مقالات

التصادم والتعايش

شعلة عاشوراء شعلة مضيئة إلى درجة مكنت كل الباحثين عن الضوء أن يأخذوا منه وأن يستنيروا بهديه، وقوة عاشوراء أنها فرضت نفسها فأصبحت هي المنهج والفاصل بين الأداء الصحيح والأداء المنحرف، وعظمة عاشوراء أنها انتقلت من حادثة التاريخ إلى صنع مستقبل، ولا تزال توغل في هذا المستقبل إلى درجة لا يستطيع معها كل التطور وكل العصرنة أن يجاريها في مفعولها وآثارها وانعكاساتها على الواقع، ظنوا أنها الألم فتبين أنها تؤلم الكفرة الفجرة، وظنوا أنها البكاء الذي يقعد مع الأسى فتبين أنه بكاء عشق الله تعالى ،وتعالٍ مع الروح لرقي الإنسان، وظنوا أنها خاصة بجماعة معصومة وبأهل لهؤلاء وإذا بها تنتقل لتصنع عصمة العمل من خلال سير الإنسان على نهج الحسين(ع).

شعلة عاشوراء شعلة مضيئة إلى درجة مكنت كل الباحثين عن الضوء أن يأخذوا منه وأن يستنيروا بهديه، وقوة عاشوراء أنها فرضت نفسها فأصبحت هي المنهج والفاصل بين الأداء الصحيح والأداء المنحرف، وعظمة عاشوراء أنها انتقلت من حادثة التاريخ إلى صنع مستقبل، ولا تزال توغل في هذا المستقبل إلى درجة لا يستطيع معها كل التطور وكل العصرنة أن يجاريها في مفعولها وآثارها وانعكاساتها على الواقع، ظنوا أنها الألم فتبين أنها تؤلم الكفرة الفجرة، وظنوا أنها البكاء الذي يقعد مع الأسى فتبين أنه بكاء عشق الله تعالى ،وتعالٍ مع الروح لرقي الإنسان، وظنوا أنها خاصة بجماعة معصومة وبأهل لهؤلاء وإذا بها تنتقل لتصنع عصمة العمل من خلال سير الإنسان على نهج الحسين(ع).

نحن أمام عاشوراء المدرسة، عاشوراء الطريق، لكن لا يجوز أن يغفل الإنسان عن أسباب عاشوراء المباشرة، وعن الضوابط التي أدت إليها مباشرة، لأن الحياة تتطلب موقفاً عاشورائياً دموياً في حالات معينة، وتتطلب صبراً حسنياً في حالات أخرى، والعبرة بالتمييز، متى نعطي الدم بلا حدود ومتى نحافظ على الدم ضمن إطار الحدود وضمن إطار التكليف الشرعي؟ ومن هنا خاض العلماء وتحدث المتحدثون وأصاب البعض وأخطأ البعض الآخر، لكنها بقيت المعلم الذي يستطيع أن ينهل منه بشكل مباشر ويستطيع أن يتلمس الدروس والعبر.‏

القصة بدأت من البيعة، يزيد يريد البيعة من الإمام الحسين(ع) والبيعة اعتراف واقرار بأن هذا الحاكم الظالم يقود الناس بصوابية ومؤيد ومسدد ولا اعتراض عليه، والإمام الحسين(ع) لا يمكن أن يبايع فاسقاً فاجراً منتهكاً لحرمات الله، ولا يمكن أن يؤسس لمنهج إذا ترسخ في الأمة فإنه يضرب معالم الإسلام بالكامل، لأن الحدود تسقط والمعالم تصبح غامضة تماماً، فلا يعرف الإنسان متى يقف مع الحق ومتى يقف مع الباطل، ولذا كان لا بدَّ من الرفض، ورفض البيعة يعني القتال، والقتال محسوم النتائج في الشهادة، والشهادة معلم يؤدي إلى حفظ الرسالة فأهلاً بها، وهكذا كانت الشهادة فحفظت الرسالة" حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا "، هل نكون دائماً ثوريين؟ وهل نقف دائماً موقف يؤدي إلى الشهادة في أي موقع وكيفما كان؟ الثورية ليست شهادة على كل حال، الثورية هي الشهادة في مكانها وزمانها والصبر في مكانه وزمانه، إنها غوغائية إذا خرجت عن الضوابط، لأنها تنتهك الحرمات وتقوم بالأباطيل وتصنع الأخطاء المتتالية، وسمعنا عن ثوريين سموا أنفسهم بأسماء مختلفة، بعضهم سمى بالأسماء الإسلامية وآخرون سموا بالأسماء القومية والاشتراكية الخ...وكنا عندما نسأل لماذا قتلتم ودمرتم وسرقتم وأهنتم؟ يقولون هي الثورية لا تناقش لأنها هي التي تُناقش الآخرين، إنها غوغائية وليست ثورية، وقال البعض يجب أن نبقى دائماً في حالة تمرد ورفض وإيصال للأمور إلى المأزق، إما أن نكسب وإما أن نُكسر، هذه هي الثورية وهؤلاء اصطدموا بأنهم بقوا وحدهم وسقطت أفكارهم ولم يصنعوا شيئاً، فلا اصطدم الآخرون بهم ولا نفعت صدمتهم مع الآخرين فانصطدموا وسقطوا.‏

إذاً كيف نكون عاشورائيين؟ إذا كانت الضوابط تحيط بنا من كل مكان وفي كل مجال، فإذاً نحن منضبطون في إطار الثورة، وهذه علامة استفهام، وأقول بل هي علامة القوة في الثورة الحسينية، أنها انطلقت بضوابط التشريع وتفجرت بضوابط التشريع وأعطت الدم الحسيني الإعلام الزينبي وحفظت الموقف فارتفع الحسين وسقط يزيد، فالضوابط مطلوبة ودراسة الواقع مطلوب، عندما كان الإمام الحسين(ع) في المدينة المنورة استعد وجهز لينطلق إلى الكوفة، وعندما وجد أهل الكوفة قد رفضوا استمرار عهدهم وبيعتهم له(ع) أراد أن يعود إلى مكان آخر، لكن القوم رفضوا فأصبح أمام خيارين: إما أن يقول نعم ليزيد ويسلم ويبايع تحت عنوان السلامة خير من الموت أو القتل، وإما أن يقول نعم للشهادة تحت عنوان الشهادة عز للإسلام وللشهيد في دنياه وآخرته لأنه حقق هدف الرسالة، فاختار الثاني، فكان سيد شهداء كربلاء بل سيد شهداء العالم بلا منازع، وأصبح الملهم والمعلم والمدرسة والتاريخ والحاضر، وسيبقى المستقبل بإذن الله تعالى، إذاً هي الثورة والشهادة بضوابطها، وليست خارج دائرة الضوابط، وهنا يطرح العنوان العريض: متى نندمج في مجتمعاتنا ومتى نتمرد على مجتمعاتنا؟ والمجتمعات التي نعيش فيها والحكام الذين نكون تحت ظلهم والأجواء التي تحيط بنا سواء سميت أجواء حي أو بلد أو عالم هي إما أجواء إيمانية ننسجم معها تماماً وعليه لا نجد حرجاً ولا مشكلة لأنها تقرأ في نفس الكتاب الذي نقرأ فيه، وإما أجواء غير متدينة على كل المستويات من الجماعة إلى المجتمع إلى الحاكم إلى العالم، كيف نتعامل مع المجتمع غير المتدين؟وكيف نتعاطى مع الحاكم غير المؤمن؟ وكيف نواجه العالم غير الملتزم؟ هي مسألة كربلاء تماماً، لأن الإمام الحسين(ع) أعطى نموذجاً لمواجهة الحاكم الظالم، ومواجهة المجتمع الذي انحرف، لأن المشكلة في كربلاء لم تكن مشكلة حاكم ظالم فقط، بل كانت أيضاً مشكلة مجتمع شارك الظالم في ظلمه، وأصبح محتاجاً إلى هزة عنيفة حتى يستوعب ويعي، فإذاً لا بدَّ من الصدام ولا بدَّ من الرفض المطلق مهما كانت النتيجة، وهذه حالة من حالات مواجهة المجتمع أو الحاكم أن يصل الأمر إلى الصدام، والصدام يؤدي إلى الشهادة أو النصر، لكن لا خيار آخر غير الصدام، وأي خيار آخر سيؤدي إلى تثبيت الانحراف إلى درجة لم يبق معها قدرة عملية لحفظ الأجيال ولاستمرار المسيرة.‏

هذا الصدام لا يحصل كيفما كان وإنما له ظروفه الموضوعية ومقدماته، ولا بدَّ من قرار قيادي يصدر عن ولي الأمر، يصدر عن القائد الأعلى المخول في زمن غياب المعصوم، وهو ولي الأمر المرجع الخامنئي(حفظه الله تعالى ورعاه) وأما في زمن المعصوم فالقائد هو المعصوم الذي يقرر الصدام أو لا يقرره، وهذا يشمل الأعداء أيضاً، لأن الأعداء في حالة صراع مع الإيمان والمجتمع المؤمن، فإذا كان وجود هؤلاء الأعداء يؤدي إلى محاولة إلغاء قدرة المجتمع المؤمن، وإلى السيطرة على هذا المجتمع، وإلى التأثير على جماعة المؤمنين، وبإمكان المؤمنين أن يقوموا بدور، وهذا الدور كبيراً كان أو صغيرا يتطلب جهاداً وقتالاً وصداماً مهما كانت النتائج، فعندها الصدام والمواجهة والجهاد هو المطلوب في مواجهة هؤلاء الأعداء دون غيرهم، لأن خطرهم مباشر ولأن انعكاساتهم على واقعنا هي انعكاسات لا تحصى ولا تعد، ولأن أثرهم في المجتمع يمكن أن يمتد إلى الأجيال، وهذا خطر كبير.‏

من هنا نفهم لماذا تصادمنا أو قاتلنا إسرائيل، لأن إسرائيل ليست مشروع احتلال لأرض فقط، إنما هي مشروع ثقافة وسياسة واقتصاد، هي مشروع غربي في داخل عالمنا الإسلامي والعربي، هي مشروع تحويل للمنطقة ضمن إطار بعيد تماماً عن الإسلام، لا بدَّ أن نتصادم مع هذا المشروع، لأن البعض يتحدث عن التعايش مع هذا المشروع، لأن التعايش تحت أي عنوان من العناوين، سواء كان عنوان الضعف أو عنوان الظروف المرحلية أو كان عنوان الضغوطات الدولية أو كان عنوان انتظار لمرحلة أخرى، كل هذه المبررات التي تعطى للتعايش هي خطر حقيقي سيؤدي في نهاية المطاف إلى تركيز جرثومة في منطقتنا، من الصعب أن تقتلع بسهولة بعد الآن، لذا كان لا بدَّ من الصدام، وتساءل البعض هل هذا الصدام والقتال يؤدي إلى نتيجة؟ على قاعدة مناقشة الأمور بعقلانية وموضوعية، والبحث في المقدمات للوصول إلى النتائج، لنسأل أولاً ما هي النتيجة التي نريدها؟ إذا كنا نريد نتيجة تؤدي إلى انتصار مباشر وغلبة ثورية واقتلاع لإسرائيل خلال أيام أو أسابيع أو أشهر، لنحقق انتصاراً مع عدم التوازن في القوى فهذا أمر مستبعد، ولا أعتقد أن أحداً يناقش فيه أو يطرحه، لكن عندما يكون المطلوب هو دكُّ هذا المشروع الإسرائيلي، وإسقاط عنفوانه، وزرع البذرة التي تؤدي إلى التغيير، ووضع معلم من معالم الاستنهاض، وإيجاد تيار يوقف مد الغرب، وانحراف الغرب، وسياسته واقتصاده، وبإمكاننا أن نصنع هذا بمقاومة يستشهد أفراد منها، يقولون ربنا الله حينها تصبح المقاومة واجبة ويصبح العمل الجهادي واجب دون السؤال عن الانتصار بعد سنوات، وإنما البحث عن النتائج، والنتائج التي نريدها هي إسقاط هيبة المشروع الإسرائيلي تمهيداً لإسقاط نفس المشروع من خلال تزخيم قدرة الناس عن طريق دماء الشهادة، فلا حل إلا بالتصادم والقتال لإسقاط هذا المشروع، ولذا قال إمامنا الخميني(قده):"يجب أن تزول إسرائيل من الوجود" وتجاوز كل النقاشات الفقهية التي تحدثت عن حرمة سقوط الدم وعن وصول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى التضحية بالنفس ليقول هذا المورد هو من موارد الجهاد في سبيل الله والمتقاعس عن الجهاد متقاعس عن نصرة الإسلام.‏

هذا فيما يتعلق بالتصادم، لكن هل نصطدم دائماً بكل شيء؟ وهل كلما خالفتنا فكرة من الأفكار نقوم ضدها ونقاتل صاحبها إما أن يقتلنا أو نقتله؟ وهل إذا كنا في مجتمع أو جماعة أو دولة أو عالم لا يؤمن بالمبادئ التي نؤمن بها سنوصل الأمر إلى حالة التصادم والقتال‍!؟ كما ذكرت الصدام له شروطه ومبرراته وهو تكليف شرعي، ولا يستطيع أي إنسان أن يقرر متى شاء، وأذكر بعض الأخوة كانوا متحمسين لمواجهة محلات الخمور، فسألوا بأنهم يريدون تفجير هذه المحلات، على قاعدة أنه إنحراف في مقابل الإسلام، وهل يعقل إن كنت أستطيع كمسلم أن أفجر هذا المحل أن أمتنع عن التفجير، وعندما كان الجواب في المنع استنكر، ألا يطلب الإسلام منا تهياً عن المنكر وهذا نهي عن المنكر؟ فأجبته نعم، لكن بشرطها وشروطها، والشروط هنا غير متوفرة، ولذا إذا كنت قوياً فانهاه عن المنكر دون أن تفجر محله، إذاً كيف نتعايش مع مجتمع غير مؤمن أو مع جماعة غير مؤمنة، الآية تقول:{ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة، والحكمة هي وضع الأمور في نصابها، والموعظة الحسنة الكلمة التي ترقق القلب وتقرب الإنسان وتجعله حالة من المشاعر لينتبه من غفلته، لكن الأمر أحياناً يصل إلى حالة جدال وجادلهم بالتي هي أحسن، فإذا جادلك واستنكر عليك واعترض ورفع صوته، هدأ من روعه وناقشه بالتي هي أحسن، فإما أن تسقطه أخلاقك في النقاش، وإما أن تسقطه أفكارك المقنعة في النقاش، لكن لا تكن مثله تصرخ عندما يصرخ وتقاتل عندما يقاتل، فنحن لنا أسلوبنا، إن الله أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين، النتيجة ليست بيدك، إنما التوفيق بيد الله تعالى، فهناك أناس يهتدون، وآخرون لن يهتدوا لكن علينا ان نخوض في هذا المجتمع غير المتدين وفي الجماعة غير المتدينة وفي الدولة والعالم غير المتدين لنطرح ما عندنا ونناقش وسترتفع الأصوات ضدنا، وسيعاندوننا وسيضيقون علينا وسيجروننا إلى أساليبهم، المطلوب أن لا ننجر إلى أساليبهم. منع معاوية الماء عن علي(ع) لكن علياً(ع)لم يمنع الماء عن معاوية، معاوية أسلوبه الغدر، أما أمير المؤمنين علي (ع) فأسلوبه الإسلام، كان بإمكان الإمام الحسين(ع) أن يكلف أحد أصحابه أن يقتل عدداً قبل أن تبدأ المعركة، لكن "لن نكون أول من رمى" وهذه أخلاق الإسلام، مع العلم أن الجماعة الثانية تستفيد بحسب حساباتها المادية، من اللا إسلام ومن عدم وجود الأخلاق، إلا أننا لا نستطيع أن نجاريهم، لأننا إذا جاريناهم سقطنا إذ أننا سنحاكم بأفكارهم ولن نحاكم بمنطقنا وأفكارنا، يجب أن تبقى لنا خصوصيتنا:{ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} هذا طريق للإنفتاح على الآخرين وللنقاش والاختلاط بالآخرين والتفاعل مع الآخرين، لكن هذا قد يؤدي إلى إلتباس عند البعض فيتصور أن التفاعل مع الآخرين يفترض به أن يصل إلى نتيجة يرضى من خلالها الآخرون عنَّا، هذا غير مطروح على الإطلاق، رضي الآخرون أم لم يرضوا، المهم أن يرضى الله في أن منهجنا سليم، لذا سقفنا في التعاطي مع الآخرين مرضاة الله، وليس مرضاة الناس علينا، فقد يرضى الناس من خلال مرضاة الله وقد لا يرضون، ولذا إذا تفاعلنا فسقف التفاعل هو بقاء الالتزام، وبالأمثلة التفصيلية التي يعطيها الفقهاء في حياتنا اليومية، إذا دعيت إلى طاولة عليها خمر يحرم عليك أن تجلس على هذه الطاولة، حتى لا تشاركهم في الإثم الذي يرتكبونه، فقال أحدهم لكن نحن نتفاعل مع الآخرين ونتعاطى معهم سنضطر إلى محرمات، من قال إننا سنضطر إلى محرمات، بإمكاننا نحن أن نضع حداً، نتعايش مع الآخرين بالقدر الذي لا يؤدي إلى ارتكاب المحرم وتأييد المنكر، ومساندة الباطل.‏

وأذكر في هذا المقام أن أحد السفراء كان في بلد أجنبي، وسأل الإمام الخميني(قده) بأنه يضطر من أجل حفظ العلاقة بين الجمهورية الإسلامية وبين هذه الدولة أن يذهب إلى حفلات بمناسبات الأعياد السنوية أو الإستقلال أو ما شابه وفيه خمر، فإن لم يذهب فقد يؤدي الأمر إلى سوء علاقات بين هذه الدولة ودولة إيران الإسلام، فجاء الجواب:" حاول أن تنهاهم فإن لم تستطع فلا يجوز لك الذهاب ولو أدى ذلك إلى سوء العلاقات بين الدولتين"، لأنه لا يصح للشخص تحت عنوان التعايش أن يدخل بالمحرمات ويترك الضوابط الشرعية كلها، التعايش لا يعني التنازل عن المبدأ، ولا يعني إنحرافاً عن المبدأ، ولا يعني التقهقر عن الإسلام الذي نحمل، التعايش هو احتكاك مع الآخر من أجل أن نعرفه علينا، ومن أجل أن يتعرف على هذا الدين الحنيف علَّ الله تعالى يوفقه لطاعة الله.‏

هذا التعايش طرح داخلي له علاقة بوضعنا في لبنان، هل نحن إسلاميون، أم نحن لبنانيون؟ وهل هناك تعارض بين اللبننة والإسلام؟ أم أننا يمكننا أن نكون على إسلامنا وأن نتعايش مع الواقع القائم، أو أن علينا أن نكون متصادمين مع هذا الواقع حتى نحافظ على ديننا وعلى إسلامنا؟وهذا نقاش مطروح في الساحة، وهنا يجب أن نضع المعالم التي توضح العلاقة بين الإسلام واللبننة، بين الإسلام والعروبة، بين الإسلام والأطراف الأخرى التي تعارضنا في افكارنا وقناعاتنا، بين الإسلام والأحزاب والقوى، بين الإسلام والدول الكافرة، بين الإسلام وكل الذين نختلف مع طروحاتهم أفراداً كانوا أو دولاً او جماعات، والعلاقة لها معلم أساسي ، هذا المعلم يتمثل في التمسك بهذا الدين دون التنازل عن أي واجب شرعي، ودون المشاركة بأي محرم شرعي، والعمل الدؤوب لإقناع الآخرين بما نحمل من أفكار والتعاون مع الآخرين بما يلتقي معنا من أفكار، والقصة المشهورة عن النبي (ص) قبل البعثة: كانت قريش قد اجتمعت في اجتماع من أجل نصرة الضعيف وإعطاء الفقير وحماية الظالم، عناوين جيدة وجميلة تنسجم مع الأوضاع التي رأوها في الجاهلية أنها مناسبة لعقد إجتماع، قال النبي (ص) عن هذا الاجتماع:" لو دُعيت لحلف الفضول لأجبت"، يعني لو قالوا للنبي أن يجتمع معهم وهم جهابذة الكفار والمشركين، لكن ما يطرحونه كلها عناوين تصلح للتعاون وتصلح للتعايش، لكن هذا مختلف تماماً عن الموقف الذي أدى فيما بعد إلى رفض كامل من قبل الكافرين لإطروحة الإسلام ورفض الإسلام لاطروحة الكافرين.‏

فإذاً يمكننا أن نتعايش مع الآخرين مع المحافظة على مبادئنا والمحافظة على ديننا، ولنسأل ما هو المقصود باللبننة التي يتحدثون عنها؟ إذا كان المقصود باللبننة هو التعاون لما فيه مصلحة الإنسان في الداخل والتعاون لطرد المحتل والتعاون لإغاثة الملهوف، والعمل للعدل بين الناس، وإلغاء الطائفية البغيضة التي تحرم البعض وتعطي البعض الآخر، وإيجاد قواسم مشتركة بين الناس، فنحن مع هذه اللبننة لأن مضمونها ينتج عملاً أو مواقف لا تتعارض مع مواقف الإسلام، أما إذا كانت اللبننة وهي كذلك في فهم البعض، أن يترك المسلم دينه جانباً، ويبحث الجميع عن أفكار غير الإسلام ويتوافقون فيما بينهم على الرفض المطلق والقطع لإسم الإسلام أو لاطرحوته أو لمبادئه تحت عنوان التعايش والتفاعل، فهذه اللبننة بهذا المعنى مرفوضة على المستوى الإسلامي، لأنها في الواقع إضاعة للدين وللإسلام، نحن حاضرون للتفاعل والتفاهم والتعايش مع الآخرين على قاعدة رسالتنا التي نؤمن بها، نتعايش بمقدار ما نحقق الأهداف ونتوافق مع الآخرين، أما أن نترك ديننا لنكون مقبولين أو نؤيد المنكر لنكون مقبولين، او نوافق على تسوية ظالمة جائرة في منطقتنا لنكون مقبولين، أو نقبل باستكبار أمريكي يتسلط على بلدننا لنكون مع الجماعة مقبولين، فهذا مرفوض حتى لو قيل عنا بأننا لا نفكر سياسة ولا نعمل سياسة. لأن التعايش يجب أن يكون بمقدار الالتزام بالضوابط الشرعية وليس الخروج عن الضوابط الشرعية، البعض استغرب أننا وضعنا النشيد الوطني أما قبل فكان لا يوضع! رفعوا العلم اللبناني ووضعوا عليه كلنا مقاومة أما قبل لم يكن كذلك! هل أصبح هناك تغيير ولبننة؟ نقول: لا، بكل بساطة هذا العلم كان له رمزية تتعلق بالمارونية السياسية، وكنا نريد رفض هذه الرمزية والتأكيد على عدم القبول بها لأن لبنان إما أن يكون لكل شعبه أو لا نقبل أن يكون لجماعة تحت عنوان الباقي هم من الدرجة الثانية في وطنهم، إما أن يكون للجميع وطناً لهم وإما أن لا نقبل بتفرد أحد أو سيطرة أحد تحت أي عنوان من عناوين الغبن أو الخوف أو المستقبل أو المحيط أو ما شابه، فعندما وجدنا في حرب نيسان أننا بمقاومتنا التي رفعت راية الإسلام استمرينا وجاهدنا وانتصرنا بحمد الله واجتمع الجميع حولنا ليمدوا اليد إلينا وليقولوا نحن معكم، مع الوطن عندما يحرر، ومعكم عندما تحررون وتقاتلون، قلنا لا مانع من الرمز الذي يشير إلينا جميعاً في تحرير الوطن لا على قاعدة أن الوطن لكم أو لنا وإنما على قاعدة أن الوطن لنا جميعاً.‏

هذا لا يعتبر تغييراً، هذا جزء من التربية، وأقول لكم بصراحة في بعض المرات أنت مضطر أن تقف أمام عنوان أو موضوع بشدة خوفاً من الإنزلاق، لكن عندما تطمئن أن السباح أصبح ماهراً، لا تمانع إذا نزل ولدك وحده إلى البحر، أحياناً التكتيك يتطلب أن نضغط في مجال ونريح الأمر في مجال آخر، لا على قاعدة أننا لا نعرف بل على قاعدة أننا نعرف، لا على قاعدة أن الظروف ضغطتنا لكن على قاعدة أن الظروف أصبحت مهيأة ولكل ظرف أداء ينسجم معه مع القاعدة الأساسية الحفاظ على مبادئ الإسلام بتمامها وكمالها دون تنازل على الإطلاق.‏

هكذا يكون التعايش، وهكذا نفهم العلاقة مع الآخرين، كم قالوا لنا اسم مقاومتكم تزعجنا لو غيرتموها فسنكون معكم، ففكرنا إذا تعيرنا بالإسلام من اللحظة الأولى فأي إسلام يبقى عند شبابنا وبناتنا وأهلنا، لكن إذا صبرنا مع حمل الإسلام وكنا واضحين وصريحين فسيكتشف الناس مَن نحن وكيف نعمل، فإذا قبلونا فهذا نصر للإسلام ونصر لنا أننا صبرنا أمام الضغوطات التي ضيقوا علينا من خلالها، وتبين أن الأمر نجح وأن العمل مجدٍ وكان سليماً في آن معاً، لا نريد أن ننظر نظريات تبعد عن العمل والتأثير الواقعي، نريد أن ندرس ظروفنا تماماً ونعمل على هذه الظروف، لذلك سألونا مراراً: هل تريدون دولة إسلامية؟ قلنا: نعم، نريد دولة إسلامية لأن ديننا يأمرنا بذلك، لكن هذا يرعب الآخرين، قلنا لا، { لا إكراه في الدين} الله تعالى كلفنا أن ندعو الآخرين إلى دولة إسلامية على قاعدة {لا إكراه في الدين}ندعوهم، أتوا وأصبحوا معنا وتفاهمنا معهم قامت الدولة الإسلامية، لم يأتوا كنا معذورين أمام الله تعالى لأننا الظروف لم تهيأ ونحن قمنا بما علينا ودعونا إلى أمر الله تعالى، عندها أي خطوة أخرى أدنى من هذه الخطوة تكون خطوة مقبولة لأننا لم ننجح في الوصول إلى الخطوة التي نريد، لكن لا يجوز أن نقول للحظة واحدة إننا لا نريد دولة إسلامية، أو أننا نحارب الدولة الإسلامية ، فهذا انحراف وهذا خروج عن طاعة الله تعالى، فإذا لم أقدر أن يكون كل الناس في طاعة الله عز وجل فعلى الأقل أنا أكون بطاعة الله تعالى فلا أستنكر الطاعة، إذا قال المثقفون المتعلمون: أنتم طيبون طاهرون وأفكاركم جميلة ولكن عندكم مشكلة هي أنكم معقدون، تلبسون نساءكم الحجاب، لو خلعت النساء الحجاب وبقيت الأفكار الأخرى لكان الأمر أن نكون معكم بالكامل، نقول لهم: سيبقى الحجاب معلماً لن نبدل ولن نغير حتى ولو اتهمتمونا بالتخلف والتعصب والرجعية، لأنه عنوان طهر وتشريع إسلامي، فمن قبلنا بهذا الحجاب فأهلاً وسهلاً، وإلا فليذهب إلى حيث شاء فنحن نريد مرضاة الله ولا نريد مرضاة الناس. هذا تعايش ولكنه تعايش يحافظ على الضوابط التي نؤمن بها ويحافظ على المبادئ التي نلتزم بها.‏

من هنا يجب أن نميز بين التعايش في مجتمع غير مؤمن، وبين الاندماج والذوبان في المجتمع غير المؤمن، هناك فرق بين الأمرين، التعايش يعني أن هناك آخر تتعاطى معه وأنت محافظ على خصوصيتك، أما الاندماج والذوبان يعني هذا التخلي عن خصوصيتك ليرضى الآخرون بأن تكون معهم في خصوصية مشتركة تبعدك عن طاعة الله تعالى، نحن مع التعايش وضد الذوبان، ومن قال إن علينا أن نتخلى عن مبادئنا وعقيدتنا وأفكارنا وطروحاتنا من أجل الذوبان ومن اجل اعتراف الآخرين بنا ومن أجل المقبولية عند الآخرين أو من أجل المقبولية عند العالم، نقول وهل نسيتم مقبولية الله جل وعلا لنا، فإذا كنا مقبولين عند أمريكا وإسرائيل ونتعايش معهم وغير مقبولوين عند الله تعالى فلماذا كل حياتنا، لذا هناك مواقف ثلاثة : إما أن يتصادم الإنسان مع مجتمعه ، وإما أن يذوب في مجتمعه، وإما أن يتعايش مع مجتمعه، فالتصادم له شروطه الشرعية، والتعايش له ضوابطه أن لا يتخلى الإنسان عن دينه، والذوبان إضاعة للدين مهما جاءت المبررات. وثورة الإمام الحسين(ع) تعلمنا أن نكون واضحين لا نسلم وإنما نتعايش إذا لم يطلب منا الذوبان الذي يبعد عقيدتنا وإلا فالتصادم هو الحل عندما نؤمر بالذوبان.‏

رفضنا إسرائيل لا لأننا نتوقع انتصاراً عليها بقوة العسكر خلال سنوات، بل رفضناها لأننا لا نقبل أن نتعايش مع مشروع يتطلب منا أن نعيش بعد ذلك الذوبان حتى نقول بأنه كيان مقبول يجب أن ننفتح عليه ونتفاعل معه، وسنرفضه فيما لو تحققت التسوية في المنطقة، سنرفض التطبيع والتعيش مع إسرائيل والقبول بإسرائيل وسنعبر عن أشكال الرفض والممانعة والصدام بالطرق التي نراها مناسبة لتفني جيلاً يرفض أن يستسلم ويقبل بمنكر يريد أن يشيع مفرداته في حياتنا، وإنما يثبت معالمه في أرصدتنا وفي أفكارنا وفي بناء أطفالنا. وتحدثوا كثيراً عن الممانعة وتفلسفوا في ألفاظها، الممانعة للعدو وجادل البعض في الممانعة كيف تكون، وذكر كل شيء، ذكر الممانعة الشعبية بالعاصفة، وذكر ممانعة الأطفال بالتربية، وذكر ممانعة القلم بالكتابة، وذكر ممانعة الوجه بالعبوس، لكنه لم يذكر ممانعة السلاح في مواجهة أعداء الله، وهل تعتقدون أن ممانعة تحصل بدون سلاح يمكن أن توقف مداً آثماً كالمد الإسرائيلي، وهل تتصورون أن مشروعاً اغتصابياً ترعاه أمريكا والدول الكبرى وتجتمع فيه قمة شرم الشيخ، تجتمع الدول الإقليمية والعالمية ويُحشد الإعلام وكل الإمكانات الثقافية والتعبوية ويقف حكام المنطقة بأغلبهم ليؤيدوا ويؤكدوا هذا الضغط الكبير لإيجاد إسرائيلي هل هو مجرد إعطاء قطعة أرض لجماعة أم أنه مشروع يريد أن يقلب الساحة بأكملها بأفكارها وقناعاتها وسياستها واقتصادها ومضمونها!؟ هذا المشروع لا يواجه بتسبيحات في المسجد، إنما يواجه ببندقية طاهرة تقول ربي الله وتواجه بمقاومة إسلامية لا تخشى من أحدٍ إلا الله، وتواجه بأهل طيبين طاهرين يشدون أزر المقاومة وتواجه بمشروع واضح يقول لا لإسرائيل حتى ولو أيدتها أمريكا وكل المستكبرين، وعندها فقط إذا وقفنا على أساس طاعة الله كما فعل المقاومون المجاهدون نستطيع أن نحطم معنويات إسرائيل وأن نسقط هذا المشروع المنطلق من قبل إسرائيل، وأن نحقق انتصارات تسجل في خانة المشروع ولو بعد حين.‏