اختار الله نبيه محمداً(ص) ليكون الهادي إلى دينه والشاهد على خلقه، والداعي إلى حكمه، فحمل الأمانة، وبلَّغ الرسالة، ونصح الأمة:{الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاَّ الله وكفى بالله حسيبا}(1)، فكان قدوة للعباد، ومنارة للخلاص، وسبيلاً للنجاة،" أضاءت به البلاد بعد الضلالة والمظلمة، والجهالة الغالبة، والجفوة الجافية، والناس يستحلون الحريم، ويستذلون الحكيم، يحيون على فترة، ويموتون على كفرة"(2) كما قال أمير المؤمنين علي(ع)، فنهض بأمر الله، ودعا إلى حكمه بالموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة رادّاً كيد المستكبرين، ومدافعاً عن الدين الحنيف، ففتح مكة ، وحطّم أصنامها، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
أفواج أتى أهلها الله بقلب سليم فصدقوا ما عاهدوا الله عليه.
وأفواج آمن لسانها ولم يدخل الإيمان قلبها، شعارها النفاق ومبتغاها شيء من الحطام الزائل، والكسب للجاه، واعتلاء المناصب، يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلاَّ قليلاً.
وأفواج رأت الإسلام أمامها أمراً واقعاً، فتلبسوا لبوس الدين خائفين مترقبين، يتحينون الفرص للعودة إلى أحضان الشرك والجاهلية، فهم للفتنة حاطبون وللشر باسم الحق والخير فاعلون، وقد نبّأ القرآن عن حالهم وذكر ارتدادهم فقال تعالى:{وما محمد إلاَّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرَّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}(3).
ومن هنا تراكمت السلبيات داخل الأمة الإسلامية، ورافقتها مجموعة من الانحرافات في الأفكار والأهداف والقناعات والمواقف، أدت إلى أن انتزى يزيد بسيفه على هذه الأمة:"مستحلاً لحرم الله، ناكثاً عهده، مخالفاً لسنة رسوله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان"(4).
وابتدأ الصراع بين الاستقامة التي مثّلها الإمام الحسين(ع)، والانحراف الذي مثّله يزيد (لعنه الله)، ونهض الإمام الحسين(ع) مصححاً المسيرة، ومحدداً معالمها الصحيحة بهدف إعادة الأمور إلى ما كانت عليه في زمن رسول الله(ص)، فاستطاع هذا النهج الحسيني الأصيل أن يُثبِّت الخط المحمدي الأصيل على النقاء والاستقامة، ويمهد لوراثة الأرض بمسار ابتدأ مع الأنبياء والأئمة(ع) والعاملين المخلصين من العلماء والمجاهدين، الذين يقومون بتكليفهم ودورهم الرسالي، لتصل البشرية إلى سيادة تعاليم السماء على الأرض، ويعلو الحق وتقوم دولة إمام العصر والزمان:"فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلِئت ظلماً وجوراً"، ويحق الحقّ ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
في غمرة الصراع واشتداده تحقق حلم الأنبياء، فبزغ نور الثورة الحسينية في القرن العشرين بالموقف العظيم للإمام الخميني(قده)، الذي أحيا هذا الدين وأعاد إليه نضارته ومكانته وقدّم فهماً حقيقياً لمضمونه، وأثمرت تلك النهضة المباركة على صعيد لبنان، والعالم الإسلامي بتقديم النموذج الرمز الذي حملت لواءه المقاومة الإسلامية، وحققت أهدافاً مباشرة أبرزها الانتصار المظفرّ على العدو الإسرائيلي في جنوب لبنان، وطرح فكر الإسلام الأصيل بطريقة تنسجم مع عظمة الشريعة وقوتها ومتانتها وقدرتها لأن تدخل إلى كل القلوب والعقول، وما كان هذا ليحصل لولا الارتباط بأولئك العظام الذين أطاعوا الله طاعة حقيقية، فوفقهم الله في مسعاهم وجعلهم أنواراً تمشي على الأرض لتضيء للبشرية باسم محمد وآل محمد.
نحن نعمل كجزء من السلسلة التي تريد تحقيق عدالة الأرض، وتسعى لانتشار معالم هذا الدين المنسجم مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، وتطمع في تحقيق أهدافها الدنيوية والأخروية في آن معاً، وعليه يفترض بنا أن نفكر ونحن ندرس الثورة الحسينية كيف يعمل المستضعفون لوراثة الأرض، وتحقيق العدالة في كل مكان من العالم، لأن قوله تعالى:{ونريد أن نمن على الذي استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}(5)، لا يختص بزمان أو مكان واحد، ولا يمكن الوصول إلى هذه النتيجة إلاَّ بعد أن نكون قد قمنا بما علينا من توفير العوامل الضرورية ، ثم يأتي بعد ذلك النصر الإلهي على قاعدة تحقيق الوعد:{... وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}(6). لذا يجب أن نتعرف على هذه القواعد حتى نعمل على توفير ظروفها وشروطها ونكون مساهمين في هذه السلسلة التي تحقق وعد الله تعالى على الأرض.
1- عامل القيادة
تلعب القيادة دوراً أساسياً في مسيرة الحياة، فهي رأس الهرم الذي يقع على عاتقه مسؤولية تعبئة الأمة وتوجيهها، فإذا كان القائد شجاعاً حكيماً منصفاً عادلاً مؤمناً مطيعاً لله تعالى، بثَّ روحيته في الأمة وأصلح شأنها وأعانها على أمرها وأوصلها الى ما فيه صلاحها وأمنها وازدهارها وعزتها ومنعتها، واختيار القيادة التي نثق بها، ونسلمها دماءنا ونعطيها فكرنا لتوجيه قدراتنا في الحياة، هي مسؤولية كل فرد منّا، أما الفشل الذريع فيتحقق عندما نتنصل عن المسؤولية ونرمي الأمور عن كواهلنا وعواتقنا، ونحمِّل المسؤولية لمن تصدى غصباً عنّا ورغماً عن إرادتنا، ونرضى بالظالم لنا حاكماً والمفسد قائداً، ونسحب إرادتنا من ساحة مواجهة الحاكم الظالم، والمحتل الغاشم، ونتحول نموذجاً آخر لأهل الكوفة الذين أدركوا أن إمكانية العيش تحت حكم يزيد هو أمر مخالف للإسلام، ولكنهم عندما تعرضوا للتضحية تخلوا عن القيادة الحقة، وأغفلوا دورهم الرسالي في تحمل المسؤولية تجاه القيادة الحكيمة المعصومة المتمثلة بالإمام الحسين(ع)، وتذرعوا بالعجز عن مواجهة الظالم، فاختاروا يزيد مع علمهم بأن الإمام الحسين(ع) هو الأجدر، الذي يقودهم إلى صلاحهم وفلاحهم. انطلقوا يبررون لأنفسهم، ويمنونها بالنعم التي ستغدق عليهم، وادعوا التفاسير الكثيرة لأفكار خاطئة ابتدعوها من عندهم حتى يخرجوا عن طاعة الإمام الحسين(ع)، فدفعوا الثمن باهظاً لأنهم خذلوا الحق ونصروا الباطل، فأوصلوا خلفاء يمتطون شعار الحاكمية لله تعالى كي يقتلوا ويظلموا ويرتكبوا الحماقات والجرائم باسم الإسلام، ما أبعد الأمة عن عزتها وتقدمها، وجعلها تقع فريسة أولئك الذين أساءوا حكم المسلمين باسم الإسلام وباسم المسؤولية.
من هنا يجب علينا أن نتحمل المسؤولية في اختيار القيادة، ونعتبره أمراً أساسياً لا يصح لأحد أن يدَّعي أنه خارج إطار تحملها، فسيشهد كل إنسان على نفسه يوم القيامة، ويعترف بمسؤوليته عن قيادته واختيارها.
عندما ندفن ميتاً نلقنه الشهادتين وأسماء قادته من النبي (ص) والأئمة(ع)، ليس التلقين للأموات من أجل الإجابة فقط، بل للأحياء أيضاً حتى يعملوا به ويتمكنوا من الإجابة عندما يموتون. هذا الأمر ليس عابراً بل هو مناط بتكليف كل فرد منّا ، ولن نتمكن يوم القيامة من تحميل غيرنا مسؤولية اختيار القيادة، فلن يتحمل أحد يوم القيامة مسؤولية أحد.
اسمعوا هذه القصة التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم كتعبير عن حال الناس في يوم القيامة، وعن حوارهم مع قادتهم وزعماءهم:{ وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ، قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}(7) .
فالضعفاء المنقادون للقادة المنحرفين، سألوا قادتهم في الحياة الدنيا عن سبب دخولهم إلى النار، فلم يستجيبوا لهم، فسألوا زعيمهم الشيطان {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم}(8)فالشيطان لا يعترف بأتباعه بل يتخلى عنهم، فهم يتحملون مسؤولية اختيارهم، لأنهم انساقوا بإرادتهم لدعايته وتضليله فاتبعوه، و{كل نفس بما كسبت رهينة}(9).
إن القيادة المسؤولة لا تتخلى عن أتباعها، فهي التي تُرشد وتعلم وتربي وتضحي، وتتحمل مآسي الحياة الدنيا، لتعبُرَ مع أتباعها إلى القيامة السعيدة والمقام الرفيع عند الله، يوم يدعو الله كل إناس بإمامهم، فتلبي النداء ثلة من عباد الله الصالحين يقودهم النبي والأئمة(عم) والقادة المخلصون. لقد وفقنا الله بهذا القائد الملهم الولي الفقيه الإمام الخميني (قده)، ومن بعده الإمام الخامنئي (حفظه الله ورعاه)،لقد قال لنا الإمام الخميني(قده) عندما دخلت إسرائيل الى لبنان: الخير فيما وقع، قال لنا أيضاً: قاتلوا هذه الجرثومة السرطانية، في الوقت الذي كان يقف البعض معترضاً على قتال إسرائيل: كيف تقاتلونها؟! ستسقط دماء كثيرة دون جدوى!ويدور النقاش حول التحريم، وقد يكون البعض مشتبهاً لكن البعض الآخر كنماذج أهل الكوفة وذرائعهم، فهم يتحدثون تارة عن حقن الدماء، وأخرى عن الضمانات القطعية بالانتصار على العدو من دون ثغرات، ولو كان التفكير بهذه الطريقة الخاطئة لما أطلقنا طلقة واحدة على إسرائيل، إذ لا يملك أحد ضمانة النصر الأكيد، وأننا بهذه الإمكانات المتواضعة قد وفقنا الله تعالى إلى هذه النتائج الكبيرة ببركة المجاهدين والشهداء والنساء والأطفال.
كان الإمام جريئاً وواضحاً وعارفاً بتكليفه على الرغم من الظروف القاسية والصعبة، وكان يعلم أن التضحيات التي تبذل هي التي تصنع المستقبل وتحدد معالمه، فأمرنا وتحركنا بجرأة وطمأنينة، فهو قائد ملهم يتحمل مسؤوليته أمام الله تعالى، وهو قيادة حكيمة تستمد شرعيتها من أيمانها ومن طاعتها لله تعالى، ومن معرفتها وشجاعتها وإقدامها من أجل إحقاق الحق، فسار على خطاه سيد شهداء المقاومة الإسلامية السيد عباس الموسوي(رض) ومعه المجاهدون الذين وفَّقهم الله تعالى إلى هذا الطريق، ونصرهم نصراً مؤزراً ببركة هذا الاتجاه للقيادة الحكيمة،فكانت البداية والنتائج مصداق الآية الكريمة:{يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}(10).
إن انسحاب المسلمين من تولي القيادة المؤهلة للإمام الحسين(ع) جعلهم يعيشون المرارات والآلام في حكم يزيد ومن تلاه على نهجه، وكان لتقاعس أهل الكوفة الأثر الكبير في الدماء الزكية التي سالت، ولولا ثبات قيادة الإمام الحسين(ع) ومن معه لما توصلنا إلى هذا الإسلام النقي، ولما انكشف لنا زيف الحكام الظلمة، ولما استفدنا من دروس الحياة العملية لننصر الإسلام في مواقع الخدمة للإنسانية مهما كثُرت التضحيات.
2 - عامل القوة
لا يمكن أن ينجز الإنسان عدالة في هذا العالم ويحقق أهداف الإسلام، دون أن يوفر الإمكانات المناسبة والمقومات اللازمة، التي تنسجم مع خطواته العملية وتساهم في حضور الإسلام بقوة وفعالية في الحياة، وذلك بعد أن نوفر التربية الصالحة لأولادنا، ونثقفهم بثقافة القرآن، ونهيء لهم السلوك الحسن ونوجههم باتجاه القيادة الرسالية الجديرة، ونأخذ بأيديهم في أدائهم الرسالي المخلص، حتى يتحول كل واحد إلى قدوة في مجتمعه، فيؤثر ويبني وينشر تعاليم الإسلام ليصبح المسلمون أقوياء بفهمهم لدينهم وإيمانهم والتزامهم، فيستأنسون بالتضحية في سبيله والذود عنه بكل غالٍ ونفيس.
ولا بدَّ أن يرافق هذه التربية على المستوى النظري الإعداد العملي في ساحة الواقع، فلا يمكن للأمة أن تنتصر ما لم توفر المقدمات اللازمة وتقوم بما عليها من الإعداد، وتأخذ موقعها في عملية الصراع، عندها يسدد الله خطواتها ويعينها على أمرها، ويمدها بقوته، ويدعمها بملائكته، ويلقي في قلوب أعدائها الرعب، لذا أمر تعالى بإعداد العدّة فقال:{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم...}(11)، ولم يشترط سبحانه وتعالى على عباده أن تتفوق قدراتهم القتالية على العدو كي ينزل نصره عليهم ويقهر عدوهم، بل قال" وأعدوا لهم ما استطعتم" فالمهم أن لا تسقط الأمة بسقوط إرادتها على المواجهة، وأن تقف بإمكانياتها وإن كانت متواضعة لتقاوم وتعمل لتطوير عدتها وعتادتها، وتواجه الظلم وتقاوم الاحتلال بكل الوسائل المتاحة والممكنة، وذلك بالأسلوب المناسب والتوقيت المناسب، فليس المطلوب استخدام القوة كيفما كان، وإنما المطلوب استخدامها في تحقيق الأهداف وبحسب مستلزمات المرحلة والظروف.
عندما نتحدث عن الإعداد فهذا يعني توفير العدد والعدة بحسب الميسور، وبذل الجهود الكافية للتطوير والاستقطاب، وليس الأمر مطلوباً برد الفعل، لأن الإعداد مرتبط بتحصين ساحتنا وقدراتنا في كل زمان ومن كل الأعداء وعندما تتطلب المواجهة ذلك، أما الحديث عن مواكبة قدرة الظالمين فهو جيد إذا تمكنا من ذلك أو أَفسَحوا لنا المجال، لكن لا يجوز اعتباره شرطاً مهما كانت الإمكانات متواضعة، إذ علينا أن نهيئها ولو كانت موقفاً. " فالموقف سلاح والمصافحة اعتراف" كما قال الشهيد الشيخ راغب حرب(قده). وليس المطلوب أن نربط الاعداد بالنصر، لأنه يساعد على تحقيق النصر لكن قد لا يتحقق لأسباب كثيرة، فلا يعني هذا أن نحبط ونتراجع، فالعدة جزء من الإيمان والالتزام اللذين يُهيئان لنا شروط القيام بواجبنا، الذي يُثمر نصراً أو شهادة، وعلينا أن نعيش الرضا في كلتا الحالتين.
في فلسطين قامت الانتفاضة، وجرت العمليات الجهادية بوسائل ومعدات متواضعة،ورشق المجاهدون القوات الإسرائيلية بالحجارة، وقاتلوها بكل الوسائل المتاحة، وبدأ القلق يستشري في هذا الكيان الغاصب على المصير القاتم، وازدادت توسلات هذا العدو لدى الدول الكبرى كي يسكتوا الانتفاضة خوفاً من سقوطه أكثر فأكثر.
إنَّ القوة المحدودة والإعداد المتواصل المترافق مع الإيمان الكبير بالله تعالى تؤدي إلى هذه النتائج العظيمة بتوفيق الله وتسديده جلَّ وعلا، ومع عدمها لا يمكن الوصول إلى هذه النتائج. ولا ينفع الاكتفاء بالدعاء بدون العمل، كما لا يصح أن نحصر إعدادنا بتوقع النصر دون الهزيمة، إذ قد لا تكون شروط النصر مكتملة، وهذه مسؤوليتنا. ثم إن هذه العدة هي في موقع الدفاع عن النفس والأموال والاستقامة والصلاح، ولا يجوز أن تكون يوماً خارج هذه الدائرة. كما لا يمكن الاعتماد على الامتناع أو أخلاقية الخصوم في إعطاء الحق أو الاعتراف بالصواب، فلطالما حرَّف المستكبرون الحقائق، وقلبوا المنكر معروفاً والمعروف منكراً، فكان لا بدَّ من القوة لحماية الحق وصيانة مكتسباته.
يجب أن نكون جزءاً من هذه المسيرة المباركة التي تصنع جنوداً وأنصاراً للإمام المهدي(عج)، لذا يجب أن نسعى ليلاً ونهاراً لنعدَّ أنفسنا ونعمل لنتقوى ونتربى، فبمقدار ما نكون عليه من جدٍ وإخلاص، وتجسيد لتعاليم الإسلام، وتطبيق لقواعد العدل، نُسرِّع في ظهوره(عج) وهذه مسؤولية تقع على عاتقنا جميعاً .
3 - عامل الإخلاص لله تعالى
تعلمون أن التقوى والإخلاص والعلاقة مع الله تعالى والتفاني في حبه جلَّ وعلا درجات، فتارة يصلي الإنسان ليرفع التكليف الشرعي عن نفسه، وأخرى تحلق روحه الى بارئها من عظمة التفاعل أثناءها، والفرق بين الصلاتين كبير جداً، فالأول هو الذي يهتم بظاهر الصلاة وحركاتها فلا يخشع قلبه ولا تخضع جوارحه ولا يشعر براحة نفسه وطمأنينتها مع ذكر الله، والثاني هو الأكثر التزاماً حيث يعمل ليكون الأرقى في عبادته، والأنقى في روحيَّته فيؤدي واجباته بأفضل أداء. أما المستويات والدرجات بين هذين النموذجين فهي كثيرة، وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم معيار التقييم:{إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. فهناك التقي والأتقى، والملتزم والأكثر التزاماً، والمضحي والأشد تضحية، إنها مستويات بين الناس، ومن الخطأ أن نكتفي بالحد الأدنى. بعض الناس يقولون بأنهم لا يريدون شيئاً من الله تعالى إلاَّ أن يتزحزحوا عن النار، لكن هذا الهدف ضعيف، يجب أن يكون هدفهم هو الشرب من يد الرسول(ص) من حوض الكوثر، وأن يكون العمل باتجاه هذا الهدف، عندها قد يؤدي إلى الزحزحة عن النار. يجب أن يكون الهدف عظيماً حتى يكون الأداء عظيماً، فلنفكر بأن لا نبقى على الحدود فهذا يعرضنا لخطر السقوط.
أيها المؤمن حاول أن تكون الأرقى في إيمانك وروحيتك، إبكِ في سجودك وخشوعك وخضوعك لله وإلاَّ فتباكى، لا تكن من الذين يحضرون مجالس عاشوراء من أجل أن يسجلوا حضوراً فقط، بل كن من الذين يحضرون ليأخذوا من دروسها وعبرها، وتباكى لتتفاعل حتى يتعلق قلبك بالحسين(ع) فستشعر أنك معه في كربلاء، وكرر هذا التفاعل وهذا التعلق بالحسين(ع) حتى تمتلك الاستعداد والتفاني وروح الاقدام والتضحية والتعبئة العالية وحب الشهادة. وإلاَّ فبغير هذه الروحية العالية تتراجع الأمة وتخسر.
ولننتبه لأولئك المتخاذلين الذين يسقطون وقت الامتحان، فالذين أرسلوا الكتب من أهل الكوفة إلى الإمام الحسين(ع) كانوا يتأملون النصر والمكافأة والربح والمكاسب، فهذا شبث بن ربعي وحجار بن أبجر وغيرهما يكتبون له: أما بعد، فقد اخضر الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند. لكن عندما دخل ابن زياد الكوفة وهددهم تراجعوا عن كتبهم وموقفهم حرصاً على مصالحهم التي رأوها مع يزيد وعامله ابن زياد، فكان شبث بن ربعي على رأس فرقة من الذين قاتلوا الإمام الحسين(ع) في كربلاء، متنصلاً من كتابه وموقفه.
لقد ميز القرآن الكريم بين مرحلتين من مراحل حياة المؤمنين الأولى:{ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا...}(12) يعني أن قوة الواحد بعشرة . الثانية :بعد فترة من الزمن عندما خفت روحية المسلمين وكبر ارتباطهم بالدنيا :{الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن مائة صابرة يغلبون مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين}(13) حيث أصبحت قوة الواحد باثنين، فهم بحاجة إلى إعادة تأهيل. أحياناً يكون المؤمن بعشرة وثانية يكون باثنين، وكلاهما مؤمن، لكن روحية المؤمن بعشرة تختلف عن روحية المؤمن باثنين. كلما كانت روحيتنا أكبر كلما كانت نتيجة أعمالنا أعظم، وكلما كان إيماننا أكبر أثَّرنا في المجتمع أكثر، وكلما كانت تضحياتنا متفانية في سبيل الله غيَّرنا الواقع أكثر، وكلما ارتبطنا بمحمد وآل محمد أكثر عشقنا العمل على دربهم وغيَّرنا حياتنا وسلوكنا وتوفقنا وأثَّرنا في جيراننا وأقاربنا ومواطنينا وكل من يعيش معنا.
إنَّ تصعيد هذه الروحية وبناءها بناءً كبيراً وعظيماً وعدم الاكتفاء بالقدر اليسير على قاعدة " فمن زحزح عن النار" يساعد في تحقيق الأهداف الكبرى، في الإيمان العظيم وحسن التربية والعبادة والسلوك. من الضروري أن نبني أنفسنا في مجالس عاشوراء وفي كل اللقاءات على الإخلاص وروحية الشهادة، لأن الرجل الذي يبني نفسه على روحية الشهادة يكون حاضراً لكل تضحية في أي مكان وزمان، إذا كان تكليفه أن يقوم بهذه التضحية وينصر الإسلام وينتصر للإسلام، وبالتالي يحقق أهدافا كبرى لمصلحة هذا الدين. وعندما تكون الأخت أو الأم أو الزوجة أو البنت تملك روحية التضحية فإنها تصبح قوية كزينب(ع) وعظيمة كفاطمة(ع)، وتعبيء أولادها وتدفع زوجها، وتكون حاملة للّواء في المجتمع، فلا تخشى في الله لومة لائم، وتبقى مسلحة برأيها وموقفها، معلنة بحجابها أنها تريد طاعة الله عز وجل، ولو انحرف كل المجتمع. فالبناء على التضحية وروحية الشهادة يساعدنا لنواجه كل المخاطر والانحرافات في مجتمعنا، فضلاً عن الأعداء الذين يواجهوننا في هذا الوقت .
إذا توفرت هذه العوامل الثلاثة: القيادة والقوة والإخلاص، نكون بذلك قد هيأنا الطريق لنكون جزءاً من المسيرة الإلهية الكبرى. في لبنان كبرنا بديننا ولم نكبر بعددنا، وارتفعنا بتضحياتنا ولم نرتفع بقرار دولي، وتوفقنا لأننا لم نفكر بطريقة عصبية. من أراد أن يبني وطناً عليه أن يبنيه بروحية الإنسان لا بروحية الطائفية ، ومن أراد أن ينهض بواقع صعب نعيشه اليوم فعليه أن ينظر الى المصالح الكبرى لا الى المصالح الفئوية ، ومن أراد أن يواجه التحديات والصعوبات فلا بد أن يكون جزءاً لا يتجزأ من صناعة مستقبل بلده على قاعدة أن يتضامن مع الآخرين بما فيه المصلحة. إن المقاومة في لبنان وحدت اللبنانيين لأنها طردت المحتل، ولأنها وجهت هدفها نحو التحرير ، أما اليوم فالمطلوب من الجميع أن يتكاتفوا لصيانة التحرير ولمواجهة الأخطار الإسرائيلية التي لا زالت موجودة وتحدق بمجتمعنا.
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
(1) سورة الأحزاب الآية 39.
(2) نهج البلاغة- خطبة 151.
(3) سورة آل عمران الآية 144.
(4) مقتل الحسين لأبي مخنف الأزدي-ص 85.
(5) سورة القصص الآية 5.
(6) سورة الروم الآية 47.
(7) سورة إبراهيم الآية 21.
(8) سورة إبراهيم الآية 22.
(9) سورة المدثر الآية 38.
(10) سورة محمد الآية 7.
(11) سورة الأنفال الآية 6.
(12) سورة الأنفال الآية 65.
(13) سورة الأنفال الآية 66.
ألقيت هذه المحاضرة في منطقة حي السلم_ ضاحية بيروت الجنوبية_محرم 1422ه.