29/4/1999 م.
السلام عليكم يا محبي المقاومة وعاشقي الأرض المحررة... أبدأ بالشكر للإخوة المسؤولين في "ندوة العمل الوطني" على إتاحة هذه الفرصة للحديث معكم ولتبيان بعض الآراء التي اخترناها، أو التي برزت من خلال أدائنا، ملخِّصاً لها بما ينسجم مع طبيعة العنوان "المقاومة بين الإرادة الشعبية والقرارات الدولية". وعندي في البداية ملاحظات ثلاث:
أولاً: المقاومة هي تجسيد للإرادة الشعبية في رفض الإحتلال، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصنَّف هذه المقاومة في دائرة جماعة أو طائفة، وإنما نعتبرها ممثلاً حقيقياً للشعب، لأنها تنطلق من فكرة التحرير للأرض، والأرض للجميع، ويجب أن يكون الجميع للأرض، فإذا قصّر البعض في انتمائهم للأرض فعلى الآخرين أن يأخذوا بأيديهم حتى تكون الأرض لنا جميعاً لا لفئة منا.
والملاحظة الثانية هي: إننا نوسّع معنا الإرادة الشعبية لتشمل الحكومة والناس والجيش وكل القوى الفاعلة دون أن نقسّم الوطن الى مجموعات، سواء كانت هذه المجموعات داخلة في تصنيف الموالاة أو المعارضة أو داخلة في تصنيف التمايز الدائم المرغوب بين الشعب والحكومة عادة، فنحن نقول عندما نطلق معنى الإرادة الشعبية: نفتخر أننا وصلنا في لبنان الى إرادة تمسّ كل مواطن، حتى عندما يحمل هذا المواطن لقب معالي الوزير، أو يحمل هذا المواطن لقب القائد الأعلى للجيش، أو يحمل هذا المواطن عنوان الإنسان العادي الذي يسير في الحياة اليومية.
والأمر الثالث: نعتقد أنّ الإرادة الشعبية في أي مجتمع، خاصة في مجتمعنا اللبناني، هي بخير، فإذا مرّت بأزمات ومآزق فالسبب يعود لثلاثة أمور أساسية:
الأمر الأول: القوى والقيادات التي لم تُحسن استثمار هذه الإرادة الشعبية في مكانها المناسب فضلّلتها وأساءت إليها وأدخلتها في نزاعات جانبية، فضيّعت عليها الأولويات.
والأمر الثاني: الثقافة السائدة، التي كانت ثقافة تُبعد لبنان عن مسؤولياته تحت حجة أنّ "قوة لبنان في ضعفه"، فيجب أن يزداد الضعيف ضعفاً حتى يزداد حاجة للآخرين، وحتى يعيش على فتاتهم؛ الى أن تعدّلت هذه الثقافة فتغيّر الواقع على المستوى الميداني.
والأمر الثالث: الضغوطات السياسية الخارجية، التي تتعاطى مع لبنان كأداة تنفيذية لمشاريع الآخرين دون أن تحسب حساباً لإرادة هذا الشعب ومتطلباته، التي يفترض أن تتقاطع مع متطلبات الآخرين لا أن تكون في خدمة الآخرين كيفما كانت النتائج.
بعد هذه الملاحظات الثلاث، التي أفهم من خلالها معنى الإرادة الشعبية، الكل يعلم أنّ ظروف الإجتياح سنة 1982 أثّرت بشكل كبير على الجو في لبنان وفي المنطقة، فساد، إحباط عام، ويأس عام من إمكانية مواجهة "إسرائيل".
وفي هذه الفترة بالذات، بدأنا نعمل بشكل جدّي على تغيير هذا الواقع، واعتُبرت المقاومة بنظر البعض محاولة يائسة، وبنظر البعض الآخر هي رفع عتب من أجل أن يسجَّل الحزب الفلاني بأنه مقاوم في يوم من الأيام، أو أنها عبء ثقيل لا يجوز للبنان أن يتحمله بأي شكل من الأشكال. وبدأت التنظيرات المختلفة التي تؤذي وتضرّ، فلم يكفِ الإحباط العام الذي كان موجوداً في لبنان، بل دخلت على الخط عناوين إضافية تساهم في هذا الإحباط بشكل أو بآخر.
وهنا، إعتبرنا أنّ واجبنا هو الصبر، وأن نزرع زرعة المقاومة، ولا بد أن يعي الناس في يوم من الأيام معنى ما نقوله، خاصة أنّ البداية كانت بسيطة ومحدودة، ولا يمكن بسرعة أن تقلب الموازين الثقافية أو السياسية أو في مفهوم المقاومة. ولذا، كان الأمر يتطلّب منا صبراً وتحملاً؛ وصدّقوا إذا قلت لكم إنّ بعض إخواننا كانوا يُطردون من بيوتهم عندما يقاومون من قِبل أهاليهم، لأنهم يعتبرونهم على خطى مَن كان قبلهم من المقاومة الفلسطينية، التي أثّرت بعض الآثار السيئة في بعض المواقع الى درجة الإعتقاد بأنّ هؤلاء يقاومون من أجل الآخرين ولا يقاومون حقيقة من أجل كرامة الأرض أو كرامة الإنسان.
ومع ذلك، كنا أمام خطتين: خطة يهودية في كيفية التعاطي مع المقاومة، وخطة للمقاومة في كيفية التعاطي مع اليهود ومع الواقع اللبناني القائم.
أما الخطة اليهودية، فكانت تتمحور حول نقاط الفتنة الثلاث:
النقطة الأولى: إيجاد الفاصل بين المقاومة والناس، ليبقى الناس في حالة رفض للمقاومة، وتنعزل هذه المقاومة في دائرة حركة مسلحة يمكن القضاء عليها بالفتنة الشعبية مع المقاومة، فضلاً عن التدخل الخارجي الذي يقضي عليها.
والنقطة الثانية: إيجاد الصراع بين المقاومة والحكم، بحيث تشعر الدولة بأنها مسؤولة، وكيف لا تكون مسؤولة؟ وهي لا تمون على المقاومة.. وكيف تتحرك المقاومة بدون إذن أو ترخيص من الدولة لمقاومة المحتل؟ هل يعقل أن يقبل الحكم بأن تكون المقاومة خارجة عن دائرة القوانين والأنظمة المرعية الإجراء؟ إذاً، لا بد من إيجاد شرخ بين المقاومة والحكم، حتى يتمكن الحكم من اتخاذ إجراءات تريح "إسرائيل" في عملية مواجهة المقاومة.
والنقطة الثالثة: إيجاد الشرخ بين المقاومة والجيش، فالجيش هو القوة المسلحة التي تحمي الأرض ضد الأعداء. إذاً، ماذا تصنع المقاومة في مناطق نفوذ الجيش؟ وكيف يمكن أن تعمل على الأرض وتصبح قوة مسلحة في مواجهة قوة مسلحة أخرى، هذا يضرّ بمعنويات الجيش..؟ فلا بد - إذاً - من أن يأخذ الجيش دوره في حماية الوطن، وأول حماية للوطن أن "ينظف" الوضع الداخلي حتى يتفرغ فيما بعد لقضية التحرير ضد العدو الإسرائيلي.
هذه النقاط الثلاث كانت محور الحركة الإسرائيلية، وكنا نعلم تماماً كيف يفكرون وكيف يخططون من خلال تصريحاتهم، ومن خلال تحليلاتنا، ومن خلال المعطيات التي توفرت لدينا. إذاً، يجب أن تأخذ خطة المقاومة بعين الإعتبار عملاً مخالفاً تماماً، وبطريقة معاكسة لهذه النقاط الثلاث، حتى يُكتب النجاح لنسير باتجاه يختلف تماماً عن الإتجاه الذي يسيرون فيه.
وهنا بدأت خطة المقاومة، سأفصّل خطة المقاومة ببنود عشرة، ربما أكشف من خلالها بعض طرق تفكيرنا للمرة الأولى، لكن لا أرى ضيراً من أن يُفهم هذا المعنى حتى يدرك الجميع أنّ مقاومتنا لا تنطلق من رد فعل عادي وبسيط، بل تنطلق من رؤية كاملة، ولولا هذا لما تدرّجت في النمو، ولما تخطت العقبات الكثيرة التي مرّت بها.
أولاً: المقاومة وخطتها لا ينفصلان عن الرؤية التربوية التي تؤسس لهؤلاء الشباب، والتي تبني هؤلاء الشباب، نحن انطلقنا من قاعدتين قرآنيتين عظيمتين، القاعدة الأولى، يقول تعالى في القرآن الكريم: {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}، ففهمنا من الإعداد، إعداد الإستطاعة لا إعداد التوازن العسكري، وبالتالي، فلو استطعنا من منطلق الإيمان أن نعدّ السكين فقط فواجبنا أن نتحرك بما استطعنا له، والله تعالى لا بد أن ينصرنا، أما كيف فهذه تفاصيل لها علاقة بالإيمان بالغيب ولها علاقة بتدافع الناس فيما بينهم، فلا نتصور أننا في جبهة نضع إمكاناتنا في مقابل إمكانات الآخرين، بل نحن في جبهة تستخدم الإمكانيات التي توفرت لدينا، وقد تتضارب إمكانات كثيرة لتضعف إمكانات العدو، وهذا معنى {وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى}.
والمسألة الثانية في مسألة الإعداد هي قناعتنا بالشهادة، الله تعالى يقول في القرآن الكريم: {قل هل تربّصون بنا إلاّ إحدى الحسنيين ونحن نتربّص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربّصوا إنا معكم متربّصون}... وواضح من الوعد القرآني للمؤمنين أنكم إذا قاتلتم على الإيمان قد تُقتلون وقد تَقتلون، بينما عادة الحكام العرب دائماً يَعِدُون بالنصر، الله (عز وجل) واقعي يَعِدُ بالنصر وبالشهادة، وبالتالي عندما يُقْدم الشاب على العمل، وهو مقتنع أنه قد يُقتل وقد يَقتل، فهو مهيّأ لكل الإحتمالات، فإذا تهيّأ لكل الإحتمالات فاز عليها جميعاً، فإذا عاد سالماً منتصراً إعتبر أنّ غنيمته أكبر بكثير من غنيمة المنتصر لأنه لم يُستشهد وانتصر في آنٍ معاً محققاً ما يريد من أهدافه على هذه الأرض.
هذه التربية لعبت دوراً كبيراً في تنشئة شبابنا، وفي دفعهم الى الخطوط الأمامية، قالوا عنا كثيراً.. قالوا بأننا ندفع المال للشباب، وقالوا بأننا نعطيهم بعض الأدوية، وقالوا إننا نتصرف بطريقة تنوّمهم مغناطيسياً أو تؤثّر على عقلهم، لأنّ ما صنعه هؤلاء الشباب ليس داخلاً في الحسابات المنهجية المادية، ونقرّ ليس الأمر داخلاً في الحسابات المادية المنهجية؛ نحن انطلقنا من الإيمان، لكن مع إمكانات مادية متواضعة، فحققنا ما حققناه.
ثانياً: الأولوية عندنا للمقاومة، فإذا تعارضت مع المكتسبات الداخلية، فنحن حاضرون للتنازل عن المكتسبات الداخلية من أجل المحافظة على المقاومة، وربما سمعتم خطابنا سنة 1996 في الجنوب عندما تحدّث سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله، واعتبر أنّ الخطوات الإنتخابية إنما كانـت محكومة بسقف إستمرارية المقاومة وقوة المقاومة، وكنا نعني ما نقول، وبالتالي هذه الأولوية ساعدت على اتجاه جمع قوّتنا الثقافية والمادية والعسكرية والسياسية لدعم هذا الإتجاه، مما حقق تقدّماً واضحاً في هذا الحقل، لأننا آثرنا أن نترك تقاسم الجبنة حتى لا نغرق فيها، وقد غرق فيها الكثيرون، وغصّ البعض بها، وانتفخ البعض الآخر، لكن وجدنا أنّ أولوية المقاومة هي التي تخلّصنا من الكثير من المشكلات، وهذا دفعنا الى تحقيق هذه المنجزات.
ثالثاً: إنطلقنا من أسلوب أداء يركّز على إيلام العدو، ويحقق راحة للناس، حتى ولو كلّفتنا راحة الناس كثيراً، إذ كنا نتجنّب أن نقصف من بين البيوت، ونتجنّب الإستعراض العسكري، لأنّ هذه الأعمال تحقق صيغة إعلامية سياسية باهرة لكنها في آنٍ معاً تؤدي الى أذية الناس دون إيقاع الخسائر في العدو، فاخترنا الوديان والجبال، واخترنا أن يذهب بعض شبابنا أحياناً لينام بالعراء في الأرض المحتلة أياماً، وفي بعض الحالات أسابيع، لإيلام العدو، لأننا نعتبر أنّ نقطة الوجع في "إسرائيل" هي مسألة الأمن، وليس هناك أية نقطة وجع أخرى، فلا بد أن نركّز عليها لنضرب الرأس المؤلم، وبعد ذلك تتهاوى الأعضاء ونستطيع تحقيق الإنجازات.
رابعاً: مشاركة الناس في آلامهم ومتطلباتهم، وصحيح أنّ على الناس أن يساهموا، لكن وضعهم الصعب يجعلهم غير قادرين على المساهمة بالشكل الكافي، إذاً لا بد من خدمتهم، ولا بد أن نساعدهم في الإعمار، وأن نعطيهم بعض المساعدات الإجتماعية، وأن نفتح بعض المستوصفات، وأن نخدمهم بعلاقاتنا مع الدولة، من خلال النواب والوزراء والمعنيين، من أجل أن نحقق خدمة معيّنة للناس، لأنهم معنيون. وأسّسنا "مؤسسة الشهيد" التي تموّل الآن جميع عوائل الشهداء بدون استثناء، ومؤسسة للجرحى تشرف على معالجتهم وتطبيبهم، و"مؤسسة جهاد البناء" التي تساهم بعملية الإعمار. وللعلم في عدوان 96 هذه المؤسسة رمّمت خمسة آلاف وخمسمئة منزل خلال ثلاثة أشهر، بفريق عمل ضخم جداً، وبكلفة محدودة جداً لا تتجاوز المليوني دولار، على قاعدة أنّ المبذول هو المال والجهد والتضحية، ولم تكن هناك أموال مسروقة، لذا ظهر هذا الجهد بشكل كبير، وبشكل واضح. وللعلم "مؤسسة الشهيد" اليوم، مثلاً، التي تصرف على عوائل ألف شهيد تقريباً، تحصل على مساعدات من أشخاص بعضهم يتبنَّون شهيداً واحداً، والبعض الآخر يتبنّى شهيدين، وآخرون يتبنَّون ثلاثة شهداء، برسوم واشتراكات سنوية أو شهرية، بحيث تؤدي الى تغطية النفقات التعليمية والطبية والسكن، الى أن يصل الإنسان الى مرحلة الإكتفاء أو السن الذي يفترض أن يعتمد فيه على نفسه.
خامساً: فسح المجال أمام التنوع في المواجهة حتى لا يبقى الأمر محصوراً بنا كمقاومة إسلامية. صحيح أننا تقدّمنا على غيرنا، لكن هذا لا يعفينا من مسؤولية أخذ اليد للآخرين حتى نشرك الجميع في الساحة. وبكل صراحة أقول لكم: مددنا اليد الثنائية لجميع القوى الحزبية الموجودة في لبنان، لكن وفّقنا بشكل محدود، ولم نوفّق في مجالات أخرى. ثم أنشأنا "السرايا اللبنانية لمقاومة الإحتلال" كتعبير عن هذا الإطار الجامع الذي يشترط أمراً واحداً في المنتسب، هو أن يكون قابلاً بمقاومة الإحتلال دون هوادة، وأن لا تكون عليه إشكالات أمنية، أما الأمور الأخرى في معتقداته وقناعاته الفكرية أو السياسية فهو حرّ فيها؛ وقد سارت خطوات ونسأل الله تعالى أن تتقدّم أكثر.
سادساً: الخطاب يجب أن يكون خطاباً وطنياً، ولا أخفيكم بعضهم يُشْكل أنه هل يستطيع المسلم الملتزم بدينه أن يخاطب خطاباً وطنياً؟ ونسوا أنّ الرسول (ص) قال: "مَن قُتل دون أرضه فهو شهيد"، فمَن آمن بالوطن آمن بالإسلام، ولا يؤمن بالإسلام ما لم يؤمن بالوطن.
وعليه، أمكننا إيجاد التماهي بين الإسلامية والوطنية، وبالتالي لم تكن المسألة عائقاً. وهذا الخطاب إستطاع أن يكون واقعياً، وهو يعبّر عن قناعاتنا، وامتداد الى الشعب اللبناني.
سابعاً: تجنّبنا تنسيب العرب والمسلمين لمقاومتنا العسكرية، مع كل الطلبات التي كانت تأتينا من كل حدب وصوب، بعضهم يقول: "سأشكيكم يوم القيامة الى الله لأنكم لم تسمحوا لي بالقتال في لبنان ضد ‘‘إسرائيل''"، فنقول له: أُعذرنا لا نريد أن نقع في إشكالية أنّ لبنان أرض الآخرين يقاتلون عليها. والحمد لله عندنا شباب بكثرة، ومَن رغب أن يدعم، فبمعزل عن الإشتراك المباشر في العمل العسكري، نحن نقبل الدعم المالي والسياسي والإعلامي والثقافي، لكن لا نقبل الدعم البشري المباشر، حتى لا نشوّه العنوان الذي تنطلق منه هذه المقاومة.
ثامناً: عدم التورط بخصوصيات النظام والتزاماته، أقصد النظام اللبناني، بحيث واجهنا الفكرة التي طرحها يومها وزير الخارجية، عندما أصرّ عدة مرات على ضرورة إيجاد التناغم بين المقاومة والدولة، فكنا نقول له: أُترك التناغم يحصل ميدانياً وأرِحْ دولتك من التزامات لا تتحمّلها على الأقل.تقدر أن تقول إنّ هؤلاء جماعة خارج إرادتنا وسيطرتنا، وهؤلاء مقاومة، وبالتالي تتوزع الأدوار بشكل طبيعي، فالدولة تستفيد حيث تريد من أعمال المقاومة والمقاومة تلتفت لما يصلح شؤون الدولة فيكون التناغم دون نص ودون كتابة، لكن كلٌ منا يفهم الآخر، حتى لا تصبح التزامات لبنان المباشرة إلتزامات كبيرة لا يتمكن من تحمّلها.
تاسعاً: إعتبرنا سلاح "الكاتيوشا" سلاحاً دفاعياً عن الناس، وأخرجناه من معركتنا العسكرية المباشرة، فلم نعد نستخدمه لإيقاع القتلى والجرحى بالعدو، وإنما استخدمناه كحماية للمدنيين، حتى تبقى لنا سلطة وتبقى لنا قدرة من أجل إيجاد توازن الرعب مع العدو الإسرائيلي، فلا يظهر أنّ قتالنا إنما يعنينا مباشرة، وإنما نحن معنيون بحماية الناس، وهذا يستلزم أن نردّ. وهكذا كان "تفاهم تموز" وبعد ذلك "تفاهم نيسان"، ولم يستطع العدو أن يخرج من دائرة ضغط "الكاتيوشا" التي أُلغيت من التداول العام، فلم نعد نرى "الكاتيوشا" على الجيبات، ولم نعد نراها في الشوارع، بل حتى الإسرائيلي عندما يجول طيرانه بحثاً عن "الكاتيوشا" لا يستطيع رؤيتها إلاّ في اللحظة التي تُرمى بها، يراها في "نهاريا" و"كريات شمونا"، وهذا جزء من تكتيك الإستخدام الذي يُخرج "الكاتيوشا" عن دائرة الإستخدام اليومي، حتى يبقى سلاحاً فاعلاً.
عاشراً: المقاومون هم جزء من الناس، بينهم ومنهم، يأكلون كما يأكلون، ويشربون كما يشربون؛ والأمين العام يُستشهد، وابن الأمين العام يُستشهد؛ وكل القيادات عندنا تعيش حالة طبيعية كما يعيش الناس، من آلام ومرارات وصعوبات وتضحيات، لا توجد فروقات أو تمييز في هذا الأمر.
هذه الخطة المكوّنة من النقاط العشر ساعدت في العمل، بعكس الخطة الإسرائيلية تماماً، فولدت علاقة متينة بين المقاومة والناس، الى درجة أصبح الطفل الصغير اليوم يعتزّ أنه مقاوم، ويتصرف في النظر الى "إسرائيل" بأنها عدو تافه يمكن أن يهجم عليه هذا الطفل ويؤدي دوره ويهزم "إسرائيل"، وهذه قوة معنوية هامة.
وحلّينا الإشكال بين المقاومة والحكم، فكنا نتجاوز الكثير من الأمور لمصلحة المقاومة، مع أننا في فترة من الزمن كنا منزعجين من طريقة الأداء، لكن لم نكن نتوقف عند الجزئيات والتفاصيل لمصلحة تمتين العلاقة، والحمد لله قيض لنا الله تعالى هذا الحكم الجديد برئاسة العماد لحود وبرئاسة الرئيس الحص، وهذا الأداء الذي حصل في العهد الجديد كان يصبّ مباشرة في الإتجاه المعاكس مئة بالمئة للمشروع الإسرائيلي، وأسهم مساهمة فعالة في العلاقة بين المقاومة والحكم، فلم يعد التقدّم من المقاومة باتجاه الحكم، وإنما أقدم الحكم على خطوات سياسية، نأمل أن تترجم بأمور أخرى أيضاً لمصلحة هذه العلاقة، وهذا انعكس على الناس، بل انعكس على الرعب الإسرائيلي والإنزعاج، وكما قال أحدهم قبل أن أدخل الى هذه الجلسة: الحمد لله الذي وصلنا الى زمن أصبحنا نسمع فيه شكوى إسرائيلية من لبنان لا شكوى لبنانية على "إسرائيل".
وأما العلاقة بين المقاومة والجيش، هي في أحسن حالاتها، فـ"أمر اليوم" أمر مقاوم؛ والمقاومة وأفراد المقاومة يحبون أفراد الجيش، ويتعاونون وينسّقون، وكلٌ يعرف قدرة الآخر، فكل واحد يتوقف عند حدود الدور المنوط بالآخر، دون تشريع وتنظير، بل بأداء عملي، فالأمن في الجنوب وفي كل مكان من لبنان هو للجيش اللبناني، والمقاومة ليست معنية بأمن أحد على الإطلاق إنما تقوم بعمل المقاومة، وإذا كانت لها مساهمات أمنية فهي مساهمات وطنية وليست مساهمات ندّية للجيش اللبناني، وهذا أثّر بشكل كبير على هذه العلاقة. هذا فيما يتعلق بالإرادة الشعبية وقوّتها حول المقاومة، وقد تقدّمت خطوات كبيرة، والحمد لله، نجد المجتمع اللبناني اليوم كله متماسك حول المقاومة، بمسلميه ومسيحييه، وبكل أحزابه وقواه، بل أصبحنا نرى اليوم الرافض للمقاومة يختبئ في زاوية لا يتجرأ أن يعبّر عن رأيه، دون ضغط من أحد، لكن يواجه إرادة شعبية تريد المقاومة وتريد التحرير.
× أما فيما يتعلق بالقرارات الدولية، فالقرارات الدولية هي عادة تلبية للمصالح الدولية، وتنفيذها رهن بهذه المصالح أيضاً، فلا يظننّ أحد أنّ قراراً دولياً يصدر ويكون فيه المصلحة للبلد المعني، إلاّ إذا تقاطعت بالصدفة هذه المصلحة لهذا البلد مع هذا التوجه الدولي.
وعليه، عندما انطلق القرار 242 والقرار 338، لاحظنا أنّ الألغام الموجودة في القرارين وُضعت قصداً ليتمكن المشرّع الدولي من أن يتدخل في اللحظة المناسبة ويحوّر في مضمون القرار. وللعلم وللتوضيح، القرار 242 يقول في الفقرة (1-أ): "إنسحاب القوات الإسرائيلية المسلحة من أراضٍ احتُلت في الصراع"، والنقاش بين العرب و"إسرائيل" هل الترجمة صحيحة أم لا، "إسرائيل" تتمسك بترجمة "أراضٍ احتُلت"، والعرب يقولون "الأراضي التي احتُلت"، و"الـ" التعريف فقط في هذا القرار نسفت القرار 242 بالكامل وجعلت البلدان العربية خاضعة للتفسير الدولي وللتفسير الإسرائيلي، وحتى عندما شرعت أميركا بالتعاون مع روسيا - وأميركا هي الأصل في هذا الأمر - بتسوية مدريد كان الطلب العربي هو تفسير القرارين 242 و 338، فلم تقبل أميركا دخول العرب الى مدريد مع تفسير واضح للقرارين، حتى يبقى الأمر معلّقاً، وتبقى المناورة، قائمة؛ فبهذا المعنى القرار 242 ليس ملزماً بشيء، تستطيع "إسرائيل" أن تقول "إنسحبت من كيلومتر واحد من الأراضي المحتلة فحققت مضمون القرار 242"، وبالتالي بماذا يطالب العرب؟ وكل قرار دولي له ألغامه التي تساعد المتحكم باللعبة بأن يدخل منها متى شاء.
أما القرار 425، فكان حاضراً أمام لبنان وأمام "إسرائيل" وأمام أميركا وأمام كل الدول، من سنة 1978 لم يتحرك ساكن من القرار 425، الى أن استفاقت "إسرائيل" بعد عشرين سنة تحت عنوان "الموافقة على تنفيذ القرار 425"، ولولا حشرة "إسرائيل" السياسية والعسكرية لما وافقت على هذا القرار. ونحن نعتبر أنّ الموافقة الإسرائيلية انتصار للمقاومة وانتصار للبنان، لأنّ الرفض لمدة عشرين سنة يأتي بعده قبول، هذا إنجاز بمستوى من المستويات. لكن كيف ينفّذ القرار 425؟ له إضافة واحدة "مع ترتيبات أمنية"، والترتيبات الأمنية تبدأ اليوم ولا تنتهي الى يوم القيامة، ونموذج عرفات واضح أمامنا، كل ما حصل شيء.. يقول بأنّ الأمن الإسرائيلي لم يتحقق بعد. فإذاً، "إسرائيل" تقبل عندما يتحقق الأمن، وهذا الأمن غير مأمول التحقق.
من هنا نقول: إنّ القرار 425 وافقت عليه "إسرائيل" بشرط الترتيبات الأمنية، وهي في الواقع لا تريد تنفيذه، وإنما تستخدمه كإطار سياسي، وأميركا لو أرادت أن تنفّذ هذا القرار وأن ينسحب الإسرائيليون لتدخلت، لكنها احتجّت بأنّ القرار يتحدث عن توافق، والتوافق لا يتدخل على أساسه مجلس الأمن ولا الأمم المتحدة، فالأمر متروك. وإذا قرأنا بدقة كيف تحدّث كل من "رابين" و"نتنياهو"، يعني كيف تحدّث العمل والليكود، عن القرار 425 أو عن الإنسحاب من لبنان، لوجدنا أنهما مشتركان في الخلفية، "رابين" يقول في سنة 1994 أمام الكنيست الإسرائيلي: إننا مستعدون للعودة الى الحدود الدولية بين بلدينا ضمن ثلاثة شروط: سلام، وتطبيع، والتوصل الى ترتيبات أمنية ودمج جيش لبنان الجنوبي في الجيش اللبناني. وأضاف: في حال أثبت الجيش اللبناني قدرته خلال ستة أشهر على الإبقاء على هدوء كامل، وحلّ حزب الله في جنوب لبنان، فإننا سنبدأ مفاوضات مع لبنان تستمر ثلاثة أشهر. يعني: قدّم يا لبنان كل ما عندك، وأبطل قوّتك بالكامل، وليكن لبنان مسحوقاً في مواجهة "إسرائيل" وبعد ذلك تبدأ المفاوضات، ولا تبدأ فوراً إنما تبدأ وبعد ثلاثة أشهر يمكن أن يتوصلوا الى النتيجة، ولن تنتهي إلاّ بانتهائنا، وهذا "رابين" المعتدل!
أما "نتنياهو" فيقول خلال اجتماع مجلس الوزراء المصغر عام 1998: إنّ "إسرائيل" مستعدة لقبول القرار 425 شرط التوصل الى اتفاق مع لبنان يضمن تدابير أمنية تطالب بها "إسرائيل". وعندما نقول تدابير أمنية تطالب بها "إسرائيل" يعني الله وحده يعلم ما هي هذه التدابير الأمنية التي تريح "إسرائيل" وتنعشها، يعني موضوع قابل للإمتداد الى كل الأفق الإسرائيلي.
ثم يقول "نتنياهو" في تصريح آخر كتوضيح للقرار: إنّ "إسرائيل" ستنسحب من لبنان إذا طبّقت الترتيبات الأمنية المطلوبة، وأهمها: تفكيك قدرات منظمة حزب الله، فيكون السلام حقيقياً يوفر الأمن لسكان "شمال إسرائيل"، ويضمن عدم تعرّضها لاعتداءات إرهابية.
هذا التفسير، أما الفهم الحقيقي لما يقال عنه بعنوان "السلام" نستطيع أن نقرأه من كلام "رابين" الذي تحدّث عام 1994 عن انسحابه من الجولان قال: إنّ مدى انسحابنا من الجولان يتعلق بما سنحصل عليه بالمقابل فيما يتعلق بالسلام.
كل الطروحات الإسرائيلية فيما يتعلق بالقرارات الدولية، وما يتعلق بالأداء في منطقتنا، هي طروحات غائمة وغامضة وعمومية، وتحمل ألف تفسير وتفسير، يمكن "إسرائيل" من أن تصنع ما تريد، وأميركا تؤازر إسرائيل في هذا الفهم، وتلعب وتناور على العرب، وتحاول أن تفرش لهم فراشاً يطمئنون إليه، تحت عنوان أنّ هذه الكلمة جميلة، وهذه الكلمة جيدة.
من هنا، كنا نركّز دائماً أنّ المقاومة هي الحل، لأنّ "إسرائيل" لا يمكن أن نقهرها بلغة القرارات السياسية الدولية، فهي المسلّطة عليها، والدول الكبرى تدعمها، لأنّ أصل إنشاء "إسرائيل" هو قرار دولي جائر بحق الشعب الفلسطيني وكل شعوب المنطقة، فكيف نتأمل في الدوائر الأخرى. لذا نقول بأنّ المقاومة هي الحل، ونقطة الوجع الإسرائيلي هي نقطة الأمن، وبالتالي يجب أن نضرب هذا الأمن، لو وقف كل الناس في لبنان وفي العالم العربي لينظّموا مؤتمرات شتائم لإسرائيل ومواقف سياسية حارة ضد "إسرائيل" واجتماعات ومنظمات وكتب ومؤلفات، لساهمت "إسرائيل" بحساباتها المادية، حتى تروّج لهذه النفقات المدفوعة، لكنّ أمراً واحداً يقلقها هو المقاومة المسلحة.
لذا، نؤكد على ضرورة دعم المقاومة المسلحة واعتبارها هي الخيار، وكل المقاومات الأخرى، الثقافية والإعلامية والسياسية والمالية وما شابه.. هي أعمال رديفة ومساعدة للمقاومة المسلحة، رأس الحربة هذه يجب أن تبقى، و"إسرائيل" لا تفهم إلاّ بلغة القوة، ولا يمكن أن نحرّر أرضنا اعتماداً على الآخرين، يجب أن نعتمد على أنفسنا:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد للّيـل أن ينجلـي ولا بد للقيد أن ينكسـر
ولكن الأمر يتطلب جرأة من قِبلنا، لا تخشَوا.. ففي السياسة مداخل كثيرة، ولا تخشَوا.. ففي الإمكانات مداخل كثيرة، ونستطيع أن نمرّ بين نقاط السياسة الصعبة للوصول الى أهدافنا دون أن نتعثر، ونحقق الإنجازات الكبرى في عدم إعطاء "إسرائيل" شرعية وجودها، وفي عدم تحقيق استمرارها في جنوبنا وفي أي بقعة محتلة.
إننا نؤكد على أهمية التماسك بين الحكم والشعب والمقاومة والجيش. ونوجّه تحية لحكومة الحص على المواقف الشجاعة، وهذه الدولة المباركة بقيادة الرئيس لحود. كما نؤكد على ضرورة تثبيت وتثمير العلاقة بين لبنان وسوريا، لا على قاعدة أنّ سوريا تستفيد من لبنان، وإنما على قاعدة أنّ لبنان أيضاً يستفيد من سوريا، فالعلاقة بين البلدين علاقة تكاملية في الإستفادة، وليس صحيحاً أن نفكر بأنّ جهة تستطيع أن تأخذ أكثر من الجهة الأخرى، إذا أحسنّا صياغة هذه العلاقة واستمرّينا بها، وتابعنا كما نحن الآن. ونؤكد بأنّ هذه الإرادة هي التي تنتصر في النهاية، وعندما حُشِرَت "إسرائيل" داخلياً بعد عملية "أنصارية" لم تعد تتحمل البقاء في لبنان، وعبّرت عن رغبتها في الإنسحاب، على الرغم من عدم الجدية، لكنها انتصارات ترَونها في كل يوم، وبالأمس صعد المقاوم يلوّح بالعلم وكأنه يتمشى في الشوارع الخارجية لبيروت وكأنه لا يرى لا طيراناً ولا "إسرائيل" ولا وجوداً لأحد، إذا دلّ هذا الأمر على شيء فإنما يدلّ على الثقة الكبيرة بالله وبالنفس. فلنكن واثقين أنّ إرادتنا تغيّر وتُخرج "إسرائيل" بالقوة من لبنان دون قيد أو شرط؛ ولا تخيف كل القرارات الدولية، لأنّ إرادة الشعوب أقوى من القرارات الدولية ومن الإرادة الدولية.
علينا أن نثق بأنفسنا، هذا ما نؤمن به، وأن لا نعطي للآخرين أي شيء تحت أية ذريعة. نحن ضد أن يعطي أحد أي التزام إعلامي أو سياسي للإسرائيلي، حتى ولو كان من باب المناورة لأننا يجب أن نحتفظ بكل شيء. من هنا، عندما نُسأل دائماً: ماذا ستفعلون إذا انسحبت "إسرائيل" من جنوب لبنان؟ ونحن نجيب دائماً: عندما تنسحب نقول لكم ماذا سنفعل. لأننا إذا قلنا اليوم بأننا سنستمر في القتال فسيبدأ النقاش الإسرائيلي من الإستمرار، وإذا قلنا سنتوقف عن القتال سيقولون هذه الخطوة الأولى أخذنا جواباً عليها، فما هي الأجوبة على الخطوات الأخرى. لسنا مضطرين للدخول في هذا الجدل، هناك ألم إسرائيلي يجب أن نركّز عليه، حتى نبتر هذا الوجود الإسرائيلي في بلدنا، وبعدها عندما يحصل الإنسحاب نرى وترَون ونعلم وتعلمون، والله تعالى هو الموفق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
--------------------------------------------------------------------------------
(*) محاضرة نائب الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم، أُلقيت في "ندوة العمل الوطني".