الدنيا معبرٌ مؤقت إلى الهدف النهائي أي الى يوم القيامة، فعليك أن تعمل لتحمل رصيد أعمالك إلى الآخرة، وأن تجهِّز لها فلا تتعلق بالدنيا الفانية، فإذا كان زادك جيداً في الدنيا فزتَ في الآخرة، وإذا لم يكن كذلك فالنتيجة سلبية، فاغتنم الفرصة، واستفد بما نقله الامام الصادق(ع) مما وعظ به لقمان الحكيم ابنه: "يَا بُنَيَّ, إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا قَبْلَكَ لأَوْلَادِهِمْ, فَلَمْ يَبْقَ مَا جَمَعُوا, ولَمْ يَبْقَ مَنْ جَمَعُوا لَه. وإِنَّمَا أَنْتَ عَبْدٌ مُسْتَأْجَرٌ, قَدْ أُمِرْتَ بِعَمَلٍ ووُعِدْتَ عَلَيْه أَجْراً, فَأَوْفِ عَمَلَكَ واسْتَوْفِ أَجْرَكَ. ولَا تَكُنْ فِي هَذِه الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ شَاةٍ وَقَعَتْ فِي زَرْعٍ أَخْضَرَ, فَأَكَلَتْ حَتَّى سَمِنَتْ, فَكَانَ حَتْفُهَا عِنْدَ سِمَنِهَا, ولَكِنِ اجْعَلِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ قَنْطَرَةٍ عَلَى نَهَرٍ جُزْتَ عَلَيْهَا وتَرَكْتَهَا, ولَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهَا آخِرَ الدَّهْرِ"(1).
إذا كنت مؤمناً في الدنيا، وأحسنتَ الاستفادة منها بطاعة الله تعالى, فلا بدَّ أن تشعر فيها بحالةٍ من السعادة والاطمئنان, وهذا خير، ثم تأخذ مكافأتك يوم القيامة.
إنَّ ما يحصل في الدنيا بصورة إيجابية ينعكس إيجاباً في الآخرة، وما يحصل فيها بصورة سلبية تكون نتيجته سلبية في الآخرة. قال تعالى: "يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ"(2)، فإذا ثبَّتك الله في الدنيا فأنت ثابتٌ في الآخرة، وإذا كنت موفقاً في الدنيا فأنت موفقٌ في الآخرة، وإذا اهتديتَ في الدنيا فهدايتُك الى جنة الخُلد في الآخرة إن شاء الله تعالى. تختلف صورة الدنيا الايجابية عن صورة الآخرة الايجابية, ففي الآخرة راحةٌ كاملة, واطمئنانٌ كامل، من دون تكاليف أو عمل، والسعادة فيها أبدية.
قال تعالى لرسوله(ص) وهو توجيهٌ لنا: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ"(3). زينةُ الدنيا وطيباتُها مشروعة لك شرط أن لا تكون حراماً، فالحلالُ من الطعام والشراب مشروعٌ لك، والصدقات وصلة الرحم والأعمال الصالحة، كلها أمور خيِّرة ومستحبة، ولكن لا تصحب رفقاء السوء، أو تقطع الرحم، أو تعاقر الخمر...، فإذا حصلت على زينة وطيبات الدنيا في طاعة الله تعالى، فستحصل على المكافأة يوم القيامة، لأنك أحسنت بما فعلت في الدنيا، فالحسنُ في الدنيا حسنٌ في الآخرة.
أمَّا الإنسان الذي يسيء في الدنيا، فيختار السرقة والاحتيال والكذب والغصب والظلم والانحراف والفساد، فلن يكون سعيداً في الدنيا، وسيعاني الكثير، وقد تتحول حياته إلى جحيم، ولو كان مظهره العام مظهرَ ترفٍ وسلطة، ولن يكون مطمئن النفس، ثم يعاقب يوم القيامة، فيكون خاسراً للدنيا والآخرة.
يقول أمير المؤمنين علي (ع): "من ابتاع آخرته بدنياه ربحهما، من باع آخرته بدنياه خسرهما"(4)، فالذي يقبل أن يضحي بالدنيا وملذاتها المحرَّمة لمصلحة الآخرة, يربحهما، والذي يبيع آخرته بعدم الإعداد لها، ويغرق في وحول الدنيا، يخسرهما.
كتب أمير المؤمنين علي(ع) لمحمد بن أبي بكر عندما قلده والياً على مصر: "واعْلَمُوا عِبَادَ اللَّه, أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وآجِلِ الآخِرَةِ, فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ, ولَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ. سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ, وأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ, فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِه الْمُتْرَفُونَ, وأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَه الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ, ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ والْمَتْجَرِ الرَّابِحِ. أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ, وتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللَّه غَداً فِي آخِرَتِهِمْ"(5).
كسب المتَّقون الدنيا والآخرة، فأخذوا من الدنيا حلالها وأفضل ما فيها، ولم يُحرموا إلاَّ من حرامها، وهو لذةٌ مؤقتة لها آثارٌ وخيمة، وأضرارٌ عظيمة، فهم لم يُحرموا عملياً, بل حموا أنفسهم ومستقبلهم من الإنزلاق والخسران, ثم يكافؤون لأنَّهم أحسنوا الاختيار. المتقون منصورون في الدنيا، ينتصرون على إسرائيل، ويقيمون دولة الإسلام، ويتربعون المواقع، وينجزون التقدم العلمي، ويبنون الحضارة والمدنية، ويتفوقون في مساراتهم الدنيوية، وينجحون في تربية أولادهم، ويتلذذون بنعيم الدنيا الحلال، ويعيشون الحالة المعنوية الرائعة في علاقتهم بالله تعالى، إنَّهم رابحون في الدنيا ورابحون في الآخرة.
ترتبط نتائج الأعمال ارتباطاً وثيقاً بين الدنيا والآخرة: "وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً"(6)، فالأعمى في الدنيا هو أعمى القلب والروح والإيمان والبصيرة، وهو الأعمى في الآخرة نتيجة عماه في الدنيا, فلا نور ولا راحة ولا أمل ولا خلاص. أعرف أيها الإنسان، أنَّ مسعاك اليوم في الدنيا يُمهد لآخرتك.