سئل أحد الصادقين كيف يكون الذكر؟ فأجاب: "ذكرُ اللسانِ الحمدُ والثناء، وذِكرُ النَّفسِ الجهدُ والعناء، وذِكرُ الروحِ الخوفُ والرجاء، وذِكرُ القلبِ الصدقُ والصفاء، وذِكرُ العقلِ التعظيمُ والحياء، وذِكرُ المعرفةِ التسليمُ والرضاء، وذِكرُ السر الرؤيةُ واللقاء"(8).
"ذكرُ اللسانِ الحمدُ والثناء"، ذكر اللسان قولُك: الحمدُ لك يا رب، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وكلُّ لفظٍ فيه ذِكرٌ لله تعالى.
"وذِكرُ النَّفس الجهدُ والعناء"، فالنَّفسُ تذكرُ الله تعالى عندما تبذل جهداً طاعةً لله تعالى، وتتحمل العناء لرفض جاذبية وإغراءات المعاصي، فهي تذكر الله عملياً برفض الإنجرار وراء الشيطان.
"وذِكرُ الروح الخوفُ والرجاء"، أن تخاف من عقاب الله تعالى، وترجو جنة الله ورحمته، تعبيرٌ عن ذكر الروح، فالخوف والرجاء يعصمك عن الباطل, ويساعدك لسلوك طريق بك، فذكر الروح حالةٌ نفسية تربوية توجِّه أداءك عملياً.
"وذِكرُ القلب الصدقُ والصفاء"، يكون قلبك ذاكراً عندما تكون صادقاً مع الله تعالى ومع نفسك، ومع من تتعامل معهم، فالصدق تعبير عن الحقيقية، ومعه يكون صفاء القلب والنفس وطمأنينتها، وصفاء العلاقات مع الآخرين. الصدق والصفاء انعكاسٌ لصفحة القلب الذاكر لله تعالى, الذي لا يوارب ولا يخلط الأمور.
"وذِكرُ العقلِ التعظيمُ والحياء"، إذا نظرتَ إلى السماء والأرض، وإلى الإنسان والحياة، أيقنتَ أن الله تعالى هو الخالق، فإذا ما رافق ذلك تعظيمٌ للخالق لبديع خلقه وعظمته، دلَّ ذلك على إعجاب العقل وتسليمه لهذه القدرة الإلهية، وهذا من ذكر الله تعالى عن طريق العقل الذي يدرك الحقائق. والحياء من ذكر العقل المتيقظ الذي يميز بين الحلال والحرام، والطاعة من المعصية، فلا يُقدِم على ما يُغضب الله تعالى إدراكاً لحضوره الدائم ومراقبته له، وحياء من ارتكاب النقائص في محضر الكامل. العقل الذاكر يدرك عظمة الخالق ويستحي من معصيته، وهذا هو ذكر العقل.
"وذِكرُ المعرفةِ التسليمُ والرضاء"، تعلَمُ أن الرزق بيد الله فتسلِّم أمرك له، وتعلم أن البلاء من عند الله فترضى بما ابتلاك به، وتعلم أن نهاية المطاف عند الله تعالى فلا تعاند، وتعلم أنَّ تسليمك لله تعالى يوصلك إلى مرضاته يوم القيامة، فاستثمر هذه المعرفة بالذكر الذي يصوِّبها ويمنحك آثارها الإيجابية. إنَّ تسليمك لقضاء الله وقدره تصديقٌ لإدراكك، ورضاك بما قسم الله تعالى تطبيق لإيمانك، وهذا هو ذكر المعرفة الذي يدفعك إلى التصرف بمقتضاها انسجاما مع سنن الله تعالى في هذه الحياة.
"وذِكرُ السر الرؤيةُ واللقاء"، ذكر السر أن ترى الله تعالى، لا بعينك ولكن بقلبك، فالله تعالى لا يُرى بالعين، وأن تشتاق إلى لقاء الله تعالى فتعيش معه حالة من الأُنس والعشق. إخْتَلِ بنفسك للحظات بعد صلاة الفجر، وادع الله تعالى دعاء الحزين، أو أي دعاء آخر، وتصوَّر أنك في حضرة من يسمعك ويراك في هذه اللحظات, وأنت بين يديه، كيف تكون مشاعرك في هذه الأجواء وأنت في حضرة الله تعالى. أنت بحاجة إلى قليلٍ من الجهد للخشوع والتأمل، لتشعر بأن الله تعالى يسمعك ويعطيك من بركاته ورحمته، إنَّه النور الذي يدخل إلى عقلك وقلبك وجوارحك، فيتحقق اللقاء. أو عندما تقرأ القرآن بتأنٍ وانتباهٍ وتدبر، وكأن الله تعالى يتلقى الحمد منك، وأنت تتلقى منه التوجيهات والأوامر والنواهي، فتَأْمَلْ في عيش الرؤية واللقاء, ليتحقق ذِكرُ السِّر بينك وبين خالقك, بما لا يعلمه إلاَّ أنت وهو.
خرج رسول الله(ص) على أصحابه، فقال: "ارتعوا في رياض الجنة. قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر"(9). كلُّ مجلسٍ يُذكرُ فيه الله تعالى روضةٌ من رياض الجنة، فذكرُ الله يستحضر الاستقامة والطهارة والطمأنينة وحسن الخلق والارتباط بالخالق... ما يجعل المجلس مجلساً للنور والهداية والخير، وهذه هي الروضة المعنوية الأرقى من الروضة المادية.
ويقول(ص): " من أطاع الله فقد ذكر الله, وإن قلَّتْ صلاتُه وصيامُه وتلاوتُه, ومن عصى الله فقد نسيَ الله, وإن كثُرتْ صلاتُه وصيامُه وتلاوتُه للقرآن"(10). عندما تصلي تذكرُ الله تعالى، وعندما تصوم تذكرُ الله تعالى، وعندما تشتري وتبيع بالحلال تذكرُ الله تعالى، وعندما تأكل الطعام المذبوح شرعاً وكل محلَّل فأنت تذكر الله تعالى، وعندما تنام بعد طاعةٍ وتبدأ يومك بالطاعات فأنت تذكر الله تعالى. وبما أنَّ الطاعة لله تعالى في العبادات والمعاملات نتيجةُ الإيمان به والالتزام بأوامره، فحدودُها وضوابطُها تعبيرٌ عملي عن حضور الله الدائم في حياة الإنسان، وهذا هو الذكر.
وقال رسول الله(ص) في خطبته في استقبال شهر رمضان المبارك: "أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة"(11), أي كأنك تقول "سبحان الله" بكلِّ نَفَسٍ فأنت في طاعةٍ مستمرة لحظة بلحظة خلال يوم كامل، وكذا في الأيام التالية، والنوم عبادة بين طاعتين، قبل النوم وبعده، لتستمر الطاعة لحظة بلحظة خلال 24 ساعة يومياً، فأنت في حالةِ ذكرٍ لله تعالى لأنك لا تُقدِم على معصية وأنت في طاعة الله تعالى. فإذاً ذكر الله تعالى في كل شيء وليس بالكلمة فقط، وعلى كل حال، وفي كل وقت، لتمتلىء الحياة بذكر الله تعالى.