ذكر الله يكون على كل حال، فليس له صيغة محصورة، يقول تعالى في كتابه العزيز: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"(1). يكون ذكر الله تعالى عن قيام, أو قعود، أو في حالة الاتكاء على الجنب، أي في جميع الحالات. كما لا يقتصر على مكانٍ محدَّد, فيكون في المسجد، والمنزل، وفي كل مكان. وكذلك يكون ذكر الله تعالى في جميع الأوقات، في الصباح عند الاستيقاظ، أو قبل النوم، أو أثناء الراحة، أو خلال العمل وبعده. فذكر الله تعالى يكون على كل حال، في أي زمانٍ ومكانٍ وحالةٍ وصيغة، وباللسان والقلب والحركة، فهو لا يقتصر على ترتيباتٍ خاصة، إذ يمكن الاتيان بالذكر بحسب المأثور أو بغيره، ونعيشُه حالةً حاضرةً ومستمرةً في أنفسنا وحياتنا, فلا يفارقنا بل يصبح جزءاً منا.
وَرَدَ دُعاءٌ لرسول الله(ص) عن الذكر في المصباح للكفعمي، وفي مفاتيح الجنان نقلاً عن البلد الأمين، ، إذا قرأه الإنسان عشر مرات في كل يوم، فإنَّه يُنجي من مائة هَوْلٍ من أهوال يوم القيامة, ووُقي من شر إبليس وجنوده, أذكُرُه مفصلاً لأُبيِّنَ شمولية الذكر لكل الحالات، وتأثيره فيها، بما يشبه العلاج بالذكر لتحقيق طمأنينة القلب.
1- "أعْدَدْتُ لِكُلِّ هَوْلٍ لا إلهَ إِلاّ الله"، كلما أشعر بأنَّ أمراً عظيماً يواجهني ويرعبني أو يخيفني خوفاً شديداً، أقول: لا إله إلاَّ الله، فلا شيء أكبر من الله تعالى، ولا يمكن أن أواجه كل هذه الضغوطات الخطيرة إلاَّ بـ: لا إله إلاَّ الله، فبذلك أعتمد على القوة الإلهية العظيمة التي تسقط أمامها كل القوى.
2- "وَلِكُلِّ هَمٍّ وَغَمٍّ ما شاء الله"، أصابني هَمٌّ أقلقَني وأزعَجني، أو غَمٌّ أحزنني، أقول: ما شاء الله، هذا ذكرٌ لله تعالى، بردِّ المشيئة إليه، وما دام كلُّ شيء بإرادته، فأنا مطمئن إلى النتيجة، واستعين بذكره لإزالة الهم والغم.
3- "وَلِكُلِّ نِعْمَةٍ الحَمْدُ لله"، عندما ينعم الله تعالى عليَّ بولدٍ أو رزقٍ أو صحةٍ أو أي نعمة، أقول: الحمد لله، فهو مصدر العطاء، وكل شيء من عنده، فيكون حمدي اعترافاً بجميل ما أعطى، وذكراً لصاحب الفضل عليَّ.
4- "وَلِكُلِّ رَخاءٍ الشُّكْرُ لله"، تفيض نعمةُ الله عليَّ, وتسبب الرخاء، وأعيش معها البحبوحة، فأقول: الشكر لله، فهو ذكرٌ واعترافٌ بعطاءاته الوفيرة جلَّ وعلا، الذي لولاه لم تكن النعمة, وبالشكر تزيد النِعَم, "لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ"(2).
5- "وَلِكُلِّ أُعْجوبَةٍ سَبْحانَ الله"، إذا حصل ما لم يكن متوقعاً، أو نظرت الى أعاجيب عظمة خلق الله تعالى, أقول: سبحان الله، فأنا أُنَزِّهُ الله تعالى على ما وفَّر لنا من عظيم سلطانه، وروائع خلقه الذي يملأ شغاف القلب ومدارك العقل.
6- "وَلِكُلِّ ذَنْبٍ أسْتَغْفِرُ الله"، أقول: استغفر الله تعالى، ليغفر لي ذنوبي، فأنا بحاجةٍ دائماً إلى من يغفر لي ذنوبي، ويريحني من آثامي، ويفتح لي صفحة جديدة لانطلق بكل أملٍ في طاعة الله تعالى، فاستغفر الله ذاكراً له في موضع الحاجة والطلب، متأملاً بقبوله لي بالتوبة والمغفرة.
7- "وَلِكُلِّ مُصيبَةٍ إنّا لله وَإنّا إلَيهِ راجِعونَ"، قال تعالى: "الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ"(3)، فالاسترجاع بقول "إنّا لله وَإنّا إلَيهِ راجِعونَ" يهوِّن المصيبة، بل يحوِّلها إلى رحمةٍ وهداية، فذكر الله تعالى يمدني بالعزيمة لأواجه الصعوبات، وبما أنَّ كلَّ شيء راجعٌ إليه، وأنا راجعٌ إليه، فأنا أطلب حاجاتي من عنده، وأضع مصائبي تحت رعايته, لأرتاح من هذا العبء، وهذا ما يساعدني عليه ذكر الله.
8- "وَلِكُلِّ ضيقٍ حَسْبي الله"، عندما أشعر باختناقٍ أو ضيقٍ أو أمرٍ ضغط عليَّ بشكل كبير، أحتسب أن يكون الله تعالى إلى جانبي فيعينني، واذكر ربي فهو حسبي ومعتمدي وسندي، وهو المعين للخروج من ضيقي.
9- "وَلِكُلِّ قَضاء وَقَدَرٍ تَوَكَّلْتُ عَلى الله"، القضاء أمرٌ حصل، والقدر معادلة ومقادير قرَّرها الله تعالى، فإذا وقع القضاء أقول: توكلت على الله تعالى، فلا قدرة لي لرد القضاء أو الاعتراض عليه، ولا أملك شيئاً من المقادير التي قدرها الله تعالى، فبذكره والتوكل عليه اتقبَّل القضاء والقدر، وهو لن يتركني.
10- "وَلِكُلِّ عَدوٍّ إعْتَصَمْتُ بِالله"، كيف أواجه العدو؟ ألجأ إلى الله تعالى، واعتصم به، وارتبط به، ليعينني في مواجهة العدو، فأنا بحاجة إلى ذكر الله الدائم ليكون معي فلا أضعُف اثناء المواجهة, وأكون مطمئناً الى وجود رُكنٍ متين الى جانبي.
11- "وَلِكُلِّ طاعَةٍ وَمَعْصيةٍ لا حَولَ وَلا قوةَ إِلاّ بِالله العَليّ العَظيم"، لولا ما منحني الله تعالى من قوة لما أطعت أو عصيت، فلا قوة لي الابالله تعالى، أذكرُه وألجأُ إليه ليعينني بقوته على الطاعة، واجتناب المعصية. أقول: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم، ذاكراً ملتجئاً إلى الله تعالى.
وهذا هو الدعاء: "أعْدَدْتُ لِكُلِّ هَوْلٍ لا إلهَ إِلاّ الله, وَلِكُلِّ هَمٍّ وَغَمٍّ ما شاء الله, وَلِكُلِّ نِعْمَةٍ الحَمْدُ لله, وَلِكُلِّ رَخاءٍ الشُّكْرُ لله, وَلِكُلِّ أُعْجوبَةٍ سَبْحانَ الله, وَلِكُلِّ ذَنْبٍ أسْتَغْفِرُ الله, وَلِكُلِّ مُصيبَةٍ إنّا لله وَإنّا إلَيهِ راجِعونَ, وَلِكُلِّ ضيقٍ حَسْبي الله, وَلِكُلِّ قَضاء وَقَدَرٍ تَوَكَّلْتُ عَلى الله, وَلِكُلِّ عَدوٍّ إعْتَصَمْتُ بِالله, وَلِكُلِّ طاعَةٍ وَمَعْصيةٍ لا حَولَ وَلا قوةَ إِلاّ بِالله العَليّ العَظيم"(4) .
ونتعلم من دعاء أمير المؤمنين علي(ع) على لسان كميل بن زياد الذي نقل الدعاء، الذي نقرأه في كل ليلة جمعة، وفي النصف من شعبان، وكذلك في ليالي القدر، قوله: "أَسأَلُكَ بِحَقِكَ وَقُدْسِكَ وَأَعْظَمِ صِفاتِكَ وَأَسْمائِكَ، أَنْ تَجْعَلَ أَوْقاتِي مِنَ اللّيْلِ وَالنَّهارِ بَذِكْرِكَ مَعْمُورَةً، وَبِخِدْمَتِكَ مَوْصُولَةً، وَأَعْمالِي عِنْدَكَ مَقْبُولَةً، حَتَّى تَكُونَ أَعْمالِي وأوْرادِي كُلُّها وِرْداً وَاحِداً، وَحالِي فِي خِدْمَتِكَ سَرْمَداً"(5). يارب وفقني لأن أذكرك ليل نهار، فتتواصل أعمالي وأورادي وحركاتي وسكناتي مع ذكرك الدائم، فلا أفارق ذكرك في يومي وليلي إلى نهاية عمري في هذه الدنيا.
ومما يُبيِّن لنا أهمية الذكر الدائم والمستمر، قول إمامنا علي(ع) لابنه الإمام الحسن(ع): "وكن لله ذاكراً على كل حال"(6)، فالذكر نورُ الحياة الأبدية، فإذا امتلأت أيامنا وليالينا وأحوالنا وأعمالنا بذكر الله تعالى، وعِشنا حضورَ الله تعالى في كل مفردات حياتنا، اهتدينا إلى كل خير، وعصَمَنا الله من الذنوب، وجعل السَكِيْنَة في قلوبنا.
يصفُ الله تعالى المؤمنين الأقوياء الأشداء، الذين وصلوا إلى المراتب العليا، بقوله: "رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ"(7). رجالٌ لا تلهيهم التجارة في معاملاتها الكثيرة والمتعددة، ولا البيع المحدود عند إتمامه، عن ذكر الله, ولا يفضلوهما على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والقيام بالواجبات، فذكر الله على كل حال هو الأصل, ولا يتعارض مع أي عمل حلال بل يدعمه ويصوبه ويزكيه، ولا يدعونا الذكر لأن نتخلى عن متابعة أمورنا المعيشية بشكل طبيعي، لكنه يحمينا من التقصير في أداء تكاليفنا الشرعية, أو الانحراف إلى الحرام.