جرت حادثة مع أمير المؤمنين علي(ع) تُبيِّن عظم المسؤولية التي يتحملها ويراعيها في سبيل الله تعالى، عندما كان خليفة وأميناً على بيت مال المسلمين، فكان يوزع لكل مسلم نصيبه المقرر من بيت المال، "جاء عقيل إلى أمير المؤمنين (ع) وهو صاحب عيال كثير وفقير وقد أخذ حصته من بيت مال المسلمين ولكنها لم تكن كافيه له، فطلب من الأمير الزيادة ولم يتوقع أن يخيبه، ولكن أمير المؤمنين(ع) أحمى حديدة وقربها من يد عقيل فأحس بحرارتها وصرخ: فقال أمير المؤمنين علي(ع): " ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ, أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِه, وتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِه! أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى ولَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى"(9). علي(ع) مسؤولٌ وأمينٌ على بيت مال المسلمين، لا يصرف منه خارج الضوابط والعدالة ولو إلى أقرب الناس إليه.
يَجمعُ أغلب المسؤولين في العالم عندما يتسلمون سدة الحكم, أموالاً كثيرة من الصفقات ومخالفة القوانين والسرقة، ويستخدمون بعض الأموال الموضوعة بإشرافهم لأمورهم الخاصة؟! وكلُّ واحدٍ من الناس في موقع المسؤولية يستطيع أن يرتكب الحرام مهما كانت الرقابة عليه، فهناك طرق كثيرة للاحتيال والسرقة، ولا يحجب ارتكاب الحرام إلاَّ عيش المسؤولية تحت رقابة الله تعالى، فما الذي يردع هؤلاء البعيدون عن الله؟.
يترتب على المسؤولية حسابٌ عند الله تعالى، يقول الرسول(ص): "إنَّ الله تعالى سائلٌ كل راعٍ عما استرعاه، أَحفِظَ ذلك أم ضيَّعه، حتى يُسألَ الرجلُ عن أهلِ بيته"(10). ستُسأل يوم القيامة عن مسؤولياتك، فإذا كنت مسؤولاً عن عشرة فستُسأل عنهم، وإذا كنت مسؤولاً عن الأمة فستُسأل عنها.
يوصي أمير المؤمنين علي(ع) محمد بن أبي بكر وأهل مصر بقوله: "اوصيكم بتقوى الله فيما أنتم عنه مسؤولون, وإليه تصيرون، فإنَّ الله تعالى يقول: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ, ويقول: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ, ويقول: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ"(11). تتحدث الآيات الثلاثة عن المساءلة في يوم القيامة، فماذا سيكون جوابك لله تعالى؟ حيث لا يغادر كتاب الأعمال صغيرة ولا كبيرة إلاَّ أحصاها؟ وتكون الأمور واضحة وبيِّنة، "بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ"(12).
يدعونا الرسول(ص) أن نراقب أعمالنا وأن نقوم بمسؤولياتنا: "حاسبوا أنفسَكُم قبلَ أنْ تُحاسَبوا، وزِنُوها قبلَ أنْ تُوزنوا، وتجهَّزوا للعَرضِ الأكبر"(13). تجهزوا ليوم الحساب، فأنتم مسؤولون عن أنفسكم، ومسؤولون عن أهلكم وأولادكم وأمتكم، فالتفتوا الى مسؤوليتكم.
لماذا يرتكبُ الإنسانُ الحرام؟ وأنا أسأل مرتكب الحرام: كم تدومُ اللذة التي تحصل عليها؟ لحظة، دقيقة، دقيقتان؟! ثم تذهبُ اللذة وتبقى تبعاتها. فلو وقفت في مواجهة اللذة (المحرَّمة) للحظةٍ, بقوةٍ ورفضٍ وامتناع، فستعاني قليلاً ثم ترتاح بعدها، حامداً لله تعالى الذي أنجاك من هذه المعصية. تعامَلْ مع المعصية كما تتعامل مع الشرطة، فلو سار شخص بسيارته ليلاً، وصادف إشارة المرور الحمراء، فإنَّه يلتفت يميناً وشمالاً فلا يجد أحداً في الشارع، فيتجاوز الإشارة لعدم وجود أحدٍ يراقبه، أمَّا لو كان يعلم بأن الشرطي موجود، أو رآه أمامه، فلن يتجاوز الإشارة الحمراء ولو كان وحده في الشارع، لأنه يخاف من أن يضبطه مخالفاً، فيتوقف بانتظار الإشارة الخضراء. أتخاف من شرطي المرور، ولا تخاف من رقيبين على كتفيك, يسجلان كل لحظة وكل حركة، ثم تكون أعمالك حاضرة في كتابٍ جامعٍ يوم الحساب؟! لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً"(14). مسكينٌ أيها الإنسان، كيف تُجري حساباتك؟.
الأمر المهم هو أن نفهم طبيعة المسؤولية التي نتحملها أمام الله تعالى، يقول النبي(ص): " كلُّ نعيمٍ مسؤولٌ عنه يوم القيامة, إلا ما كان في سبيل الله تعالى"(15). كل شيء يتحمل الانسان مسؤوليته يوم القيامة إلاَّ إذا كان في سبيل الله تعالى. فالمجاهد لا يُسأل عن جهاده لأنه في سبيل الله تعالى, ومن يُحسن تربية أولاده لا يُسأل عن فعله ولا يُحاسب عليه، فما كان في سبيل الله من قولٍ صالح، وعملٍ صالح، وجهادٍ في سبيل الله تعالى, يُسجَّل لمصلحة صاحبه، ولكن يحاسِب الله على النِعَم التي فرَّط بها الانسان ولم يؤدها بشكل صحيح. كيف نميِّزُّ ذلك؟ عن أحد أصحاب الإمام: دعا أبو جعفر(ع) أبو خالد الكابلي للغداء، ووضع أمامه طعاماً طيباً، فأكل واستأنس بهذا الطعام، فقال(ع): يا أبا خالد! كيف رأيت طعامنا؟ قلتُ: جُعِلْتُ فداك ما رأيتُ أنظف منه قط ولا أطيب، ولكني ذكرتُ الآية في كتاب الله عزَّ وجلَّ: "لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ". قال أبو جعفر(ع): لا، إنما تُسألون عما أنتم عليه من الحق"(16). فالسؤال هل سرت على طريق الحق أم لا؟ فوزك مرتبط بالسير على طريق الحق.
يقول أمير المؤمنين علي(ع): "فَاتَّقُوا اللَّه عِبَادَ اللَّه, وبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ, وابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ, وتَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ, واسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ, وكُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا, وعَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا, فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانَه لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً, ولَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى"(17)، هذه مسؤولية شرعية أمام الله تعالى.