مقالات

الثورة الإسلامية والمشروع الحضاري الإسلامي للإمام الخميني (قده)

كلمة سماحة الشيخ نعيم قاسم/ نائب أمين عام حزب الله - لبنان، في الندوة الدولية بمناسبة الذكرى السنوية التاسعة لرحيل مفجّر وزعيم الثورة الإسلامية المباركة آية الله العظمى الإمام الخميني (قده)، وذلك في قاعة المؤتمرات بمكتبة الأسد في دمشق بتاريخ 2 و 3 ربيع الأول 1418 - الموافق: 7 و 8 تموز 1997. تحــت شعــار: "الثورة الإسلامية والمشروع الحضاري الإسلامي للإمام الخميني (قده)".

كلمة سماحة الشيخ نعيم قاسم/ نائب أمين عام حزب الله - لبنان، في الندوة الدولية بمناسبة الذكرى السنوية التاسعة لرحيل مفجّر وزعيم الثورة الإسلامية المباركة آية الله العظمى الإمام الخميني (قده)، وذلك في قاعة المؤتمرات بمكتبة الأسد في دمشق بتاريخ 2 و 3 ربيع الأول 1418 - الموافق: 7 و 8 تموز 1997. تحــت شعــار: "الثورة الإسلامية والمشروع الحضاري الإسلامي للإمام الخميني (قده)".

عنوان البحث: "الثورة الإسلامية في مواجهة الضغوط المتواصلة عليها نتيجة لرفض شرعية الكيان الصهيوني الغاصب ومعارضة هيمنة الإستكبار العالمي".‏

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق مولانا محمد وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار وعلى الأنبياء والمرسلين.‏

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..‏

أولاً: الضغوطات نتيجة معارضة هيمنة الإستكبار‏

التبعيــة:‏

إن الثورة الإسلامية المباركة، التي أطلقها الإمام الخميني (قده)، قد طرحت الإسلام كمنهج للحياة منذ اليوم الأول لاندلاعها، وأكدت على مفهوم "لا شرقية ولا غربية".‏

"لقد قلت مراراً، وأقول في هذا اليوم العظيم: إن قطع جميع التبعيات من دول الشرق والغرب الكبرى، وجهاد شعبنا الذي لا يقبل المصالحة ضد المستكبرين مستمر" (الإمام الخميني "قده")(1).‏

مما يعني أنها ثورة إسلامية حضارية مستقلة متميزة عما هو معمول به في العالم، وعن التقاسم الحاصل بين الشرق والغرب، فالإتحاد السوفياتي يتزعم الشيوعية في الشرق، وأميركا تتزعم الرأسمالية في الغرب. ولم يكن مقبولاً منهما أن توجد دولة على وجه الأرض لا تخضع لأحدهما، على قاعدة تقاسم الأدوار ومراكز النفوذ والسيطرة، وعلى قاعدة الهيمنة الدولية الإستكبارية منهما.‏

وعليه، كان بزوغ فجر الثورة الإسلامية الإيرانية عاملاً مقلقاً، فروسيا مجاورة لإيران وهي تريدها الى جانبها وقد عانت منها الكثير في عهد الشاه، عندما كانت قاعدة عسكرية أميركية تساهم في رصد جميع التحركات السوفياتية. وكذلك أميركا لم تكن تتحمل أن تخرج من إيران خائبة ذليلة بعد سقوط الشاه، وهي تطمع أن تحافظ على موقعها.‏

تَوافَقَ الإستكبار على مواجهة إيران الإسلام على قاعدة أنها تشكّل خطراً عليه، الأول بما يمثّل من جار، والثاني بما يمثّل من خسارة لموقع. وكان الطريق العملي لتطبيق مواجهة هذا المشروع الحضاري الإسلامي أن قام العراق بالإعتداء على إيران في سنة 1980، مدعوماً من الدول الإستكبارية، ومعهما كل العالم، لمواجهة هذه الدولة الإسلامية الفتية؛ واستمر العراق بالعدوان على إيران لثماني سنوات، نتيجة الموقف المتمثل بـ"اللاشرقية واللاغربية"، ودفعت إيران ثمناً باهظاً، وكان الأمر متوقعاً.‏

"يا شعب إيران العزيز، لقد أرعبتم الشرق المعتدي والغرب المجرم، لا تساوموا أية دولة أبداً، وأنا على يقين من أنكم لا تفعلون ذلك؛ وأي شخص في أي منصب كان يريد المساومة مع الشرق أو الغرب فامحوه من صفحة الدهر بدون أية ملاحظة، لأن سياسة التوافق مع الشرق أو الغرب تعني فقدان الذات وخيانة الإسلام والمسلمين.‏

فاليوم يوم الشهادة والدم. وإننا نتوقع التآمر في جميع أنحاء إيران كل يوم. ولكن مدرسة إسلامنا العزيز تأمرنا بأن لا نكفّ عن المطالبة بالحرية والإستقلال، ونحن أيضاً لا نكفّ" (الإمام الخميني "قده")(2).‏

لكن إيران صمدت بشعبها وقيادتها، واستطاعت أن تحافظ على استقلالها وتميّزها، ولم يتمكن العالم بأسره من فرض شروطه عليها. وخرجت إيران منتصرة باستقلالها وكيانها ومواجهتها.‏

محنة العدوان الغربي:‏

لم يكن إغراء العراق بالدخول الى الكويت من قبل الأميركيين إلا رغبة في إيجاد الذريعة لتواجدهم بأساطيلهم وجنودهم في منطقة الخليج، على قاعدة تثبيت وجود عسكري مباشر يهيمن على المنطقة، ويضع يده على موارد النفط، ويتمكن من مواجهة المد الإسلامي القادم من إيران، والمستحوذ على رغبة وعواطف وقناعات شعوب المنطقة. لذا، نعتبر الحرب التي خاضها التحالف الغربي ضد العراق، موجّهة ضد إيران الإسلام أيضاً، لتتمكن أميركا من السيطرة المباشرة حتى تقيِّد حركة إيران وتدبّ الرعب في نفوس دول المنطقة، على قاعدة عجزهم عن حماية أنفسهم، حتى تتمكن أميركا من التحكم ومواجهة إيران بسبب عدم خضوعها للتوجه الإستكباري الأميركي. لكن إيران استطاعت، بقيادة الولي الفقيه الحكيمة، أن تتجاوز محنة العدوان الغربي على العراق - تحت حجة تحرير الكويت - ببقائها على الحياد، فلم تتورط في الإنسياق في المشروع الغربي لقتال العراق، ولا في الإنجرار وراء العواطف والمشاعر تحت عنوان مواجهة الغرب، مستطيعة - في هذه المحطة الحرجة - أن تُبرز شخصية الدولة الإسلامية التي لا تخضع لقرارات المشروع الغربي ورغباته في جر إيران الى قناعاته وقراراته وتبعيته.‏

أوروبا.. والحوار:‏

إنسجم الأوروبيون مع التوجه الأميركي في مواجهة إيران، واختبأوا خلف مسألة "سلمان رشدي"، لا لأنهم يريدون المحافظة على شخص، فكم من أشخاص تخلَّوا عنهم تحت عنوان مصالحهم، ولكن لأنهم أرادوا غطاءاً يجعلهم متمايزين عن الأميركيين في مواجهة إيران، ومحاولة منهم للوقوف أمام مدّ الثورة الإسلامية، وهم بذلك كانوا يبتغون المحاصرة لهذه الثورة نظراً للعدائية المنطلقة من مواجهة التوجه الثقافي والسياسي والإقتصادي. وليست المسألة مسألة دولة أفتى قائدها بِرِدة "سلمان رشدي"، لكن الموضوع يرتبط بمنهجية حضارية تطرح المشروع الإسلامي كبديل. وهم على الرغم من زعمهم بأنهم مع حرية الرأي وحرية الفكر، فإنهم لا يتحملون وجود فكر مضاد يتمكن من الإستحواذ على العقول والقلوب، ويكون بديلاً لهم، ويشقّ طريقاً له في العالم الثالث خاصة، ليشكّل خطراً بعد ذلك عليهم في عالمهم.‏

ولذا، كانت المواجهة الأوروبية مواجهة لحضارة جديدة أكثر مما كانت مواجهة لهيمنة ذاتية مباشرة، إذ أن الأميركيين لم يتركوا لهم أي دور، لكن الخوف من مستقبل مؤثر في حضارة تشقّ طريقها بكل جرأة وثبات هو الدافع الأساس.‏

وتحملت إيران هذا الضغط العالمي الكبير، وصمدت، وقلبت الطاولة عليهم، فإيران الإسلام دولة ناشئة وعندها إمكانات كبرى وللآخرين مصالح فيها. وإذا بالأوروبيين يخضعون أمام رغبتهم في تحقيق مصالحهم الإقتصادية ويجدون الأعذار الكثيرة للدخول مجدداً في علاقة مع إيران تحت عنوان "الحوار النقدي" الذي يُبقي قنوات الحوار مفتوحة من أجل إيصال القناعات المضادة والإقناع بها. إذ أن العزل لا ينفع بينما العلاقة هي التي تنفع. وبصريح العبارة: أوروبا وجدت نفسها محتاجة الى إمكانات إيران والى تصريف الإنتاج وفتح أبواب إقتصادية جديدة أمام الركود الإقتصادي العالمي الذي بدأت تعاني منه أوروبا؛ وإذا بمليارات الدولارات تشدّ أوروبا لتدع جانباً أفكارها وقناعاتها في مواجهة إيران الثورة الصامدة، تحت عنوان "التنظير للإنفتاح، ومحاولة احتواء إيران الإسلام".‏

الحصار الشامل:‏

كنا نسمع في الكثير من الحالات أنه ينشأ حصار سياسي أو إقتصادي أو ثقافي على دولة من الدول، لكن إيران الإسلام ووُجهت بحصار شامل في كل الميادين السياسية والإقتصادية والثقافية والإعلامية... حتى لم يبقَ منفذ واحد إلا وحاولت أميركا والغرب أن يسدّوه على إيران الإسلام. لكن الجمهورية الإسلامية صمدت وواجت الأمر بخطط على الصعد المختلفة، وخاصة في الإعتماد على الذات حتى يتم الإكتفاء الإقتصادي الداخلي وفي تحمّل همّ المواجهة الإعلامية في الدفاع المشروع، بأدلة دامغة، وفي مواجهة الحصار السياسي ببراعة الإنفتاح على كل دول العالم، وفي مواجهة حصار التجويع بالصوم، كما دعا الإمام الخميني (قده) في أحد مفاصل الحصار: "ليصوم الناس حتى يخففوا من استهلاكهم للطعام، كطريق من طرق مواجهة الحصار من قبل الآخرين".‏

وهكذا أثبتت التجارب أن التفاف الشعب حول قيادته الشرعية، وحزم القيادة في الرؤيا الثاقبة للثبات أمام الضغوطات، أفشل مخططات الحصار وأسقطها جميعها، بل ساهم في الإعتماد على النفس واستكشاف الإمكانات والمقدّرات الداخلية، وفي نهضة داخلية سريعة ومذهلة على المستوى الإقتصادي خاصة.‏

المعارضــة:‏

لجأ المعارضون الى المواجهة المسلحة، من خلال الحدود العراقية الإيرانية، ولجأوا الى أعمال شغب ومحاولات اغتيال في الدول الأجنبية التي يتواجدون فيها، ويحصلون على الدعم الكامل من الدول الغربية، من أجل تشويه سمعة إيران الإسلام، وليكونوا أدوات غربية تواجه واقع الثورة؛ وانكشف هؤلاء المعارضون في الداخل حيث كانوا أجهزة مخابرات وأدوات قتل وقمع، وقاموا بتفجيرات داخل إيران، أبرزها:‏

- تفجير مقر الحزب الجمهوري الإسلامي، حيث استُشهد 73 من خيرة قيادات الثورة.‏

- قتل رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، والعديد من الشخصيات والعلماء أمثال الدكتور مُفتَّح.‏

لم تكن تلك المعارضة حقيقية وبنّاءة، بل كانت مأجورة، سقطت في مشروعها العدواني، وأصبحت لا تعبّر عن أي تمثيل في واقع الشعب الإسلامي.‏

وقد أظهرت الإنتخابات الأخيرة - التي نجح فيها رئيس الجمهورية حجة الإسلام والمسلمين السيد خاتمي - الإستفتاء العظيم لمصلحة نظام الجمهورية الإسلامية، بـإقبال الناس على صناديق الإقتراع بنسبة 88 %، وهذا يعني أن النظام، بمضمونه وشخصياته، هو محل موافقة وثقة من قبل هذا الشعب؛ ولا أظن أن أي نظام في العالم يمكن أن يحصل على هذه النسبة في استفتاء. وهذا يُسقط ما في يد المعارضة، ويجعلهم مجموعات صغيرة مأجورة لا قيمة لها ولا أثر لها في الحياة السياسية في إيران. بل ذُهِل الغرب من هذه النتيجة، المترافقة مع حرية الرأي، وحاول الإيحاء أن نجاح رئيس جمهورية، بانتهاء ولاية ومجيء أخرى، يعني تغييرات حقيقية في الداخل.‏

هذه طموحاتهم في إيجاد تغيير يُسقط النظام الإسلامي؛ لكن ما حصل هو تعزيز إضافي للنظام الإسلامي بقيادة الولي الفقيه آية الله العظمى السيد علي الخامنئي (حفظه الله).‏

قانون "داماتو":‏

حاولت أميركا، في مؤتمرات عديدة وفي لقاءات ثنائية مع كثير من الدول الكبرى، أن تضغط باتجاه محاصرة إيران، وذلك لتحقيق هدفين: هدف الهيمنة الإستكبارية، وهدف الضغط نتيجة رفض شرعية الكيان الصهيوني. وفشلت أميركا في كل محاولاتها، وطرحت مشروع "الإحتواء المزدوج" لكل من إيران والعراق (بمعزل عن حكم صدام). والمقصود بهذا المشروع هو تحطيم قدرات كل منهما، ومحاولة عزلهما وحصارهما حتى لا يتمكنا من إيجاد قدرة متميزة في المنطقة تساهم بشكل أو بآخر في تشكيل درع تلجأ له باقي الدول والشعوب. ولم تَدَع أميركا مؤتمراً من المؤتمرات الدولية التي انعقدت إلا ومارست أقصى الضغوطات، لكنها لم تفلح، لأن إيران أحسنت في علاقاتها وأدائها وسياستها، ولم تكن مدانة في أية حالة من الأحوال، بل هي في موقع المظلوم دائماً من الضغوطات الأجنبية والأميركية عليها، ولم تكن في موقع المعتدي في يوم من الأيام.‏

وبعد إخفاقات متواصلة، وقّع كلينتون قانون "داماتو" للمقاطعة الإقتصادية الى الدول الأوروبية ودول العالم، ليفرض مقاطعة إقتصادية لإيران وليبيا خارج دائرة أميركا، وهذه بدعة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، على قاعدة أن كل دولة يمكن أن تأخذ قرارات تعنيها في تجارتها مع الدول الأخرى، أما أن تأخذ قرارات من جهة واحدة لتضغط على الآخرين لينقذوها ضمن مشروعها فهذه بدعة واضحة.‏

وقانون "داماتو" يدعو الى معاقبة كل شركة نفطية أجنبية تستثمر أكثر من 40 مليون دولار في سنة واحدة في قطاعَي النفط والغاز، في ليبيا أو إيران، ويمكن للرئيس الأميركي في هذا المجال أن يفرض على الشركة عقوبتين على الأقل من سلسلة عقوبات أبرزها:‏

1) حظر كامل لتصدير منتجات الشركة الى الولايات المتحدة.‏

2) منع الحكومة الفدرالية من شراء سلع منها.‏

3) منع المؤسسات المالية الأميركية من تقديم أي قرض إليها تتجاوز قيمته عشرة ملايين دولار.‏

4) منع إصدار أي إجازة تصدير بالتكنولوجيا الأميركية لمصلحة الشركة المخالفة.‏

وهذا القانون قد واجهته عاصفة دولية، لأنه يمس مصالح تلك الدول، ولا يمكن أن يؤخذ القرار ويُفرض عليها. لكن الملاحظة هنا أن هذه الهجمة الإستكبارية الأميركية، وبعد فشل سلسلة الضغوطات في المؤتمرات وبأساليب مختلفة، لم تتوقف لحظة واحدة عن ابتداع أساليب ضغط على إيران، بسبب مواقف إيران من قضايا الشعوب، وتميّزها بالإستقلال عن التبعية، وعدم الخضوع للهيمنة الإقتصادية والسياسية الأميركية.‏

وقد فشل مشروع "داماتو" في تحقيق أهدافه، ولم تلتزم به الدول، وبقي عنواناً لطريقة للضغط الأميركي.‏

ثانياً: الضغوطات نتيجة رفض شرعية الكيان الصهيوني الغاصب‏

الإحتلال الصهيوني لفلسطين:‏

إشتهر الإمام الخميني (قده) بمناصرته لتحرير فلسطين من رجس الصهاينة، وهو المعروف بكلمته التي ملأت الآفاق: "يجب أن تزول إسرائيل من الوجود"، وهو القائل:‏

"إننا كنا قد طالبنا منذ حدود عشرين سنة بأن يتحدوا لاستئصال هذه الغدة السرطانية من بدن المسلمين، وأن يعملوا على تحرير القدس من جورها وتسلّطها، بأن يعملوا لتخليص الدول الإسلامية من شر هذه الغدة السرطانية"(3).‏

وقد أفتى بجواز دفع الحقوق الشرعية، وذلك قبل انتصار الثورة الإسلامية المباركة بسنوات طويلة، من أجل مقاتلة العدو الإسرائيلي.‏

"من الراجح، بل الواجب، تخصيص قسم من الحقوق الشرعية من الزكاة وحــق الإمام - بما فيه الكفاية - للمجاهدين في سبيل الله، المرابطين في خطوط الشرف والمجد للقضاء على الصهيونية الكافرة اللاإنسانية"(4).‏

وقد رفض الإمام (قده) كل الخطوات التي تستبعد تحرير كامل الأرض، واعتبر أن حق الشعب الفلسطيني يتمثل في استعادته لأرضه كاملة.‏

"إتفاقية "كامل ديفيد" ليست إلا خدعة ولعبة سياسية لمواصلة الإعتداءات الإسرائيلية ضد المسلمين، وإنني قد أدنت إسرائيل في كلماتي وبياناتي منذ أكثر من 15 سنة، ودافعت عن الشعب الفلسطيني وأراضيه. إن إسرائيل دولة غاصبة ويجب أن تترك فلسطين بأقصى سرعة ممكنة"(5).‏

وفي نفس السياق، أعلن الإمام القائد الخامنئي (حفظه الله) خلال قيادته هذا الحق:‏

"الهدف هو إنقاذ فلسطين، لا فرق بين الأراضي المغتصبة قبل 1967 أو بعد 1967، فكل شبر من الأرض الفلسطينية هو شبر من منازل المسلمين، وكل حكم غير حكم الشعب الفلسطيني وحكم المسلمين على الوطن الفلسطيني هو حكم غاصب. ولبّ الكلام كما تفضل به إمامنا الخميني (قده) "يجب محو إسرائيل" "(6).‏

وهكذا كانت المواجهة لإيران الإسلام لأنها رافضة لمشروع دولة إسرائيل، وهي الدولة الوحيدة التي رفضت التسوية في مدريد جملة وتفصيلاً على قاعدة أنها تسوية ظالمة، وأعلنت موقفها بصراحة وتميّزت بهذا الإعلان. فكانت المواجهة الإستكبارية لإيران الإسلام، وخاصة من أميركا، تتمثل بضغوطات مستمرة لثني إيران عن هذا الموقف المتميّز الى جانب حق الشعب الفلسطيني، لأنهم يعلمون أنه سينعكس حالة التفاف شعبي عربي - إسلامي ومن قبل المؤمنين بقضية فلسطين حول الثورة الإسلامية المباركة لتشكّل تياراً مؤثراً في استعادة حقوق الشعب الفلسطيني؛ ولم يكن مقبولاً عند أميركا ومَن معها أن تقف إيران هذا الموقف، ولو كان بـإعلان سياسي مع بُعد الجغرافيا عن فلسطين، لأنهم يعلمون تماماً أن هذا الموقف الأصيل يشكّل دعماً حقيقياً، عدا عن الإجراءات العملية التي تساعد في نصرة الشعب الفلسطيني حتى يواجه الكيان الغاصب. وقد كان إعلان يوم القدس العالمي في أول شهر رمضان بعد انتصار الثورة مؤشراً على التوجه الداعم. وقد قال المسؤولون الأميركيون مراراً بأنهم يريدون من إيران أن تتوقف عن دعم قضية تحرير فلسطين، لأن هذا يشكّل إرباكاً للسياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، ويعطل الكثير من مشاريع التخلي عن الأرض، ويحرج الدول العربية والإسلامية في مشاريع التطبيع التي تريدها، متخلية بذلك عن دعمها للشعب الفلسطيني وحقوقه.‏

إجتياح لبنان:‏

بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 أصدر الإمام الخميني (قده) قراراً للحرس الثوري الإسلامي أن ينتقل الى المنطقة ليقوم بواجبه في دعم المنظمات والجهات التي تحتاج الى تدريب وتهيئة لمواجهة العدوان الإسرائيلي ومناصرة لسوريا ولبنان في مواجهة خطر هذا العدوان. وكان دور الحرس دور التدريب والتهيئة ولم يدخل في المفردات المباشرة للمواجهة على الحدود المحتلة، ذلك أن ثقة الإمام الخميني (قده) بقدرة شعوب المنطقة على القيام بواجباتها، بل قناعته بأن عليها أن تقوم بالدور الأول والأساس، هو الذي دفع أن يكون دور الجمهورية الإسلامية دور الداعم لا دور البديل.‏

"إننا ندعم ونؤيد نضال الشعبين الأخوين الفلسطيني واللبناني في نضالهما ضد اسرائيل الغاصبة"(7).‏

فليس هناك أي طموحات للجمهورية الإسلامية في أن تكون موجودة مباشرة على أراضي الآخرين، بل هي رغبة أكيدة لدعم الشعوب من أجل أن تحصل على حقوقها، ثم يكون التعاون بين شعوب المنطقة على قاعدة قضاياها المشتركة وقناعاتها المشتركة؛ وكان لهذا الموقف الحكيم الأثر الكبير، إذ أن المقاومة الإسلامية في لبنان اندفعت بقوة وانطلقت بعطاءات المجاهدين، واستطاعت أن تسطّر ملاحم البطولة وتغيّر وجه الوضع في المنطقة من حالة إحباط كانت سائدة أثناء الإجتياح الى حالة استنهاض في مواجهة الإحتلال بكل مفرداته؛ وأصبحت المقاومة الإسلامية تشكّل مَعْلماً واضحاً في مواجهة مشاريع إسرائيل وأميركا؛ وأثمرت دماء سيد الشهداء السيد عباس الموسوي وشيخ الشهداء الشيخ راغب حرب (رضوان الله عليهما) وكذلك دماء كل الشهداء في إعزاز الأمة بأسرها على امتداد العالم؛ وتحوّل العَلَم الذي تغرسه يد مقاوم على تلال الجنوب اللبناني والبقاع الغربي الى روح تُحرك مشاعر الإباء والثورة عند كل المستضعفين.‏

وبدأ التراجع في اللغة والأداء الإسرائيلي واضحاً، وبدا الإرباك في مواجهة المقاومين، حيث كانت المطالبة الدائمة من أميركا وإسرائيل بـإيقاف المقاومة لأنها تعطل مشروع إسرائيل وتعيقه في خطواته، إذ أن الألم المباشر يأتي من المقاومين في لبنان وفلسطين. وعليه، كان لا بد من مواجهة إيران بسبب موقفها الداعم للجهاد. وكانت الضغوطات من كل حدب وصوب على إيران لتتوقف عن تأييدها، وأُشيعت اتهامات كثيرة، وتحدثوا عن ضرورة خروج إيران من معترك الأداء اللبناني الفلسطيني، واتُهمت المقاومة بأنها إيرانية في منطلقاتها وأهدافها، واتُهمت إيران بأنها تريد أن تحتل في المنطقة وأن تأخذ مكان أهلها، أو أنها تريد أن تدخل من خلال هؤلاء لتديرهم كما تشاء دون اعتراف بشخصيتهم واستقلاليتهم وخصوصياتهم. وهكذا كنا نرى الضغط الأميركي ومعه الضغط الغربي والإسرائيلي لمحاولة تشويه سمعة المقاومة الإسلامية خاصة، ومحاولة الضغط على إيران بأنها تتدخل في شؤون الآخرين، إذ وجدوا فعالية حقيقية في أداء المقاومة الإسلامية، ونسوا أن إسرائيل تدعمها أميركا بثلاث مليارات دولار سنوياً بشكل ظاهري، عدا عن كل الدعم الآخر، دون أن يكون هناك أي تساؤل أو إشكال!؟ بل هناك وقاحة أميركية في إبراز هذا الدعم والتبني، إضافة الى الإلتزام بالتفوّق العسكري الإسرائيلي على العرب أثناء المفاوضات، وإبطال كل القدرات العربية تحت عنوان ضرورات الكيان الإسرائيلي. لكن الدولة الإسلامية المباركة، وباستمرار منهجها بقيادة الإمام الخامنئي (حفظه الله)، إستمرت في مواقفها الثابتة التي تنطلق من المبادئ ومن دعم حقوق الشعوب ولا تنطلق من الخضوع الى ضغوطات الإستكبار وقناعات المستكبرين.‏

قضية "ميكونوس":‏

لم يعد خافياً على أحد أن قضية "ميكونوس" الألمانية هي ردة فعل على موضوع إسرائيلي يرتبط بـ"رون آراد" كشخص، ويرتبط بضغط أميركي - إسرائيلي على أوروبا لثني إيران عن مواقفها من القضية الفلسطينية ودعم لبنان وسوريا في مواجهة احتلال الأراضي العربية المحتلة. لكن لاحظنا أن هذه القضية كانت "زوبعة في فنجان" حيث وقفت إيران موقفاً صلباً، وأعلن الإمام القائد الخامنئي (حفظه الله) ضرورة عدم الإكتراث وعدم استقبال السفيرين الألماني والدانماركي، ليقول للعالم بأننا لا نهتم بعلاقات مشروطة بضغوطات غير منطقية، أو محاولات ابتزاز لا معنى لها، فإما أن يكون التعامل نداً لند، وعلى قاعدة التكافؤ المتبادل أو لسنا بحاجة لنكون أذلاء في دائرة الضغوطات التي تضعونها وتحاولون من خلالها النفاذ.‏

الإتفاقات التركية - الإسرائيلية:‏

الإتفاقات التركية - الإسرائيلية لا تحتاج الى مزيد تفسير مع المظلة الأميركية الراعية، بأنها تستهدف إيران بشكل واضح وكذلك سوريا، ليكون التواصل بين إسرائيل وتركيا، مع تسهيلات العبور عبر الأردن تشكّل خطأ واضحاً في إيجاد تهديد مباشر في مواجهة كل من إيران وسوريا، وهو عقاب لهما على مواقفهما من قضية فلسطين، فإيران أعلنت صراحة موقفها الداعم لتحرير الأرض، وسوريا أعلنت موقفها صراحة من رفض الحلول المطروحة، والتي تبتغي إذلال سوريا ولبنان والفلسطينيين والمنطقة بأسرها. لكن مهما كانت هذه الحركة ومهما كانت هذه الإتفاقات، تبقى العلاقة الإستراتيجية بين إيران وسوريا من ناحية، والعلاقة والدعم منهما للمقاومين وللشعبين في كل من لبنان وفلسطين، تشكّلان حجر زاوية هامة لمواجهة هذه الضغوطات القائمة، لأن الأيام ستثبت أكثر أن القوة المصطنعة لا تهزم إرادة الشعوب وحقوقها.‏

الخلافات مع العرب:‏

إثارة النعرات العربية - الفارسية، والنعرات المذهبية، والتي صاحبت عدوان العراق على إيران بالتحديد؛ واستطاعت إيران أن تتجاوز هذه الإثارات؛ واكتشف العرب، من الذين انجرّوا وراء صدام تحت هذا العدوان، أنهم كانوا أيضاً ضحية العدوان العراقي عليهم عند غزو الكويت؛ وتبيّن لشعوب المنطقة أن هذه العناوين هي عناوين تحريضية لمنع العلاقات العربية - الإيرانية، والتي تؤدي الى تفكيك المنطقة وإيجاد نزاعات تريح إسرائيل وتجعلها محور اللعب على التناقضات والنمو على حساب دول المنطقة.‏

والآن تتجه الأمور نحو خطوات أفضل، وخاصة بعد المبادرات المتكررة لكل الدول بما فيها مصر مؤخراً أثناء دعوتها الى مؤتمر الدول الإسلامية في إيران. وعليه، بدأنا نسمع من الدول العربية في منطقة الخليج إشارات واضحة برغبة في علاقات أوسع وأمتن مع إيران الإسلام، لأنهم لا يمكن أن يتجاوزوا حقيقة هذا الواقع، فإيران دولة قوية وكبيرة موجودة في المنطقة ولا تبتغي الإعتداء عليهم بل التكافل معهم دون وصاية أو هيمنة أجنبية على هذه المنطقة.‏

أمام ما عرضناه، يتضح تماماً حجم الهجمة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية بسبب مواقفها المعارضة لهيمنة الإستكبار العالمي ونتيجة لرفض الكيان الصهيوني الغاصب؛ ولو أردنا أن نذكر جزئيات المفردات وتفاصيل الأرقام لما وجدنا دولة في العالم الحديث قد تعرضت لما تعرضت له إيران الإسلام بسبب هذه المواقف، كيف لا وهي صاحبة مشروع حضاري إسلامي أطلقه الإمام الخميني (قده) وأعاد لنا آمالنا وطموحاتنا وتطلعاتنا، بل أعاد الكرامة للأمة في العودة الى أصالتها والى منهجها المحمدي الأصيل، فمن الطبيعي أن تكون الضغوطات بحجم عظمة المشروع. لكن الثبات الذي جسّدته الجمهورية الإسلامية بقيادة الإمام الخميني (قده)، ومن بعده بقيادة آية الله العظمى الخامنئي (حفظه الله)، وبركة حماسة وإقبال الشعب الإيراني المسلم على نظام الجمهورية الإسلامية والتفافه حول قيادته، يجعلنا نتطلع الى غد أفضل ونشعر بأهمية الصحوة الإسلامية التي انطلقت وخطت طريقها، ولا يمكن لأحد أن يقف بوجهها. ومَن كان مع الله كان الله معه؛ وما كان لله ينمو؛ وما النصر إلا من عند الله.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..‏

--------------------------------------------------------------------------------‏

المراجع‏

(1) من بيان الإمام (قده) بمناسبة الذكرى الأولى للإنتصار - كتاب "الإمام في مواجهة الصهيونية"، إصدار "سازمان تبليغات إسلامي"، ص: 103.‏

(2) المرجع نفسه، ص: 104.‏

(3) من خطاب الإمام الخميني (قده) أمام الضيوف الخارجيين، (المرجع نفسه، ص: 154).‏

(4) في رد على استفتاء (المرجع نفسه، ص: 46).‏

(5) مقابلة مع مجلة "غد أفريقيا" (المرجع نفسه، ص: 81).‏

(6) "منارات في الجهاد"، إصدار سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في بيروت، ص: 70.‏

(7) كتاب "الإمام في مواجهة الصهيونية"، في ندائه الى حركات التحرر العالمية، ص: 101.‏