحتلال كطبيعة بشرية فطرية، فستربح المقاومة بالنقاط على إسرائيل.

نستطيع أن نفهم حقيقة انتصار المقاومة الإسلامية بلحاظ العوامل المادية والمعنوية، في مقابل العوامل المادية التي اعتمدت عليها إسرائيل، كما نستطيع أن نتلمس تراكم النقاط لصالح المقاومة، عندما نضيف العوامل المعنوية والموضوعية إلى أدائها، وبهذا ندرك أهمية أن لا نحصر المنافسة وتهيئة عوامل المعركة على أساس مادي بحت، لأننا سننهزم حُكماً بسبب الخلل الفاضح في موازين القوة المادية، وكل الهزائم التي أصابت الجهات الرافضة للاستعمار أو الاحتلال إنما حصلت بسبب الضعف في الاستفادة من العوامل المادية المتاحة من جهة، والعوامل المعنوية والموضوعية التي ترجح الكفة مع حسن الاستعداد وسلامة الأداء من جهة أخرى.

المقاومة قويةٌ بما توفر لها من عوامل مادية ومعنوية وموضوعية، ولا داعي للخوف أمام ترهيب الدول الكبرى لها وغطرسة إسرائيل الخائبة من عدوانها على المقاومة، وليست المقاومة في الموقع الذي تحتاج فيه للبحث عن مخرجٍ بسبب وجودها، بل وجودها ضرورة، وقوتها المتصاعدة مطلوبة، وعلينا أن نتمسك بحضورها وجهوزيتها، فهي تمثل الرصيد الواقعي للدفاع المشروع في مواجهة الاحتلال، وتمثل قدرة الممانعة في مواجهة المخططات التي تحاك ضد لبنان ليكون ملحقاً بالسياسات الأجنبية والصهيونية، وعلينا أن نبحث عن الإضافات والتعاون الذي يحقق المزيد من الاستفادة من إمكانات مجتمعنا، لتكون الجهود متظافرة ضمن استراتيجية دفاعية واضحة وواقعية، تحقِّق عناوين الاستقلال والكرامة وحق الحياة العزيزة والقدرة التي تحمينا من أعدائنا.

7- الوعد الصادق: هو وعدٌ صادق عظيم في الثقة بالنصر الإلهي مقابل عدوان الشيطان الرجيم ومن طبّّل له وزمَّر، لكنَّه ليس الوعد الوحيد، فكل المسيرة وعودٌ والتزامات ومواثيق ومواقف، وكلها صادقة لا خداع فيها ولا كذب ولا مساومات.

تحوَّل الصدق إلى صفةٍ لصيقةٍ بحزب الله، اعترف بها الصديق والعدو، وقد أعلن مسؤولون إسرائيليون وصحفيون صهاينة وتعليقات عفوية شعبية كثيرة عندهم، بأنهم ينتظرون ما يقوله سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله(حفظه الله) ليتعرفوا على الحقيقة، وهم يصدقونه أكثر مما يصدقون قادتهم، بل يصدقونه ولا يصدقون قادتهم، وهم محقُّون في هذه النظرة.

الصدق ثمرة الإيمان، والسياسة الحكيمة هي السياسة الصادقة، والحديث المؤثر أثناء الخطابة هو الحديث الصادق، ومصارحة الناس بقضاياها وما يحيط بها هو النجاح الشعبي، والالتزام بالاتفاقات مع القوى والأحزاب والشخصيات له قيمة معنوية كبرى، فالحزب لم يخالف اتفاقاً، ولم ينكث عهداً أو وعداً، وتوضيح صعوبة ووعورة الطريق مع تبيان حجم الأخطار وعِظَمْ التضحيات يُبقي السائرين معنا إلى آخر الطريق على الحلو والمر.

الدعوة إلى الوحدة التزام لا عودة عنه، ورفض التبعية ومحاربتها لا يخضع للتقيّة، واستقلال موقف الحزب وحرية قراره دونهما كل التضحيات. لن نقول ما لا نؤمن به، لتكون كل الحقيقة أمام الناس، ليكونوا شركاء معنا في كل شيء لا أدوات، كما نستطيع أن لا نقول ما لا نريد قوله لكننا لا نكذب. كان الحديث علناً عبر وسائل الإعلام مراراً وتكراراً بأنَّ الحزب جاهز للتصدي للعدوان، وهذا ما حصل، وهو سيبقى صادق الوعد مهما كلفه ذلك، سيبقى مع وحدة لبنان وتحريره، وسيبقى قوياً صامداً أمام الأعاصير، وسينتصر دائماً للحق إن شاء الله تعالى.

الهوامش:

1- سورة الأنفال، من الآية: 60.

2- نهج البلاغة، من الخطبة: 51.

3- لمصدر نفسه، الخطبة: 11.

4- سورة الأنفال، من الآية: 17.