مقالات

الإمام علي(ع) وسياسة الحكم*

حفظ المسيرة الإسلامية: أعطى الإمام علي(ع)نموذجاً للحاكم العادل، وهو لم يسع يوماً إلى الحكم، حيث نرى في كل العالم كيف يتقاتل الناس من أجل الوصول إلى سدة الحكم، ولو كان الثمن ظلماً للناس، أو ارتكاباً للمعاصي والآثام، لكن إمامنا (ع) أراد أن يلتزم بالتكليف الإلهي في كونه إماماً معصوماً يخلف رسول الله(ص)، لكن عندما وجد الأمة قد انحازت وابتعدت عن هذا الاختيار، لم يقاتل ولم ينافس، ووجد أن الظروف يمكن أن تؤدي إلى فتنة كبيرة، وحينها تخسر دولة الإسلام الفتية، فوقف الموقف الرسالي قائلاً :

حفظ المسيرة الإسلامية: أعطى الإمام علي(ع)نموذجاً للحاكم العادل، وهو لم يسع يوماً إلى الحكم، حيث نرى في كل العالم كيف يتقاتل الناس من أجل الوصول إلى سدة الحكم، ولو كان الثمن ظلماً للناس، أو ارتكاباً للمعاصي والآثام، لكن إمامنا (ع) أراد أن يلتزم بالتكليف الإلهي في كونه إماماً معصوماً يخلف رسول الله(ص)، لكن عندما وجد الأمة قد انحازت وابتعدت عن هذا الاختيار، لم يقاتل ولم ينافس، ووجد أن الظروف يمكن أن تؤدي إلى فتنة كبيرة، وحينها تخسر دولة الإسلام الفتية، فوقف الموقف الرسالي قائلاً :

((ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة إلتماساً لأجر ذلك وفضله))(1)، وابتعد عن مسرح الخلافة، وترك الآخرين لها، فالظروف لا تسمح بالتصدي، وعمل بجهد كبير ليسدد الحكم الإسلامي في طاعة الله، دون أن يفكر لحظة واحدة في إسقاط هذا الواقع الإسلامي، لأنه إذا سقط فالانتصار يكون للأعداء.‏

إن القاعدة الأساس التي عمل عليها الإمام علي(ع) هي: أولوية حفظ المسيرة الإسلامية، حتى لو اقتضى حفظها أن يكون الإمام مظلوماً بشخصه، وأن تحرم الأمة من إدارة أفضل. فالأساس أن يبقى الإسلام مرفرفاً وأن تبقى الأمة قوية في مواجهة أعدائها حتى ولو حصل أخطاء. وقد بقي إمامنا بعيداً عن الحكم حوالي 25 عاماً ، ومع ذلك كان في هذه الفترة يسدد الدولة الإسلامية، وينصح الخلفاء، ويعطيهم من علمه وحكمته وفهمه ووعيه وإرشاداته، وهم يعلمون أنه لا يبتغي من وراء هذا العطاء إلا وجه الله، ولذا كانوا يسمعون لنصائحه، وقد سجل التاريخ تلك الكلمة المشهورة عن الخليفة الثاني ((لولا علي لهلك عمر)) على قاعدة الإرشادات التي كان يعطيها لمصلحة الحكم الإسلامي. ثم قامت الثورة في وجه الخليفة الثالث عثمان، وقد وصلت الدولة إلى درجة الانهيار، وكان الإمام حافظاً وحامياً لأصل الحكم حتى يبقى الكيان الإسلامي، حيث طلب من ولديه الحسن والحسين(ع) ليكونا إلى جانب الخليفة لمنع الثوار من قتله. فمهما كانت المؤاخذات يجب العمل على علاجها بغير هذا الطريق.إنها تجربة ومدرسة في كيفية العمل لحفظ الحالة الإسلامية وحفظ الكيان الإسلامي، مع وجود الأخطاء والمشاكل، فالإصلاح لا يكون بضرب هذا الكيان، وإنما يكون بالبحث عن حلول عملية تنسجم مع واقع الحال.‏

الحكم تكليف وعدل:‏

أتى المسلمون إلى الإمام بعد 25 سنة، وبايعوه بإصرار ليكون خليفة عليهم، وهو لم يكن ساعياً للخلافة، بل هم الذين سعوا إليه،وأتوا عنده وطلبوا منه. يعتبر الإمام (ع) أن الحكم خدمة تكليف ومسؤولية شرعية، ولا يعتبره سلطة ومكسباً ومغنماً، -كما يفكر الحكام عادة في أنهم إذا حكموا يربحون ويتسلطون على الناس، ويأكلون الأموال ويحصلون على الخيرات ويسيطرون على بيت المال- هذا المنطق أبعد ما يكون عن أمير المؤمنين(ع)،وما قبوله إلاَّ للقيام بالمسؤولية الشرعية:((فما راعني إلاَّ والناس كعرف الضبع إليَّ(كثرة الشعر) ينسالون عليَّ من كل جانب (لكثرتهم)... أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة (يقسم بالله تعالى) لولا حضور الحاضر(لولا هؤلاء الناس) وقيام الحجة بوجود الناصر( بوجود الجيش المستعد ليكون داعماً في هذا الإتجاه) وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم(فهناك مسؤولية على العلماء أن لا يكونوا داعمين ومؤيدين لتخمة ظالم، وجوع مظلوم) لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها (فلولا وجود المسؤولية الشرعية والتكاليف الملقاة عليَّ لتركت هذه المسألة) ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز))(2)، قيمة الدنيا عند الإمام أقل من عفطة عنز يعني لا قيمة لها).‏

قبل الإمام (ع) بالحكم وبمسؤولية الحكم، بعد أن وجد الظروف الموضوعية متوفرة، وأن تكليفه الشرعي يقتضي أن يتصدى وأن يقوم بهذا الواجب. فالإمام لم يأت إلى الحكم راغباً أو محباً للسلطة، مع أن الكثير من الشخصيات تتقاتل من أجل السلطة والناس يساعدونها على ذلك، ويتحملون مسؤولية دعمها. وعلى الناس أن يكشفوا هذا النوع من الحكام ليضعوا حداً له (( فكما تكونوا يولى عليكم)). إذا كان الحكام فاسدين والشعب قابل لا يتحرك فهو يستحقهم، وهو منهم وهم منه، وإذا كان الحكام صالحين فهذا يعني أنَّ الشعب يستحقهم. إذ لا يقدر حاكم أن يستمر في حكمه الظالم مع وجود شعب يتحمل مسؤوليته بشكل كاف. عندما قبل الإمام علي(ع)بهذه المهمة قال لهم عبارة واضحة: ((دعوني والتمسوا غيري فأنا أنصحكم أن لا تختاروني، فإنَّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول))(3)، فإذا أنتم سلمتموني فنحن مقبلون على أمر وحكم وواقع لا تستطيع أن تتحمله أغلبية الناس، لماذا ؟ لأنه يوجد عدل، والذين يعتادون على قلة العدل والظلم لا يتحملون العدل، والذين اعتادوا استغلال بيت مال المسلمين لا يتحملون أن تقطع أيديهم، والذين عملوا فترة طويلة بظلم الناس وكانوا مؤيدين ومدعومين لا يتحملون أن يأتي شخص ليقول لهم سنكف أيديكم . لذلك قال لهم دعوني والتمسوا غيري ، فأنا إذا حكمت سترون أموراً لا تعجبكم، فالإمام يحكم بالعدل.إنَّ الحاكم العادل إنما يحبه عامة الناس، ولكن توجد فئة متضررة تحاول أن تصنع الدسائس، وتمنعه من أن يأخذ دوره في الحكم ، معتبرة أنه قطع أرزاقها، أما عامة الناس فهم من البسطاء الذين لا يملكون شيئا، ويريدون العيش بأمان في ظل حكم عادل ، كي لا تطغى المحسوبيات فيذهبون ضحيتها.‏

قبل الإمام (ع) الحكم وهو غير متمسك به، ولكنه يشترط العدل، وقد جاء في وضع انقاذي للمسلمين، فكان أول عمل قام به هو عزل الولاة الظلمة، واختار الولاة الأكفاء ووضعهم في مكانهم الطبيعي، ولم يول أشخاصاً لا يؤمن بكفاءتهم مثل طلحة والزبير. لكن طلحة والزبير قد ذهبا إلى حرب الجمل وحرضا عائشة، وقاتلا إلى جانبها‍ ‍‍‍‍‍‍‍؟‍‍‍ لماذا؟ لأن كلاً منهما كان يتوقع أنه إذا استلم الإمام علي(ع) الحكم وتقرَّبا منه، فسيعطي كلاً منهما ولاية يحكمها، ولما قال الأمير (ع) لكل واحد منهما أنه لا يوجد لكم حكم على أي ولاية ، هنا وقفا في الخانة المعادية وأعلنا "يا لثارات عثمان" فهما حريصان على دم عثمان، وهو شعار لتغطية تحركهما الشخصي، لأعطاء البعد الإسلامي لقضيتهما ، مع أنه لا علاقة للأمير(ع) بدم عثمان، فالإمام علي(ع) كان واحداً من الذين دافعوا عن عثمان حتى لا يقتل من خلال ولديه الحسنين(ع).‏

أما معاوية فقد قاد حرب صفين، لماذا؟ لأن الإمام (ع) لم يعطه ولاية الشام، فالإمام يعرف أن معاوية غير كفؤ، ولا يمكن ان يسلمه رقاب المسلمين، وكيف يأتي الإمام ثم يكون معه ولاة ظلمة، يجب تغيير كل الطاقم الذي له علاقة بالحكم، وهذا يعبر عن عقلية الحاكم العادل لاختيار مساعديه، فإذا كان المساعدون من أهل الكفاءة والإيمان والتقوى والصلاح والقدرة فهذا يعني أنه يتصرف بحكمة وإيمان وأنه يتحمل مسؤوليته بجدارة، أما إذا كانوا دون المستوى المطلوب أو كانوا فاسدين أو ما شابه فهذا يعني أن الخلل من المسؤول الأول. ثم عيَّن الإمام (ع) محمد بن أبي بكر والياً على مصر، ووجد الإمام (ع) بعد أن ولاه على مصر أنَّه ضعيف الشخصية، فهو طيب ومخلص ومؤمن ولكن لا يقدر أن يضبط الوضع جيداً، وأهل مصر يحتاجون شخصية قوية، فأرسل مالك الأشتر بدلاً من محمد بن أبي بكر ، مع العلم أن لا شكوى عنده من إيمان وثقة محمد بن أبي بكر، ولكن رأى من هو أصلح منه فأرسل الاصلح. هكذا يفكر الحاكم العادل ويعمل، ذهب مالك الأشتر ليستلم مسؤوليته ولكن قبل أن يستلم قتل، فبقي محمد بن أبي بكر بتنصيب من أمير المؤمنين(ع) ، ولكن نتكلم عن المحاولة التي أجراها الإمام (ع) .‏

لا يقبل الأمير(ع) أن تكون إمارة المسلمين وحكم المسلمين نوعاً من الترتيب العشائري أو الشخصي أو النفعي، بل يجب أن يكون الوالي كفؤاً وصالحاً، وقد دفع الإمام(ع) ثمناً كبيراً جداً بسبب هذه السياسة، لكنه قدَّم نموذجاً للحكم المستقيم. وقد ضجَّ بعض أصحاب الإمام (ع) من سياسته في تعيين الولاة، ونصحه بعضهم بالقبول بالولاة الظلمة حتى لا يسببوا المشاكل، ثم بعد ذلك يدرس خياراته مستقبلاً. ففي الأمالي للشيخ الطوسي :" لما بويع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، بلغه أن معاوية قد توقف عن إظهار البيعة له، وقال:إن أقرني على الشام وأعمالي التي ولانيها عثمان بايعته، فجاء المغيرة إلى أمير المؤمنين(ع) وقال له: يا أمير المؤمنين، إن معاوية من قد عرفت ، وقد ولاًّه الشام من قد كان قبلك، فولِّه أنت كيما تتسق عرى الأمور ، ثم اعزله إن بدا لك(A).‏

فقال الأمير(ع): أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه؟ قال :لا. قال (ع): لا يسألني الله عز وجل عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً" وما كنت متخذ المضلين عضداً" لكن أبعث إليه وأدعوه إلى ما في يدي من الحق، فإن أجاب فرجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، وإن أبى حاكمته إلى الله".‏

السياسة المالية :‏

اشتهر أمير المؤمنين(ع) بالسياسية المالية التي اعتمدها، وكان حريصاً على بيت مال المسلمين ، فبيت مال المسلمين مسؤولية، وعلى الحاكم أن يوزع منه بعدالة على أساس الاستحقاق لجميع المسلمين، ولا مجال للقرابة أن تلعب دوراً في السياسة المالية، وطبعاً الناس القريبين منه مع أن الضغط كبير وقصة عقيل معروفة، وقد ذكرها الأمير في نهج البلاغة قائلاً :" والله لقد رأيت عقيلاً ، وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعا، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم كأنما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكدا، وكرر عليَّ القول مرددا، فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقاً طريقي، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها. فقلت له:" ثكلتك الثواكل يا عقيل ، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه.أتئن من الأذى ولا أئن من لظى"(4) . هذا درس لعقيل ولجميع المسلمين ليتعلموا حفظ أمانة الأموال التي بين أيديهم وهي ملك عام للمسلمين.‏

نسمع دائماً عن مشروع اسمه : من أين لك هذا؟، ولو طبق هذا المشروع لتبين أن 95 % من المسؤولين يسقطون في الاختبار، فقد رتبوا أوضاعهم بسرقات واحتيال وغش ولم يمنعهم أي نوع من أنواع المحرمات للحصول على المال، وإلاَّ كيف تنمو هذه الثروات الضخمة وبسرعة هائلة، وما جمع مال إلاَّ من شح أو حرام. طبق الأمير (ع) قاعدة من أين لك هذا؟ قبل الجميع، فقد أحصى التوزيعات التي حصلت بين الناس، ورأى مخالفتها لمبدأ العدالة ، فقرر إعادة النظر فيها مهما كانت النتائج ، إذ لا يعقل أن يتم العفو عما مضى ، والأموال لا زالت بيد من أخذها بغير حق، وبيت المال أحق بها.وقال (ع):" ألا وإن كل قطيعة أقطعها عثمان (كل شيء أعطاه عثمان ،هدية منحة ، من بيت مال المسلمين ) وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال (فكل شيء توزع بغير الأصول يجب أن يرجع، والأصعب من هذا) فإن الحق القديم لا يبطله شيء، والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته (مهما فعل في المال الذي أخذه سأرجعه) فإن في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق))(5)، فالذي لا يقبل بالحق ويعتبر أن هذا الأمر يضيق عليه ، فليتأكد أن الظلم أضيق من الحق. عندما نعتاد على الظلم والجور والبغي وعلى الانحراف نشعر أن هذه الأمور طبيعية، ولكن لو قمنا بمقارنة حقيقية بين الحق والباطل، وبين الظلم والعدل، وبين الأخلاق والانحراف، لوجدنا أن الأخلاق والعدل والطهر والإيمان أفضل وأربح في حياة الإنسان. فمن ذا الذي يقول أن حياة الانحراف والبغي هي الحياة المطمئنة، إنها متاع زائل ومؤقت، وعندما يجرب الشخص منّا ويدخل في دائرة الإيمان والطاعة لله تعالى، فإنه يحس بسعادة كبيرة لا تعوض لا بمال ولا بجاه ولا بموقع.‏

وروي أنه في يوم من الأيام رأى ابنته قد وضعت عقداً على عنقها، وتبين أنها أخذته من بيت مال المسلمين فأنبها وأنب خازن بيت المال وأعاد العقد، وقد ذكر أبو رافع القصة قائلاً: فأرسلت إلى بنت علي بن أبي طالب (ع) فقالت لي بلغني أن في بيت مال أمير المؤمنين عقد لؤلؤ وهو في يدك، وأنا أحب أن تعيرنيه أتجمل به في أيام عيد الأضحى، فأرسلت إليها وقلت:عارية مضمونة يا ابنة أمير المؤمنين، فقالت: نعم عارية مضمونة مردودة بعد ثلاثة أيام، فدفعته إليها،وإن أمير المؤمنين رآه عليها فعرفه، فقال لها : من أين صار إليك هذا العقد؟ فقالت: استعرته من ابن أبي رافع خازن بيت مال أمير المؤمنين لأتزين به في العيد ثم أرده، قال فبعث إليَّ أمير المؤمنين (ع) فجئته فقال: أتخون المسلمين يا بن أبي رافع؟ فقلت له: معاذ الله أن أخون المسلمين، فقال: كيف أعرت بنت أمير المؤمنين العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير إذني ورضاهم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إنها ابنتك ، وسألتني أن أعيرها إياه تتزين به، فأعرتها إياه عارية مضمونة مردودة، وضمنته في مالي وعليَّ أن أرده مسلماً إلى موضعه، فقال: رده من يومك وإياك أن تعود لمثل هذا فتنالك عقوبتي، ثم أولى لإبنتي لو كانت أخذت العقد على غير عارية مضمونة مردودة لكانت إذن أول هاشمية قطعت يدها في سرقة، قال: فبلغ مقالته ابنته، فقالت له: يا أمر المؤمنين : أنا ابنتك وبضعة منك فمن حق بلبسه مني؟ فقال لها أمير المؤمنين(ع): يا بنت علي بن أبي طالب لا تذهبي بنفسك عن الحق، أكل نساء المهاجرين تتزين في هذا العيد بمثل هذا؟ فقبضته منها ورددته إلى موضعه"(6).‏

أداء الحاكم مع الرعية:‏

الوالي الذي يعامل الناس بسواسية فلا يميز فيهم بين المحسن والمسيء، فلا يثيب من يقدم خدمة للأمة ولا يعاقب من يسبب الضرر لها، لا يكون عادلاً في ولايته، ولا تستقيم إمارته. يقول الأمير في وصيته لمالك الأشتر عندما أرسله إلى مصر ليكون والياً عليها((ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء،فإن في ذلك تزهيداً لأهل الاحسان في الإحسان،وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة"(7) . إن الحاكم العادل الذي لا يبقى في برجه العاجي، حيث يتفقد الرعية ، ويطلع على احتياجاتها ، ويراقب نتائج حكمه، لينصف الناس ويؤدي لهم حقوقهم. مرَّ الأمير(ع) من أمام امرأة بدا أنها في حالة صعبة، وأمامها قربة ثقيلة تريد أن تحملها، فجاء الإمام(ع) وساعدها في حملها، وقد ذكر ابن آشوب القصة في كتابه مناقب آل أبي طالب:‏

"نظر علي إلى امرأة على كتفها قربة ماء فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها وسألها عن حالها، فقالت: بعث علي بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل، وترك عليَّ صبيانا يتامى ، وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس، فانصرف وبات ليلته قلقاً، فلما أصبح حمل زنبيلاً فيه طعام، فقال بعضهم: أعطني أحمله عنك، فقال: من يحمل وزري عني يوم القيامة. فأتى وقرع الباب: فقالت من هذا؟ قال أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة، فافتحي فإن معي شيئاً للصبيان. فقالت: رضي الله عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب. فدخل وقال: إني أحببت اكتساب الثواب، فاختاري بين أن تعجني وتخبزي وبين أن تلعبي الصبيان لأخبز أنا، فقالت أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان فعللهم حتى أفرغ من الخبز، فعمدت إلى الدقيق فعجنته، وعمد علي إلى اللحم فطبخه، وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، فكلما ناول الصبيان من ذلك شيئا ، فقال له: يا بني اجعل علي بن أبي طالب في حل مما مر في أمرك. فلما اختمر العجين، قالت: يا عبد الله سجر التنور، فبادر لسجره فلما أشعله ولفح في وجهه، جعل يقول:" ذق يا علي هذا جزاء من ضيع الأرامل واليتامى"، فرأته امرأة تعرفه، فقالت: ويحك هذا أمير المؤمنين، فبادرت المرأة وهي تقول: واحياي منك يا أمير المؤمنين، فقال: بل واحياي منك يا أمة الله فيما قصرت في أمرك"(8). إنَّ هذا الحس المرهف بثكالى وأيتام المسلمين دليل واضح على الاهتمام بالرعية بطريقة تأخذ بعين الاعتبار احتياجاتهم لإمكاناتهم الاجتماعية، وهذا هو العدل.‏

أُطلع الإمام (ع) مرة أن أحد الولاة الذين كلفهم وهو عثمان بن حنيف عامله على البصرة، قد ذهب إلى دعوة إفطار مميزة، فيها ما لذّ وطاب، فأرسل له (( وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم (فقيرهم) مجفو (مبعد)وغنيهم مدعو ))(9)فالفقير مبعد ولا أحد يهتم به، والغني هو الذي يتكرم، وكيف تذهب إلى حفلة يتكرم الغني فيها ويطرد الفقير منها، أو يكون فيها تمايز، وأنت في موقع المسؤولية. يجب أن تلتفت إلى المصلحة العامة فالناس ينتظرون منك غير هذا. هذا توجيه لبناء الشخصية الملتزمة التي تأخذ بعين الاعتبار واقع الناس.وأعلم أن الصالحين يُعرفون بسلوكهم الفردي والاجتماعي، فما تربوا عليه يبرز إلى الخارج، " كل إناء بما فيه ينضح" والإمام(ع) يقول :((وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح))(10) وهذا هو المهم. إذا أردنا أن نعرف صفات إنسان معين فلنر انطباع الناس عنه، فالخلوق يُعرف وتبرز أخلاقه، والطاهر يُعرف، والعالم يُعرف، الخ... ، لذلك يجب أن تراقب سلوكك الذي يدل عليك، وليس الكلام هو الذي يدل عليك.‏

كيف نتصرف؟‏

عندما نتعرف ونتعلم من أمير المؤمنين(ع)، نعلم أن هناك فرقاً كبيراً جداً بيننا وبينه، ومن الذي يستطيع أن يكون عادلاً كعدالته أ ومنصفاً كإنصافه الخ.. إنه المستوى الأرفع ولو لم تكن عنده الكفاءة والشخصية لم يكن ليصل إلى هذا المستوى العظيم، فعندما نقول إن الأمير(ع) كان يكتفي من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، إنما نتحدث عن نموذج راق ومميز، وهل يريدنا أن نكون مثله‍‍‍‍‍‍؟ إنه يرأف لحالنا ومتطلباتنا فيوجهنا بقوله: ((ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد))(11) فليكن عندكم تقوى لله تعالى، واجتهدوا في أن تعملوا الصالحات، كونوا من العفيفين في أنفسكم وفي الابتعاد عن المعاصي ، اتبعوا سداد الرأي وحسنه، ولا تضيقوا على أنفسكم، ولكن سيروا في الاستقامة، فإذا تحققت الاستقامة مع الطعام الطيب، ولم يأكل قرصي شعير فلا مشكلة، ولكن يجب أن يكون الأكل من الحلال، ولا يكون بذخ في التصرف، ويكون الواقع العملي بدون ترف، ويأخذ من جماليات الدنيا ما ينسجم مع بعض رغباته في الإطار المتوازن الذي لا يربطه بالدنيا ويبعده عن الآخرة.‏

هذه التوجيهات مسؤولية كل مسؤول في موقعه حاكماً كان أو مديراً لمؤسسة أو لأسرة، فالحاكم مسؤولية المجتمع بأسره، وكل مسؤول راع عن رعيته مهما كان عددها قليلاً، وإذا اقتدينا بضوابط الأمير (ع) حققنا أهداف الإسلام في العدل بين الناس.‏

*محاضرة لسماحة الشيخ نعيم قاسم/بلدية برج البراجنة‏

--------------------------------------------------------------------------------‏

الهوامش:‏

تبصرة : الخطب والكتب من نهج البلاغة لأمير المؤمنين علي(ع).‏

(1) خطبة 74.‏

(2) الشقشقية - خطبة 3.‏

(3) خطبة 92.‏

(4) خطبة 224.‏

(5) خطبة 15.‏

(6) بحار الأنوار للعلامة المجلسي -ج4 ص 338.‏

(7) عهده لمالك الأشتر - كتاب 53.‏

(8) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب -ج1 ص 382.‏

(9) كتابه إلى عثمان بن حنيف - كتاب - 45.‏

(10) عهده لمالك الأشتر - كتاب 53.‏

(11) كتابه إلى عثمان بن حنيف - كتاب 4.‏

(A) الآمالي للشيخ الطوسي-ص 87.‏