كثيراً ما يجري الحديث المعاصر عن المجتمع المدني أو المجتمع المُدني، على قاعدة أن تطور الحياة يستلزم رسم شبكة من العلاقات بين مختلف شرائح الناس بتعقيدات تتجاوز مجرد العلاقة العادية والعابرة لتصل إلى حدود تنسيق الأمور سواء كانت فردية أو اجتماعية في تنسيق المصالح المختلفة، وفي كيفية التعاطي بين الناس على أساس شبكة من التعقيدات المتداخلة في المدن، والسؤال المطروح : هل أن الإسلام ينظر إلى المجتمع المدني ويضع خطته لمواكبة تفاصيل هذا المجتمع، ويأخذ بعين الاعتبار التطور المدني الذي يستلزم هذا التعقيد، أم أن الإسلام يتحدث فقط عن نصائح وتوجيهات لا علاقة لها بتنظيم شؤون الحياة؟
في الواقع توجد إجابة عامة نقولها دائماً، بأن الإسلام دين ودولة، وهذه العبارة تختصر نظرة الإسلام إلى أنه ينظم شؤون الإنسان مع خالقه ومع نفسه، كما ينظم شؤون الإنسان عندما يكون في داخل دولة، وبالتالي كل التشريعات التي تستلزمها الدولة سواء تمثلت بالقوانين أو بأحكام القضاء، أو بالعقوبات، أو بأنظمة السير والعلاقات الإدارية، أو بتنسيق العقود التجارية وما شابه، كلها يتدخل فيها الإسلام وله وجهة نظر تفصيلية فيها،حتى أننا عندما نعود إلى الرسائل العملية لمراجعنا العظام، سواء المتوفين منهم (أعلى الله تعالى مقامهم) أو الحاضرين منهم (حفظهم الله تعالى ورعاهم)، سنجد أنهم يقسمون الرسالة العملية للمكلف إلى قسمين: قسم اسمه العبادات، وقسم اسمه المعاملات.
في قسم المعاملات حديث تفصيلي عن العقود والمعاملات التي تنشأ بين الناس، وهناك تفاصيل كثيرة وجزئية تصلح أن تكون قانوناً شاملاً في تنسيق العلاقة بين الناس سواء كانت العقود تجارية أو تتعلق بالزواج، أو كان الأمر يرتبط بالإرث، أو ما شابه ذلك من تنظيم الحقوق بين الناس حتى يصل الأمر إلى حق الشفعة وتنسيق وتنظيم وتوزيع الأراضي وما شابه من التشريعات المختلفة في نظام المعاملات، وبطبيعة الحال عندما نتحدث عن دولة يعني أن تنسق هذه الأمور بما ينسجم مع سهولة تداولها بين الناس حتى تكون هي الحاكم وهي المؤثر.
إذاً بإجابة مقتضبة الإسلام ينظر إلى المجتمع المدني وإلى تنسيق حياة الناس في المدن، وفي شبكة التعقيدات التي ترتبط بالدولة بتفاصيل كثيرة تنسجم مع حالات الناس ومع رؤيتهم.
وسأحاول أن آخذ عينات من نظرة الإسلام لعلاقة الناس فيما بينهم، وببعض التشريعات التي ذكرها الإسلام حتى نرى مفردات كيف تطبِّق هذه النظرة في المجتمع المدني، أي أن الإسلام لا يعطي آراء تتعلق بحياة الفرد فقط، والإسلام لا ينصح الإنسان في علاقة تدين بينه وبين ربه فقط، إنما يدخل إلى كل نسيج الحياة التفصيلية.
النموذج الأول له علاقة بنظرة الإسلام إلى الإنسان لأنكم تعلمون، في المدينة وفي الدولة المتشعبة الآفاق فيها أناس مختلفون، منهم المسلم ومنهم المسيحي واليهودي والعادي، فهذا تنوع وقناعات وآراء موجودة بين الناس ، كيف تكون النظرة إلى الإنسان أولاً، هل يا ترى يرى الإسلام أنه في مرتبة من حمله يتميز عن الآخرين في المعاملة داخل الدولة على قاعدة أن المسلم هو من شعب الله المختار كما هو عند اليهود، أم أن الأمر لا يتوقف ولا يستند إلى هذه الرؤية والنظرة التي تميز تمييزاً صارخاً للحقوق والواجبات الإجمالية التي تكون في داخل المجتمع.
الله تعالى يقول:{ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً} أي أن الإنسان مكرم ومفضل، وله مكانة مميزة بالمقارنة مع المخلوقات الأخرى، سواء كانت المخلوقات الأخرى من الجن، أو كانت من الحيوانات المختلفة أو ما شابه مما خلق الله تعالى في هذا الكون، فالإنسان إذاً بذاته مفضل، ولذا قال تعالى أيضاً عن مقام الإنسان وشكله والمؤهلات التي أودعها عنده{لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} فحتى في الشكل والمضمون والفطرة التي فطر الله الإنسان عليها خلقه في أحسن تقويم، يعني وضع له مقومات كونه سيكون مؤهلاً لموقع ودور وعمل وجهد في هذه الحياة الدنيا. إذاً الإنسان مكرم بذاته وله مقام محترم كإنسان، والله تعالى فضله على باقي المخلوقات، واعتبر أن هذا الإنسان يجب أن يبقى محافظاً على كرامته ودوره وموقعه، ولذا قال إمامنا علي(ع) :" أيها الناس إن آدم لم يلد عبداً ولا أمة وإن الناس كلهم أحرار"، فالله تعالى لم يخلق عبداً ولا أمة واعتبر أن هؤلاء درجة ثانية، ثم خلق أشخاصاً آخرين واعتبرهم درجة أولى، كلا فكل الناس أحرار لأن الله تعالى خلقهم أحراراً، وبالتالي فهم متساوون في الإنسانية، أي أنهم على موقعية واحدة في النظرة الإجمالية والعامة للإنسان، ولا تمايز ابتدائي لمجرد طبيعة الخلق، أو الانتساب أو أن هذا الإنسان من هذه القرية فهو أفضل من إنسان في القرية الأخرى، فإمامنا علي(ع) واضح:" أيها الناس إن آدم لم يلد عبداً ولا أمة وإن الناس كلهم أحرار"، وبالتالي عندما يتحدث عن كل الناس فهو يتحدث عن نوع من المساواة والنظرة الإيجابية لكل فرد من أفراد المجتمع دون أن يقف بطريقة تمييزية من اللحظة الأولى، إذاً عندما نطل على الإسلام من هذا الباب إلى حالة المجتمع، نلاحظ أن الإسلام يعطي نظرة إجمالية إيجابية للناس بأنهم متساوون بالإجمال، وبالتالي ستكون المعاملة معهم معاملة تأخذ بعين الاعتبار إنسانيتهم، ولا تأخذ بعين الاعتبار التمايز بأي نوع من أنواع التمايز عندما يكونون في حكم واحد وفي موقع واحد، ويوضح هذه الصورة أمير المؤمنين علي(ع) بطريقة تفصيلية عندما يرسل مالك الأشتر إلى مصر، ويكلفه أن يكون ولياً وحاكماً على مصر، يعطيه مجموعة من النصائح والتوجيهات كيف يتعامل مع الناس هناك، ماذا يقول لهم، يقول:" ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم" فهم رعية والرعية تريد الحنان والرحمة، ويجب أن تعرف كيفية التعاطي معهم، ولا تتعامل معهم كسبع ينقض على فريسته ،فالناس ليسوا خدماً بالنسبة لك، الناس لهم كرامة ودور وموقعية، فلا تتعامل معهم على أنك أنت من فوق وهم من تحت، فالحاكم يجب أن يسعى كي يكون مساوياً عادلاً بين الرعية، وبالتالي لا تتعامل معهم كسبع وكسلطة قاسية تريد أن تقهر هؤلاء الناس، " فإنهم صنفان" فلماذا لا تكون مسيطراً عليهم بهذه الطريقة وتحاول أن تقضي على مقدراتهم وإمكاناتهم، لأنهم صنفان" إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق" فإذا كان لك أخ في الدين، فأنت مسلم وذاك الإنسان الآخر مسلم، وبالتالي للمسلم على المسلم حقوق وهذه الحقوق يجب أن تحفظها، لا تقدر أنت أن تتعامل مع المسلم الآخر تعامل لا يقف عند ضوابط وحدود معينة، الرسول(ص) يقول:"المسلم للمسلم حرام، دمه وماله وعرضه" فهناك ضوابط في علاقة المسلم مع المسلم فأمواله حرام عليك فلا تقدر أن تسيطر على أمواله بعنوان أنا حر وأقدر أن أقوم بما أريد، ولا تقدر أن تسرقه وتغفل حقه.. إلى آخره من القواعد المختلفة في ملكية هذا الإنسان، فإذاً ملكيته محترمة، ودمه حرام، ولا تقدر أن تأخذ قراراً بأن فلاناً لا يعجبك فتقتله وتتخلص منه، وجرحه وخدشه والأمر البسيط الذي يمكن أن يسقط من دمه حرام، فهناك طرق لمعالجة الاختلاف محكمة ودلائل شرعية لمعالجة الاختلاف، وإلا إذا قتلت ظلماً وعدواناً تتعرض لأن تقتل بالقصاص من الحاكم على قاعدة اعتديت على روح لا يجوز أن تعتدي عليها. وعرضه حرام، فأنت لا تقدر أن تنظر إلى النساء بدون الضوابط الشرعية،فهناك نساء صالحات إذا كنَّ محصنات فلا يجوز لك أي شيء معهن، وإذا كنَّ عازبات فثمة طريقة للتعاطي لها علاقة بالزواج والعقد الشرعي وفق الأصول المعروفة، فلذلك عندما يقول الرسول(ص):" المسلم للمسلم حرام ماله ودمه وعرضه" فهناك حدود وضوابط للعلاقة يجب أن يحافظ عليها الإنسان. إذاً نلاحظ أنه بمجرد أن يكون هذا أخاً لك في الدين يعني أن هناك محرمات معينة نشأت من اخوتك يجب أن تحافظ عليها، وهناك ضوابط وقوانين ممنوع عليك أن تتجاوزها. ولكن قد يقول أحدهم: أنتم عندما تهجمون على الإسرائيليين تقتلون الجندي الإسرائيلي بلا رحمة، لا، نحن عندما نواجه هذا العدو الغاشم إنما نواجهه لأنه متعد ولأن عدوانه لا يرد إلا بهذه الطريقة، أما إذا كان عدواً وافترضنا أنه كان مواطناً عادياً موجوداً بيننا فليس لنا معه شيء، فالموضوع أصبح مختلفاً وكل المشروع أصبح مختلفاً، فالذي تعاطينا معه كعميل مثلاً وقلنا أنه يجب أن يعاقب ويقاصص لماذا؟ لأنه انحرف بتصرفاته ويستحق قصاصاً{ولكم في القصاص حياة أولي الألباب} ليس معقولاً أن يمرر الإنسان حياته بالتغاضي عن الخطأ والعدوان والظلم والاعتداء وأنهم لا مشكلة فيهم فالحياة لا تكتمل عند الإنسان، نحن نتكلم أن المسلم للمسلم حرام دمه وماله وعرضه على قاعدة أن تكون كل الأمور عادية وطبيعية، أما عندما يحصل الاستثناء له حلٌ وعلاج وفق الضوابط الإسلامية، فأمير المؤمنين علي (ع) يقول لمالك: " إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق" هذا تعميم أي أنه يشبهك في الخلق،هذا الإنسان ليس مسلماً ولكنه إنسان، وبالتالي عندما يكون إنساناً يجب ان تتعاطى معه بإنسانية ووفق تعامل الإنسان مع الإنسان، لاحظ كيف وضع الاثنين قرب بعضهما البعض، فيقول له يجب أن تتعامل مع الاثنين كرعية الأخ في الدين من الرعية، والنظير في الخلق من الرعية، وبالتالي هذه الرعية لها حقوق عليك كما عليها واجبات تجاه الدولة، يجب أن تلتزم بأداء حقوقها كرعية كائن من كان هذا الإنسان من الرعية وفق الضوابط المعروفة في الشرع الإسلامي، في المقابل يجب عليهم أن يقوموا بالواجبات المطلوبة، فالخلل يعالج بطريقة مذكورة في مكان آخر.
إذاً نلاحظ أن الإسلام إنما تعاطى مع المجتمع بكليته تعاطياً يؤدي إلى حفظ حقوق جميع البشر الموجودين في دائرته، وحفظ الإنسانية التي تقر لهؤلاء على قاعدة أنهم من خلق واحد وأنهم أحرار ويعيشون تحت سقف واحد، وبالتالي لا إمكانية للإنسان أن يتصرف باحتقار لحياة الإنسان الآخر، ولا يمكن أن يتجاوز حدوده في العلاقة مع الإنسان الآخر، ولا يمكن أن يعتبر نفسه في موقع متقدم وأن الباقين لا قيمة لهم لأن عليه أن يعيش وأن الآخرين ليس لهم حق في الحياة.
أمير المؤمنين علي(ع) يتحدث في هذا المجال أيضاً فيقول:" جعل الله سبحانه حقوق عباده مقدمة على حقوقه" لاحظوا الروعة، فهناك حق بينك وبين الله، فالله له حق عليك لأنه هو الذي خلقك، والحق أن تعبده بما أمرك فالخالق منعم والمنعم من حقه أن يطلب ممن أنعم عليه أن يرد شيئاً، وطبعاً الله تعالى لا يريدنا أن نرد له أي شيء، بل لمصلحتنا يأمرنا بالأوامر المعروفة، فإذاً هناك حق لله تعالى وهناك حقوق للناس، ففلان له حق معك (مالي أو أخوي أو من ناحية المعاملة) فالولد له حق على أبيه، والأب له حق على ولده، والزوج له حق على زوجته والزوجة لها حق على زوجها الخ.. فهذا المجتمع كله عبارة عن شبكة حقوق وواجبات، اسمعوا ماذا يقول أمير المؤمنين علي(ع):" جعل الله سبحانه حقوق عباده مقدمة على حقوقه" فحقوق العباد تؤدونها قبل حقوق الله عزَّ وجل، عجيب..! فالفكرة السائدة اليوم في المجتمع وأكثر الناس تفكر أنهم يعملون مع الله تعالى عملاً صالحاً ولكن مع الناس لا مشكلة على أساس أن واسطتنا أصبحت قوية ومع الله تعالى العلاقة جيدة فمهما قمنا بأعمال غير جيدة مع الناس لا مشكلة، لذلك الفرد منا بماذا يفكر أكثر؟ يفكر أنه صلى وصام وحج لله تعالى، وبعدها هذا الجار لم يعجبه.. أساء إليه، هذا الأخ لم ينسجم معه.. استغابه، شخص له عليه حقوق مالية لا يريد أن يرجعها إليه ويتقوى عليه، ويقول طالما أن الفرد مرتب العلاقة مع الله تعالى فالمعاملة مع الناس لا مشكلة فيها، لكن أمير المؤمنين علياً(ع) يقول:" الله جعل حقوق عباده مقدمة على حقوقه" فأولاً عليك أن تلتفت إلى العباد وبعدها تلتفت إلى الله تعالى، " فمن قام بحقوق عباد الله كان ذلك مؤدياً إلى القيام بحقوق الله تعالى" فإذا لم تقم بحقوق العباد لا تكون قد قمت بحق الله عز وجل، لماذا؟ لأن الله تعالى لم يضع لنا هذا التشريع لنركع ونسجد وننزوي في مغارة ونسبح بحمد الله تعالى ثم نخرب في المجتمع، فهو وضع هذا التشريع لننزل إلى المجتمع حتى إذا تعبدنا الله تعالى يؤثر هذا في نفسيتنا وعقليتنا وطريقة تصرفاتنا، وننطلق إلى المجتمع لنتصرف بأخلاقية وإيجابية ترفع من مستوى المجتمع وتثبت سعادة بشرية في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، فكل التشريع هو من أجل المجتمع، لذا ورد في الحديث:" الدين معاملة" فالمعاملة هي الدين، وليس الدين أن نسأل بعضنا اليوم كيف الدين معك؟ الحمد الله تعالى صليت مائة ركعة زيادة، يا أخي قل لي أولاً كم فرد صالحت وكم فرد أخطأت معه وكم فرد تصرفت بأخلاقية معه، الخ... من المعاملة البشرية التي هي أساس، يجب أن تعيد النظر في سلوكك وتصرفاتك وعلاقاتك مع الناس فتكتشف الخطأ من الصح، فلماذا يريد الأمير(ع) حقوق العباد أولاً؟ لأن حقوق العباد إذا أديتها يعني أنك نفذت ما أراد الله تعالى من أمرك بعبادته ،فعبادته تؤدي إلى تحقيق حقوق الناس، وإلا بدون حقوق الناس كيف يبنى المجتمع، وكيف لنا أن نجعل الاحترام والاستقرار في المجتمع؟.. لا يوجد إمكانية، من هنا حقوق الناس مقدمة على الآخرين، فالذي يريد أن يرفع تقريراً إلى الله تعالى عن نفسه فعليه أن يقوم بجردة حساب وأن يستعرض ماذا عمل مع الناس وما عملت الناس معه، وبعدها يستعرض كم صلاة قد صلى وصيام وحج فهذا الأمر يأتي بعد محاسبة النفس ومساءلتها عن العلاقة مع المجتمع حينها سيرى الانعكاس والتأثير، فالله تعالى يقول: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}أين؟ في المجتمع، وانعكاس في العلاقة مع الناس وبالأخلاقية والاستقامة، وهذا كله من أجل من ومع من؟ من أجل الاختلاط في المجتمع مع الصالح والطالح وتبقى مستقيماً، فيجب أن تخوض في المجتمع تجربتك وتبقى متمسكاً بالتزامك وقناعاتك، هذا هو الأمر الأساس، فعليك أولاً أن تؤدي حقوق عباد الله تعالى، فإذا قام الإنسان بحقوق العباد أعطى زوجته حقها كما أمر الله تعالى، وأعطى ولده وجاره وصاحب العقد التجاري حقوقهم الخ... فما معنى ذلك؟إنه التزام بأوامر الله تعالى ، فبإعطاء حقوق الناس أدى حق الله وأدى حقوق الناس في آنٍ معاً، أما إذا لم يؤد حق الناس فمعنى ذلك أن هنالك مشكلة وهو مخطئ. وهناك أمر آخر عندما يتعلق الأمر بالعلاقة مع الله تعالى، فلنفترض أن فردا ًقام بأعمال غير جيدة مثل تقصير في الصلاة أو الصوم... في علاقة حسابها بينه وبين الله تعالى ولا دخل للناس فيه، يوم القيامة يمكن أن يغفر لهذا الإنسان، فيقول تعالى أنا أمرتك وهذه علاقة بيني وبينك وأنا مسامحك بشفاعة النبي (ص) أو لأي سبب من الأسباب الله تعالى يريد أن يرحمك في العلاقة بينك وبينه، ولكن يقول لك أنت استغبت فلاناً أولاً عليه هو أن يسامحك وإلا ستعاقب لأن الله تعالى يسامح بحقوقه ويقتص بمصلحة حقوق الناس، وهناك شيء شائع بيننا، وأحياناً الناس لا تأخذه بعين الاعتبار أنه من الجيد أن يتسامح الشخص من أقربائه ومن الناس الذين أخطأ معهم، فالبعض يظن أنها كلمة سامحني سامحتك، فأصبح الحال على ما يرام، لا يسامحَ ، لا بدَّ للطرف الآخر أن يقول له: حقي وصلني والله يسامحك وإلاَّ عليك أن تعطيه هذا الحق بعد طول امتناع حتى يسامحك وحتى تذهب إلى الله تعالى وليس للناس حقوق عليك، حق الناس صعب كثيراً وحق المجتمع المدني مبني على ماذا؟ مبني على احترام حقوق الناس، ومبني على أن كل واحد له دائرة معينة لا يحق أن تعتدي عليه وتأخذ حقه مهما كان هذا الحق، أقول أكثر من هذا، في الواقع المدني الأوراق هي التي تحكم والقرارات هي التي تحكم، فمثلاً أنا اشتريت منك بيتاً إذا لم أكتب ورقة عند كاتب العدل يمكنك أن تأخذ المال وتنكر البيت قانونياً، وحتى على المستوى الشرعي، فإذا لم تملك إثباتاً ودليلاً ذهب منك البيت، إذاً في المجتمع المدني حتى في القوانين الشرعية عليك أن تملك بينة ، صحيح أن حقك يذهب في الدنيا لأنك لم تجلب الدليل لكن في الآخرة عندما يقف هذا الإنسان بين يدي الله تعالى لا يقدر أن يقول لله تعالى إذا أردت أحلف لك، فوقتها يده تنطق ولسانه ينطق ورجله تنطق وكل شيء فيه يشهد عليه، فيوم القيامة سيحاسبه الله تعالى على هذا السرقة. المتدين عندما يفكر أنه سيقف هذا الموقف في يوم القيامة، حتى لو لم توجد أوراق وأدلة يخشى أن يأخذ حقوق الآخرين، فيقول صحيح أنا لم أسجل عليه، وإذا ادعى عليَّ فإنه حتماً خاسر لأنه لا يملك الدليل، ولكن أين أذهب من الله تعالى يوم القيامة!؟ فعليه لا يقدم على فعل مشين، لأنه يخاف من العقوبة التي سينالها عند الله تعالى ولأن الله تعالى سجل عليه ولا يمكن للإنسان أن يتجاوز التسجيل، إذاً لاحظوا الرقي، فالإسلام لم يأمر بمجتمع مدني فقط، ولم ينظم العلاقة بين الناس فحسب، بل أوجد تربية إيمانية تجعل الإنسان يخشى الله تعالى في يوم القيامة فلو لم تتوفر الأدلة المادية لحقوق الآخرين فمن موقع إيمانه يؤدي حقوق الآخرين، حتى لو لم يكن عندهم أدلة مادية لأن الله تعالى يعلم أن هذا هو صاحب الحق، ويجب أن يعطى له الحق وهذا المؤمن يخشى من عقاب الله تعالى يوم القيامة، إذاً عندنا ضابطتان :ضابطة قانونية وضابطة ذاتية لها علاقة بإيمان الإنسان وارتباطه بربه وشعوره أنه مراقب من الله تعالى فلا يستطيع أن يتجاوز هذا الأمر، أين نجد رقياً أفضل من هذا الرقي!؟ بينما تلاحظون أن الإسلام رعى هذه الالتزامات، هذه الضوابط التي يجب أن تبقى حاكمة في العلاقة بين الناس، فالمجتمع المدني يريد أن يكون الناس محترمين مع بعضهم البعض، ولا أحد يعتدي على أحد والحقوق محفوظة وكل واحد يقوم بما عليه وفق الالتزامات المطلوبة، أكثر من هذا أمير المؤمنين علي(ع) يحدثنا عن العلاقة الأخوية، وهنا أريد أن ألفت نظر الأخوة والأخوات لأنه أحياناً في أوساطنا المتدينة يصبح هناك استخفاف بهذا الأمر أنه نحن أخوة مع بعضنا فلا مشكلة على قاعدة أن هذا الأمر يمر بالفحوى لكنه يقول لك أنه غير مسامحك حتى الفحوى وأنت تقوم بها بالفحوى، يسوقها بطريقة ويمررها، اسمع ماذا يقول أمير المؤمنين(ع):" لا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه" يعني تحت عنوان الصحبة والصداقة والاستحياء أحصل على المال بطريقة غير شرعية من صديقي تحت عنوان من هذه العناوين، فالأصول أن تعطيه المبلغ وبدوره إذا أراد أن يعطيك المبلغ فشأنه، أما أن تأخذه بأسلوب معين وباستحياء" ما أخذ حياءً أُخذ غصباً" لماذا تتصرف مع أخيك على هذا الأساس إذا كان هو لائق ومحترم وحبوب فهل من الضروري أن تأخذ حقوقه وبأسلوبك! فهذا تصرف خاطئ وأسلوب غير صحيح، فيقول له أمير المؤمنين(ع) :" لا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه فإنه ليس لك بأخ من ضيعته"فهو ليس أخاك الذي تضيع حقه، وعندما تضيع حقه فمعنى ذلك أن هناك خللاً بالأخوة التي تتحدث عنها، أول شيء يجب أن تحافظ عليه هو حق أخيك، فكيف تقوم بأعمال وتتصرف بحيث تضيع هذا الحق، فهذا أمر غير مقبول ومناسب، حتى في علاقة الأخ بأخيه يفترض أن تكون هناك ضوابط وأن ننتبه لمراعاة المشاعر، وما هو العمل الذي يريح أخي المسلم، ولا يصح أن تتصرف بطريقة تؤذي مشاعر الإنسان الآخر مثل الألقاب أو ما شابه تحت عنوان الصحبة والمعرفة، فيجب أن تأخذ بعين الاعتبار أن هذا الذي اتخذته أخاً يجب أن تحرص عليه أكثر من غيره، وتكون أكثر احتياطاً في العلاقة معه حتى تتحول هذه الأخوة إلى تفان وتضحية وإخلاص ينعكس على الحياة اليومية بكل ما للكلمة من معنى، وإلا لا يكون هناك أخوة في العلاقة .
كنا تحدثنا في الجزء الأول عن الرؤية الإسلامية للمجتمع المدني، واعتبرنا أن نظام الإسلام إنما يركز على علاقات الناس مع بعضهم البعض، ولذا نعتبر أن الإسلام بتحديده لنظام المعاملات في مجال العقود وفي كل المجالات التي تؤدي إلى احتكاكات بين الناس، إنما يشرع كيفية العلاقة على صعيد المدينة والزوجة وعلى صعيد مختلف التعقيدات الاجتماعية للإجابة على الأسئلة المختلفة، وسنتحدث في هذا الجزء عن أدلة أو معطيات أخرى تؤكد على نظرة الإسلام للمجتمع المدني، أي نظرته إلى كيفية التعاطي مع مجتمع يكثر فيه الناس ويحتاجون إلى تنظيم في العلاقات بينهم. نأخذ عدداً من المفردات التي تشير إلى هذه النتيجة:
أولاً: النظافة، فقد ورد في الحديث الشريف:" النظافة من الإيمان" أي أن الرسول(ص) اعتبر نظافة الإنسان جزءاً لا يتجزأ من إيمانه ومن شخصيته التربوية التي يعيشها، بل نلاحظ أن العبادات في الإسلام تركز على الطهارة تركيزاً مميزاً وملفتاً لا نجده عند أحد، فالوضوء قبل الصلاة، والغسل للتخلص من الحدث الأكبر، وهكذا نلاحظ مجموعة من التوجيهات التي تعتبر جزءاً عبادياً له علاقة مباشرة بطهارة الإنسان المادية قبل الحديث عن الطهارة المعنوية، وأعتقد أن ملف الطهارات والنجاسات هو ملف كبير جداً في الأبحاث التي تدور في فقهنا والتي يتحدث عنها علماؤنا، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على العقلية التي يريدها الإسلام في إبقاء النظافة قائمة في المجتمع، وأنتم تعلمون أن النظافة تساهم بشكل مباشر في التخلص من عدد من الأمراض، وتفيد أيضاً في إيجاد مناخ صحي ومؤاتٍ بين الناس في المجتمع، طبعاً الطهارة في الإسلام عندما تأخذ طابعاً عبادياً لا يعني أنها تتجه فقط للنظافة، لكن النظافة هي نتيجة من نتائج هذه الطهارة، وهذا ما نحصله بشكل مباشر، يقول الرسول(ص):" تنظفوا بكل ما استطعتم فإن الله تعالى بنى الإسلام على النظافة ولن يدخل الجنة إلا كل نظيف"، فهذا نوع من التأكيد على أهمية النظافة عندما يجعلها بهذا المستوى من الاهتمام لدرجة أنه يربطها بالإيمان وبالدخول إلى الجنة ويربطها بشخصية الإنسان من الموقع الإيماني. واليوم يعتبرون أنه من الأبحاث الحديثة والمهمة أبحاث البيئة، فيعتبرون من يتحدث عن البيئة ونظافتها والاهتمام بالبيئة هو إنسان عصري، فنحن عندنا اهتمام بالبيئة والنظافة قبل ألف وأربعمائة سنة وأكثر من خلال التشريعات التي لها علاقة بالنظافة، سواء شمل هذا الأمر الثياب والجسد أو المكان، لأننا مثلاً لا نستطيع أن نصلي على نجاسة فالمطلوب طهارة المكان أيضاً الذي نكون فيه، مكروه مثلاً أن نصلي في أماكن قريبة ببيت الخلاء أو ما شابه ذلك كتعبير عن ضرورة إبقاء هذا الأمر خارج دائرة التداخل اليومي المباشر، وهذا كله له دلالة في التوجيه الإسلامي، حتى التشجيع على استخدام المياه قبل الطعام وبعده هذه كلها تدخل في دائرة النظافة التي تحافظ على واقع الإنسان الاجتماعي، واليوم واحدة من الأزمات الكبرى التي تعيشها المجتمعات هي البيئة، حتى طريقة التنظيف في كثير من المجالات يعتبرونها حضارية تعتمد على الورق والمسح وعلى الشكليات التي تبتعد عن التنظيف الحقيقي الذي يصدر عن الماء، والذي يؤدي إلى النتيجة المقبولة التي تبعد التلوث والأمراض، فالإسلام يهتم بالنظافة بشكل واضح، والنظافة طبعاً ليست نظافة الشخص والبيت بل حتى نظافة المجتمع، فليس كما يفعل البعض ينظف بيته ويوسخ الشارع فحدوده في الداخل وليس في الخارج، هناك مسؤولية اجتماعية وهذا ما سنلحظه بشكل مباشر في الحديث الثاني عن الزينة التي تحدث عنها الإسلام.
الزينة شكل من أشكال المظهر اللطيف الذي يخرج به الإنسان إلى الخارج حتى يكون في الواقع الاجتماعي عنده قبول، طبعاً ألفت النظر أنه عندما نتحدث عن الزينة لا نتحدث عن الزينة الموجهة إلى المرأة، والتي تعني إثارة الطرف الآخر أو تعني الزينة المحرمة التي ستنعكس سلباً في جو المجتمع في شكل عام، فكما يقول تعالى:{يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} فأنت إذا ذاهبت إلى المسجد تزين ولتكن ثيابك نظيفة وشعرك مسرحاً ورائحتك معقولة، وفي المسجد من المكروهات أن الإنسان يكون آكل ثوم ويذهب ليصلي جماعة فهذا يؤذي الآخرين، حتى الشكل الخارجي أنه مثلاً نرى في بعض المساجد أن هناك "بيجامات" معلقة جانباً من أجل الطهارة وهذه "البيجامات" مرقعة مائة رقعة وملبوسة أكثر من مئة مرة فهل يجب أن يكون الإنسان المصلي "مبهدلاً" وشكله غير لطريف، وما المانع أن تكون "البيجاما" لطيفة ونظيفة ومظهرها أنيق، فالمسألة ليست مسألة كم سعر "البيجاما" وإنما المسألة أن هناك لياقة عامة وشكلاً ومظهراً، فالشكل الظاهري له مدخلية وتأثير {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} فعند كل مسجد لتكن رائحتك حلوة وشكلك جميلاً على قاعدة أنك ستحتك بالجماعة، وهذا طبعاً عمل في المجتمع المدني وعمل في الخارج في الاحتكاك بالآخرين، ويقول تعالى في آية أخرى{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون}فمن الذي قال بأن الله تعالى حرم التزين في المجالات التي وجه فيها، فهو تعالى وجَّه أن أنتم أيها الرجال عندما تذهبون إلى المسجد والاحتكاك بالوضع الاجتماعي فليكن هناك لياقات معينة وزينة معينة، وبالنسبة للنساء أيضاً شيء طبيعي الذي له علاقة بالنظافة العامة وبالشكل المقبول اجتماعياً، طبعاً مطلوب أن تتجنب المرأة زينة تلفت النظر إليها، لكن هذا لا يمنع أن تكون حتى متزينة في مورد تزينها لزوجها أو ما شابه، نحن نخلط أحياناً ولا نأخذ بعين الاعتبار الوضع الاجتماعي وكثيراً ما نعطي الوضع الاجتماعي خلاف الاستحقاق، فلاحظوا، الإسلام في الوقت الذي حثَّ على النظافة التي هي شأن عام، وحثَّ فيه على اللياقة والزينة المباشرة للرجال على قاعدة الاحتكاك اليومي، وطلب الزينة للنساء في مكان آخر في العلاقات النسائية وفي العلاقة مع الزوج، لأنه لا يريد أن يجعل في المجتمع احتكاكاً خاطئاً، وإلا بعض التصرفات التي نلاحظها تخرج عن هذا التوجيه، وكذلك نقول للنساء انتبهن لبيوتكن وللمظهر وللعلاقة في داخل البيت وللأناقة في داخل البيت فهذا جزء لا يتجزأ، الشاعر يقول:
ماذا يضرك لو سترت جمالا وحجبت عنَّا رقة ودلالة
يا من تعرت للرجال غواية ليس الجمال مع الحياء مُحالَه
في البيت أنت بحالة لا ترتجى وإذا خرجت أتيتنا تمثالا.
فقسم من النساء في داخل البيت الوضع مزرٍ، أما في الخارج كل ما خلق الله وكل ما تفنن به الإنسان من زينة يظهر إلى الخارج، في الشارع طبيعي، في الخارج تظهر بأبهى الحلة والشكل، أما في البيت فلا مشكلة ففي النهاية هو بيت، وهل من الضروري أن يكون وضع وشكل المرأة في داخل البيت مزرٍ، فالمعنى أن يكون هناك شيء من الشكل الذي له علاقة بالاحتكاك الداخلي، وليس أن نرى في الخارج تزيناً بشكل خارج عن الحد الشرعي كعدم الحجاب وبعض التصرفات غير اللائقة، فالمطلوب أن نراعي الوضع الاجتماعي، الإمام الصادق(ع) يقول:" إن الله جميل يحب الجمال والتجمل"، يحب الجمال والتجمل كما قلنا بالقواعد الشرعية، لأن البعض أحياناً يتجاوز القاعدة الشرعية تحت عنوان أن الله جميل يحب الجمال والتجمل، يحب الجمال والتجمل في محلهما، فكل شيء بمكانة ومحله ووزنه الصحيح حتى لا نخرج عن الدائرة المطلوبة، الرسول(ص) يتحدث في إطار التزين عن الطيب، يقول:" يا علي عليك بالطيب في كل جمعة فإنه من سنتي وتكتب لك حسناته ما دام يوجد منك من رائحته"(1) لماذا؟ لأن يوم الجمعة يوم عيد للمسلمين، ويوم الجمعة يذهب الإنسان إلى صلاة الجمعة، ويوم الجمعة يحتك بالآخرين ،فليكن هناك وضع مريح بالنسبة للآخرين،وطبعاً بالنسبة للآخرين نرى موضوع العطر في الشارع مشكلته مشكلة تحوله إلى زينة محرمة، فيجب أن يُرى كيفية المحافظة على النظافة والرائحة الجيدة ،لكن لا أن تضع الواحدة منا رائحة تشكل جاذبية للآخرين. فإذاً الإسلام ينظر إلى هذا الوضع الاجتماعي العام ويأخذه بعين الاعتبار.
ثالثاً: موضوع النظام، الإمام علي(ع) أوصى الإمامين الحسن والحسين(ع) يقول:" أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم"، لاحظوا مع التقوى نظم الأمر، فيجب أن تكون أموركم منظمة، وعليكم أن تضعوا كل شي في مكانه، والتزموا بالضوابط العامة التي تنفعكم والتي ترحمكم، والتي تؤدي إلى توزيع الأدوار في داخل هذه الأمة، والتي تعطي كل ذي حق حقه، فلماذا لا يكون عندنا نظام، فهذا جزء من التوجيه، والله تعالى والرسول(ص) يحثاننا على هذا الأمر وأمير المؤمنين علي(ع) يحثنا على هذا الأمر، لأن نظم الأمر هو مقياس النجاح والتعاطي مع الأمور، وحفظ النظام العام أساس، وكثيراً ما نلاحظ الفقهاء ببعض الفتاوى التي يصدرونها يرددون عبارة ما لم تخالف النظام العام، فمثلاً هذا الأمر تستطيع أن تقوم به ولكن لا تخالف النظام العام، حتى الآن لو افترضنا أن هناك نظام سير ونظاماً في نظافة الشارع ونظاماً في طريقة مرور الأفراد، وواحد منا خالف هذا النظام العام يعتبر آثماً، لأن النظام العام يعتبر حاكماً طالما أن هذا النظام العام لا يوجد فيه محرمات، وطالما أن النظام العام هو ما تسالم عليه الناس، فلو افترضنا أن الجهة المعينة هي المسؤولة عن النظام، وأغلب الناس يستخف بتطبيق هذا النظام العام، فهذه الجهة المنتخبة إذا قررت أن هذا الشارع سنمنع المرور فيه على خطين أو قالت أنها ستضع موقفاً للسيارات أو ما شابه فهذا نظام عام، ومن المطلوب أن نحافظ على النظام العام، والإسلام يركز ويؤكد على المحافظة على النظام العام، وهذا النظام العام طالما أنه لا يوجد فيه محرم فهو واحب على الجميع، فلا تنتظم الأمور إذا قام كل فرد بما يريد، وعلى ذوقه، وفعل ما يريد. البعض يظن أن الحرام هو إذا ارتكب حراماً واضحاً بعينه، مثلاً سرق فيقول: إن السرقة حرام وأنا لا أسرق، فأنت هذه الأرض ليست لك وتقدمت عليها وعمرت عليها وأخذت عشرين متراً أو خمسة أمتار فيقول لا مشكلة فهذه للدولة وللعالم فهذه سرقة ولكن بعنوان آخر، فليست السرقة من سرق بالخفاء فقط، لأنه ليس ملك لك وليس من حقك ويجب أن تبحث، هل يحق لك أن تكون هنا أم لا، وهل يحق لك أن تمد يدك إلى هذا المكان أم لا، وهل يحق لك أن تفعل هذا الشيء أم لا، لأن كل شيء اسمه حق عام مشترك بين الناس يجب عليك أن تحافظ عليه، فإذا كان هناك شجرة وهذه الشجرة ملك للمسلمين فالكل يستطيع أن يتفيء بها وأن يأكل منها وأن يجلس تحتها، لا تقدر أنت أن تمنع الناس أن يقوموا بهذه الأمور وتستأثر فيها لنفسك، لأنها ملك عام وليس ملك خاص، الأنهار والبحار والشواطئ وغيرها إذا كانت أملاكاً عامة لا يحق لك أن تستأثر بها وتمنع الآخرين من الاستفادة منها، هذا النظام العام، الإسلام يؤكد على حفظه، وهذا يؤكد على أن الموضوع يأخذ بعين الاعتبار تنظيم الأمور، فالبعض يقول إن الرسول(ص) لم يكن في زمانه لا إشارات سير ولا طرقات مزفتة وطيران مدني ولا كل التفاصيل الأخرى، فهذه تنحل عندما نفهم أن الإسلام وضع في بعض الحالات قواعد عامة تصلح لكل زمان ومكان بمجرد أن طلب منك أن تحافظ على النظام العام، وأن تكون منسجماً مع ما يقرر، وان تكون جزءاً من الجماعة، وأن لا تعتدي على حقوقهم، فكل هذه التطبيقات تجعلك قابلاً أن تتفاعل معها في كل زمان ومكان. أنا أعتبر أن النظرة أن الإسلام لا يتعاطى بهذه الأمور نظرة خاطئة، فالإسلام يؤكد على حفظ واحترام النظام العام، فعندما لا يكون هناك نظام بالأصل فعندها يكون الفرد معذوراً، أما إذا كان هناك مجالات، وسعي لإقامة النظام ونحن نعطل النظام فهذه مشكلة كبرى يفترض أن نلتفت إليها حتى لا نرتكب إثماً.
النقطة الرابعة تتعلق بالجار،وفي الحقيقة أطلعت على حديث للنبي(ص) من الأحاديث الجميلة جداً يتحدث بإيجاز عن النظرة إلى العلاقة مع الجار، وتبين أن هذا جزء من العلاقة المجتمعية، معنى ذلك الجار الموجود معك بالبناية والجار الموجود بنفس الشارع المباشر.. بالتأكيد في دائرة جيرانك أنت "يطلع عندك ستين أو سبعين شخص" وكلهم في دائرة الجيران المباشرين لك، ولا نتكلم عن الجيران البعيدين بل القريبين منك، فهناك طريقة بالتعامل مع الجيران، فاليوم هناك جيران لا يحترمون جيرانهم ولا "آخذينهم" بعين الاعتبار: يوقف السيارة أينما يريد ويرمي النفايات أينما يشاء ولا يحسب حساب لأحد وخلّص إذا بتقدر أن تخلص معه، فماذا يقول الرسول(ص):" إذا أغاثك أغثه" فيجب أن تعينه، " وإن استقرضك أقرضه" وإذا طلب منك قرضاً أو مساعدة لوقت محدد فأعنه إذا كنت تقدر أو تساعده على إيجاد من يعينه،" وإن افتقر عدت إليه" فإذا رأيت أن وضعه كان جيداً فجأة سقط وأصبح فقيراً فحاول أن تساعده بقدر المستطاع، " وإن أصابه خير هنأته" صار عنده زواج أو نجاح أو شيء جيد فالتهنئة جيدة بين الجار والجار الثاني بقول مبروك أو ما شابه فيستأنس بها ويعتبر أن الجيران مهتمون به، " وإن مرض عدته" فإذا مرض زرته، " وإن أصابته مصيبة عزيته، وإن مات تبعت جنازته" كجزء من اللياقات الاجتماعية والتوجيه الإسلامي المستحب، " ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه" فلا تعمر شيء بوجهه وتغلق عليه ، طالما أنه ليس من حقك وطالما أنه موضوع مشترك، إذا هو سمح لك فلا مشكلة، لذلك يجب أن تأخذ إذنه، " وإذا اشتريت فاكهة فأهدها له" فالمقصود أن تلتفت إليه في بعض الحالات، وهناك بعض اللياقات بين الجيران جميلة جداً مثل تبادل الطعام الطيب ولو بالجمعة مرة أو بالشهر " فإن لم تفعل فأدخلها سراً" فالمقصود أنت حامل فاكهة ومرتبك فيها من كثرتها وهو لا يقدر أن يدخل على بيته كيلو من الفاكهة إما أن تبعث له شيئاً منها أو تدخل له شيئاً بالسر عبر كيس أسود أو أي حركة ثانية لا تظهر هذا العمل بشكل واضح من أجل مشاعر هذا الجار، " ولا يخرج بها ولدك يغيظ بها ولده" أو فاكهة نادرة يحملها ويأكل فيها على الشارع أمام أولاد الجيران وهم ينظرون ولا يعرفون هذه الفاكهة لأنه شغلة جديدة، فيجب أن يأكلها الولد داخل البيت، أو أعطيه تفاحة طالما أن التفاح منتشر ويستطيع أي إنسان أن يشتريها، فلماذا؟ ليس محرماً أن يأكل، ولكن عليه ان يلتفت، لأن هناك علاقات اجتماعية، وهذه العلاقات يجب أن تأخذها بعين الاعتبار،" ولا تؤذه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها" فإذا طبخت طبخة وبيته قرب بيتك وكل شيء تطبخه تدخل الرائحة إلى بيته، فمن وقت لآخر عليك أن تمرر له شيئاً مما تطبخ. عندما يأخذ الإسلام رعاية لكل هذه الأمور فهو لم يترك شيئاً، ويأخذ بعين الاعتبار أنك لا تعيش لوحدك، فهذه النظرة أن الإنسان ليست علاقته مع الله صلاةً وصوماً وحجاً، ولا علاقة له بالأمور الثانية، لا كل التشريعات آخذة بعين الاعتبار أنك بالمجتمع وعلاقتك مع المجتمع واحتكاك مع المتجمع، وكل التوجيهات تأخذ بعين الاعتبار أن لا ينعكس سلوكك آثاراً سلبية على المجتمع، فهذا كله يخدم المجتمع المدني بشكل مباشرة في العلاقة بين الناس.
خامساً: العدل، وأنتم تعرفون أن العدل أولاه الإسلام اهتماماً خاصاً{وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}الحكم بين الناس بالعدل في كل شيء، وليس فقط الحكم أن يكون هناك قضاء، لا حتى في المنازعات الشخصية والعلاقات اليومية والاختلافات يجب أن تكون عادلة، هذه نظرية أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب هذه نظرية جاهلية، أنا وأخي على ابن عمي إذا كان الحق مع أخي، أما إذا كان الحق مع ابن عمي فأنا مع ابن عمي، عندها أرى كيف أوجه أخي بطريقة يفهم معها أنه ليس معه حق، وليس بدون أن أفهم أقول أن الحق معه، يجب أن تحكم بالعدل بين الناس وفي كل شيء يجب أن تكون عادلاً، علي(ع) يقول:" الرعية لا يصلحها إلا العدل" لماذا؟ لأن الناس عندما تشعر بالظلم والمظلومية وأن هناك تمييزاً ولا يوجد حكم ضمن القواعد والضوابط المعروفة فسيخرب المجتمع، أما إذا كان هناك عدل فيقول الفرد حتى إذا أتت القضية على قطع رأسي فأنا أقبل لأنها كما تأتي علي القصة تأتي على غيري، وعندما تكون المسألة شاملة للجميع والتصرف مع الجميع بمنطق واحد وعدل في العلاقة يعني ذلك أن لا أحد يتأذى من الموضوع، السيدة الزهراء(ع) عندما تحدثت في خطبتها في المسجد عن بعض الأوامر الإسلامية وعن الهدف من هذه الأوامر قالت:" والعدل تسكيناً للقلوب" أي أن الله تعالى أمر بالعدل تسكيناً للقلوب حتى تسكن القلوب وتطمئن، فالمقصود عندما يشعر الناس أن الحكم عادل وأن المسؤولية تقع على الجميع بمستوى واحد، ويوجد عدالة في التطبيق فالضريبة على الكل مثل بعضهم البعض، عندها تسكن وترتاح وتطمئن القلوب لأن هناك عدل، فمن أهم أسباب تشريع العدل أنه يسكن القلوب ويريح الناس ويوازن بين أصحاب الحقوق ويعطي كل ذي حق حقه، إذاً الإسلام يأمر بالعدل، وقصص العدل مشهورة جداً عندنا، وقصص العدل في الإسلام معروفة في حكم النبي (ص) الذي قال :" والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، فهذا الحكم يسري على الجميع، أمير المؤمنين علي(ع) وزع الأعطيات بين المسلمين بالتساوي، جاءه عقيل أخوه الأكبر وهو أعمى، وعنده عيال، أخذ حصته ولكن وجد أن حصته لا تكفي يريد المزيد، في التوزيع لا يعطى أكثر مما أعطي ولكن بالمونة أن أخاه أمير المؤمنين وصاحب بيت مال المسلمين والحاكم فقال لأخيه أنه يريد المزيد، وكان عقيل أعمى، الإمام (ع) قَرَّب حديدة من يد عقيل فأحس بحماوتها فأخرج يده بسرعة ، فلما رأى الإمام عقيلاً يقوم بهذا العمل وطبعاً عقيل تساءل ما هي القصة، قال(ع) : " ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبها وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى" أتئن من نار خفيفة في الدنيا ونار جهنم من يحميني منها إذا لم أكن عادلاً معك ومع غيرك على حدٍ سواء، إذاً العدل مع الرعية والناس والمطلوب أن يكون هناك عدل بين الناس ومطلوب أن يكون هناك ضوابط يحكم بها بين الناس، وهذه توجيهات الإسلام، والعدل في المجتمع لأن العدل خارج المجتمع لا قيمة للمسألة، ويوجه أمير المؤمنين (ع) واليه على مصر مالك الأشتر فيقول له:" ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج" يعني عمر الأرض وفكر بهذا الموضوع أكثر من أن تفكر بالضريبة، ولا يكون همك أن تكثر الضريبة بل أن يكون همك كيف تعمر الأرض، لأنك إذا عمرت الأرض، الناس ترتاح وتعيش أجواء راحة،" لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة" فالضريبة لا تأتي إلا إذا عمرت الأرض وهي معادلة صحيحة.. عمر الأرض يصبح هناك أموال مع الناس فتدفع الضرائب التي عليها، خذ منها الآن ضرائب واضغط عليها ولا يوجد عمارة للأرض بعد فترة تنتهي الضر ائب فتعيش حالة فقر أنت والناس، إذاً اهتم بعمارة الأرض أولاً حتى تستفيد الناس وتستفيد أنت من الناس بجلب الضرائب،" ومن طلب خراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً" فالذي يعمل على تحصيل الأموال من الناس وتحت تأثير الضغط دون أن يأخذ بعين الاعتبار عمارة الأرض ومصالح الناس وما يحتاجونه فهذا يخرب، هذا كله توجيه يساعد بشكل مباشر على إحياء حالة المجتمع المدني بطريقة تساعد بشكل مباشر على أن تكون هناك حياة حقيقية بين الناس.
سادساً: موضوع الوطن، في السابق ربما البعض كان يتحفظ، هل نحن نهتم بالوطن أو لا نهتم به؟ على أساس أن الذي يهتم بالإسلام لا علاقة له بشيء، ومن قال هذا الكلام، أليست هذه الأرض التي تعيش عليها؟ إذاً فمسؤوليتك أن تدافع عن الأرض التي تحيا عليها، فكرامة الأرض من كرامتك، ورد في الرواية عن أمير المؤمنين علي(ع):"عمرت البلاد بحب الأوطان"، فمن الطبيعي أن يحب الشخص بلده الذي يحيا فيها، وفي الحديث"من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أرضه فهو شهيد" لماذا؟ حتى يتحمل مسؤوليته ويدافع عنه ويحرص عليه، وهذا جزء من فطرة وطبيعة الإنسان، وهذا جزء من التربية الصحيحة حتى يكون عند الإنسان مستقر معين، لذلك نحن عندما دافعنا عن لبنان وقاتلنا وأخرجنا الاحتلال الإسرائيلي لم نكن نفكر أن الآخرين يقاتلون أم لا، بل كنا نفكر بأننا نقوم بواجبنا، وبالتالي هذه تربية تساعد على إخراج المحتل والمستكبر واستعادة الحرية والكرامة، لأن الله تعالى يريدنا أعزة كرماء أحراراً في بلدنا، ألا يقولون أن جزءاً من الذي يجمع الناس مع بعضهم البعض في بلدٍ واحد أن يحرصوا على المحافظة على بلدهم، وأي محافظة أفضل وأعلى وأرقى من أن يقتل الإنسان دفاعاً عن أرضه.
هذه مجموعة عناوين وتوجد عناوين أخرى كلها تبين أن الإسلام يحرص على تنظيم العلاقات بين الناس بطريقة يحافظ على البلد التي نعيش فيه، وعلى الحي الذي نعيش فيه، وعلى العلاقات بين الناس سواء كانت العلاقات تبتدأ بالعلاقة مع الجار أو تنتهي بالعلاقة مع كل المواطنين ضمن نظام عام لا يكون في دائرة الحرام لكن ينظم الشؤون، وهذه مسؤولية الجميع وعلى الجميع أن يلتزموا بها ويحافظوا عليها.
(1) مكارم الأخلاق للطبرسي- ص43