مقالات

نشأة العلمانية

العلمانية مصطلح ذو نشأة غربية ، تولد نتيجة صراع مع الكنيسة ، وأصبح معتمداً للحديث عن منظومة قيم ونظام حكم يسود في مجتمع من المجتمعات دون أن يكون للدين أو رجال الدين علاقة بتوجيه هذا المجتمع أو إدارته .

20/6/2001
العلمانية مصطلح ذو نشأة غربية ، تولد نتيجة صراع مع الكنيسة ، وأصبح معتمداً للحديث عن منظومة قيم ونظام حكم يسود في مجتمع من المجتمعات دون أن يكون للدين أو رجال الدين علاقة بتوجيه هذا المجتمع أو إدارته .
كانت الدول الغربية لقرون عدة وحتى نهاية القرن الثامن عشر محكومة بسلطة رجال الأكليروس ( رجال الدين في الكنيسة )، وكانت إدارة الدولة والتعليم والمنظومة الاجتماعية والأعراف محكومة بالسلطة الإلهية لهؤلاء الرجال ويعطونه طابع القداسة، ومخالفته هو مخالفة الله جلّ وعلا .‏

وعندما برزت بعض التطورات العلمية والنظريات المرتبطة بحركة الأرض ، وأن قوس قزح ليس قوساً حربياً بيد الله بل هو انعكاس ضوء الشمس في نقطة الماء ، وأن النجوم لا تقع ، وأن الدم يجري في جسم الإنسان ..... أحرق وقتل هؤلاء العلماء تحت عنوان التدخل في القدرة الإلهية ومخالفة التعاليم الكنسية التي لها تقديسها لبعض ما هو شائع في الذهن في المجتمع .‏

وقد بدأ التمرد على سلطة الكنيسة، وصدرت دعوات للحداثة والتنوير ورفض التقليدية والإقطاع الديني تبلورت هذه الدعوات بضرورة إبعاد الدين عن الحياة وحصره في الكنيسة كما هي تعاليم الكنيسة حيث تقول :" ما لله لله وما لقيصر لقيصر " وحيث أساء من تصدى باسم الدين الى الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية ... ، إضافة الى ضرورة إيكال الأمر الى سلطة الرجال الزمنيين ( في مقابل الدينيين ) فهم أدرى بشؤون الحياة ويملكون الاختصاصات التي يتمكنون معها من التشريع ووضع الخطط المناسبة لإدارة البلاد والحياة .‏

تعريفها :‏

إذاً كلمة العلمانية يعود أصلها الى اللاتينية، وهي مأخوذة من كلمة SECULARISM وتعني الدنيا أو الدنيوية واللادينية . وكما يقول الشيخ عبد الله العلايلي في مقدمة لدرس لغة العرب :" العلمانية كلمة وضعت بادئ ذي بدء في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي في مقابل كلمة : LAISME بالفرنسية أو SECULARISM بالإنكليزية وشاعت بين الناس بكسر العين ( العلمانية ) وهو خطأ فاحش ، إذ لا علاقة للأصل اللاتيني بالعلم من قرب أو من بعد وإنما صحتها بفتح العين ( العلمانية ) نسبة الى المعلم بمعنى العالم الدنيوي."‏

فمن حاول اعتبار العلمانية هي التوافق مع العلم والمعارض لها معارض للعلم والنظريات العلمية أخطأ التفسير أو أراد إصابة هدفه في رمي تهمة ضد معارض العلمانية بأنه معارض للعلم . والحقيقة أنها اللادينية في كل شؤون الحياة في مقابل الدين سواء قصد بذلك رجال الدين وحكمهم أو نفس الأفكار الدينية ولو لم يحكم بها رجال الدين .‏

طبق الغرب وكذلك الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية مفهوم العلمانية بإقصاء الدين ورجال الدين عن إدارة شؤون الدولة والمجتمع بشكل عام . ففي الغرب اعتبروا أن حرية الدين شخصية داخلة ضمن حرية المعتقد، لكن يجب أن تبقى بعيداً عن إدارة شؤون المجتمع أو الدولة والواقع السياسي . أما في المنظومة الاشتراكية فاعتبروا الإقصاء شاملاً للحياة الشخصية أيضاً وممنوع على المستوى الفردي بل وعليه عقوبة وهكذا اتجه الأداء الى الإلحاد .‏

وهنا يبرز سؤال هام : هل العلمانية مجموعة أفكار محددة ؟ وجوابه واضح من خلال التجربة العملية في كل من الدول الرأسمالية والدول الاشتراكية ، إذ يطلق عليها جميعاً بأنها علمانية لكنها لا تتشابه في كيفية التعاطي التفصيلي بل وتتفاوت بين الرأسمالية والاشتراكية ، وتتفاوت التفاصيل الجزئية بين نفس الأنظمة الرأسمالية، بين فرنسا وأمريكا وألمانيا وغيرها . مما يؤكد أن العلمانية هي تعبير عن : رؤية بشرية لإدارة شؤون الحياة كافة بعيداً عن تأثير ودور الدين أو رجال الدين ، وينتج عنها منظومة من التشريعات القانونية والتربوية والثقافية والاجتماعية وغيرها، تستند الى الفكر الإنساني المادي وتبتعد عن تأثير الماورائيات ، دون أن تكون محددة المعالم بالتفصيل ودون أن تكون متشابهة بين البلدان، لكن تحكمها ضوابط اللادين .‏

نظرة الإسلام إليها :‏

تأثر بها بعض المثقفين ممن انبهر بالغرب أو ارتبط بالشرق الاشتراكي ، وساهم في ذلك بداية انهيار الدولة العثمانية مع بداية القرن العشرين ومع الحرب العالمية الأولى ،والإساءة التي حصلت في تطبيق الإسلام في مراحل زمنية معينة ، مما جعل الطرح العلماني أي اللاديني يأخذ حيزاً في دعوة هؤلاء تحت عنوان التطور الاجتماعي الطبيعي ، ونقلوا النصوص والتهم والحكم على الأحداث بطريقة ببغائية ، فقالوا :" الدين أفيون الشعوب " وهي مقولة لها أسبابها المباشرة ومكانها المناسب ، ولا تنطبق على كل ما يجري عندنا في العالم الإسلامي . فالإسلام دين ودولة، أي نظام كامل للحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع، وليس هناك تدخل في أمر لا يعنيه بل أساس الإيمان مبني على هذا الالتزام الكامل " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" ، ولم يكن العلماء ( رجال الدين في المصطلح الكنسي ) هم الحكام المباشرون لأن المطلوب هو حكم الإسلام . ولم تعش بلدان العالم الإسلامي أزمات ضد العلم والعلماء وغيرها من المسائل التي برزت في الغرب . ولكن الانهيار الذي حصل في الدول الإسلامية والتفكيك الذي طالها والتقدم العلمي الذي وصل إليه الغرب ، إضافة الى استعماره لمناطق العالم الثالث ، كلها عوامل جعلتها تعيش حالة الانسحاق والضياع والتقليد وإطلاق الشعارات بتقليد أعمى لواقع مغاير .‏

ولقد لاحظنا بعض المحاولات للتمييز بين أنماط العلمانية باعتبارها تنقسم الى قسمين :‏

علمانية ملحدة وهي التي تنسجم مع المنظومة الاشتراكية ، وعلمانية مؤمنة وهي التي لا تعترض على بعض أشكال الاعتبار للدين في الطقوس الخاصة داخل مراكز العبادة أو في جزء من الاعتبار للأحوال الشخصية . وبما أن هذا التقسيم يوحي بالالتباس إذ أن إضافة كلمة مؤمنة يعطيها نوعاً من الشرعية لألفة لفظة مؤمنة مع المضمون الديني الراضي بالأداء لذا لا أميل الى استخدامها أبداً بل أفضل الحديث عن علمانية فيها تفاوت قليل عن الملحدة بترك حرية المعتقد أو ما شاكل بحسب المساحة التي تعطيها لأنها تختلف من دولة الى أخرى . ففرنسا تترك للكنيسة حرية المعتقد لكن لا دخل لها في أي شأن حتى في الأحوال الشخصية فالزواج مدني وإذا ذهب الكاثوليكي الى الكنيسة فهذا لاعتبار إيماني فردي في علاقته مع دينه وربه حسب معتقده، لكن لا قيمة لهذا المعتقد في الاعتبار المدني وفي القوانين المرعية الإجراء .‏

الواقع اللبناني :‏

أما في لبنان فنظام الحكم علماني بالمفهوم العام مع تمايز في مساحة محددة في الأحوال الشخصية التي تتضمن الزواج والطلاق والإرث وما يرتبط بها ، حيث يحق لكل طائفة بأحوال شخصية لها ومحاكم دينية مختصة للفصل في هذه القضايا .‏

وبما أن المسلمين كانوا يعيشون حالة الغبن من طريقة توزيع السلطات والصلاحيات ويعتبرون أن الامتيازات المارونية بالتحديد لا تتناسب مع مواطنة موحدة فقد طالبوا مراراً بإلغاء الطائفية السياسية وإلغاء طائفية الوظيفية ، وهم يقصدون بالأولى حق أي مواطن لبناني في أن يكون في أي موقع سياسي مهما بلغ، فلا توزيع للرئاسات الثلاث بين الطوائف ، وأما الثانية فيعني حق كل مواطن أن يستلم أي إدارة ضمن معيار الكفاءة لا معيار الحصة الخاصة بطائفة دون أخرى لهذه الوظيفة أو تلك .‏

ومن هنا اعتبر المسيحيون وعلى رأسهم الموارنة بشكل أساس أن هذا مطلب يعني ضياع الأقلية المسيحية في محيط إسلامي في المنطقة، وفي تكاثر عددي إسلامي داخل لبنان ينذر بأكثرية إسلامية تستفيد من عددها ومحيطها لتذويب خصوصيات الأقلية في مجتمعها ومحيطها ، فمع ضرورة المحافظة على الارتباط بالقواعد الدينية لا بدّ من رفض أي حل سياسي يؤدي الى هذه النتيجة السلبية . لكن كي يكون الرد إيجابيا قالوا : فليكن إلغاء الطائفية بالكامل أي عدم حصرها بالسياسة والوظيفية لتشمل الأحوال الشخصية وبمعنى آخر فليكن نظام الحكم علمانياً ويصبح نظام الأحوال الشخصية نظاماً مدنياً غير خاضع لضوابط الطائفة الشرعي.‏

من الطبيعي أن يرفض المسلمون العلمانية الكاملة لأن الأحوال الشخصية عندهم دين يدينون به وهو جزء من التكاليف الشرعية التي يسأل عنها الإنسان يوم القيامة بينما يكتفي المسيحيون كما في الغرب بعقد الزواج الكنسي أما التفاصيل الأحوالية الأخرى فهي قرارات كنسية تأخذ شرعيتها من الكنيسة نفسها .‏

في الخلاصة : العلمانية هي في الاتجاه المعاكس للدين الإسلامي ، وهي وإن نشأت معاكسة لسلطة الكنيسة لكن عودة الكنيسة الى مهامها وإدارة نظام الحكم والشؤون المجتمعة العامة بواسطة تشريعات وقوانين بشرية أمر طبيعي منسجم مع كون الرسالة المسيحية روحية لا تتعاطى بشؤون الحكم وإدارة شؤون الناس العامة ، أما مع الإسلام الذي شرع لكل الحياة ، للدولة وأنظمتها ، للفرد والمجتمع ، للسياسة والاقتصاد والاجتماع فهي متعارضة تماماً إذا أنها مشروع اللادين مقابل الدين والواجب .‏

نعيم قاسم 28 ربيع الأول 1422 ه‏