يدعونا الله تعالى إلى حبٍ متبادل، فلا يطلب من عباده أن يحبوه فقط، بل يخبرنا بأنَّه يحب عباده. قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"(6). هذا الاختيار مبني على صفاتهم التي تبيِّن التزامهم بأوامر الله تعالى، وهو مرتبط بالعمل، وقد يتغير بتغيير الموقف، لكن الأرض لن تخلو من جماعة المؤمنين المرتبطين برابطة الحب والعطاء بشكل متبادل مع الله تعالى. إنَّ حب الله تعالى لعباده مَدَدٌ عظيم، فهو عطاء عظيم من الله تعالى لعبده المؤمن، والخاسر الأكبر من خسر هذا الحب. يقول الإمام الحسين(ع) في دعاء عرفة: "عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقِيباً, وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلَ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيباً"(7).
ليس الحب تعبيراً عاطفياً مجرداً، بل هو استحواذ على القلب لينطبع سلوك المرء بمن أحب، وما لم يتم التعبير عن الحب بالعمل فكيف ندرك وجوده؟ وما لم يكن الحب انسجاماً مع الخالق الآمر فكيف يكون حباً؟ وهل ينسجم الإنسان إلاَّ مع من أحب؟ من المفيد أن تجري اختباراً لموقعك ومع من تكون. عن الإمام الباقر(ع): "إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ فِيكَ خَيْراً فَانْظُرْ إِلَى قَلْبِكَ, فَإِنْ كَانَ يُحِبُّ أَهْلَ طَاعَةِ اللَّه ويُبْغِضُ أَهْلَ مَعْصِيَتِه, فَفِيكَ خَيْرٌ, واللَّه يُحِبُّكَ, وإِنْ كَانَ يُبْغِضُ أَهْلَ طَاعَةِ اللَّه ويُحِبُّ أَهْلَ مَعْصِيَتِه, فَلَيْسَ فِيكَ خَيْرٌ, واللَّه يُبْغِضُكَ, والْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ"(8).
ينفر بعض الأشخاص عندما تدعو لهم أن يحشرهم الله تعالى في يوم القيامة مع من أحبوا، لأنهم أحبوا العصاة ومأواهم النار، وهم يرغبون النفاد من العذاب مع تعلقهم بالمعصية، فيطلبون الخاتمة مع النبي(ص) والآل(عم) والمؤمنين، لكنهم لا يعملون أعمالهم في الدنيا! هذا محال، والطريق واضح.
تحدث الله تعالى في آيات عديدة من القرآن الكريم عمن يحبهم بسبب صفاتهم، وعمن لا يحبهم بسبب صفاتهم أيضاً، ما يدل على أن الحب مرتبط بالسلوك. قال تعالى: "وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"(9)، الذين يُعطون من دون مقابل، ويقدِّمون الخدمة من دون بدل، ويرفعون الأذى عن الطريق قربة إلى الله تعالى، ويتصدقون وهم لا يريدون بدلا، ويعفون عمن ظلمهم متأملين بعطاء الله تعالى لا بعطاء الناس.
"إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ"(10)، الذين يتوبون إلى الله تعالى بعد ذنب، فلا يصرون عليه، ويستدركون معصيتهم، ويتأملون بعفو الله تعالى، ويندفعون إلى الطاعة بعد المعصية. والذين يتطهرون الطهارة الجسدية والقلبية فيزكون أنفسهم وأجسادهم بخطوات العبادة والطاعة التي تطهرهم من كل رجس أو دنس.
ويقول تعالى: "بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ"(11)، الذين يحذرون من الوقوع في المعاصي، ويراقبون أعمالهم، ويسعون إلى أفضل الطاعات، ما يحمي نفوسهم من ذلات الشياطين، ويعمق الإيمان في قلوبهم.
فالله يحب الصالحين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب المتقين، هؤلاء الذين يملكون مواصفات إيمانية، ويعملون بما أمر الله تعالى.
"وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ"(12)، لأنه من عمل الشيطان، وهو مخالف للصلاح الذي أمر به الله تعالى، والفساد يخرِّب حياة الناس ويحرمهم من ملذاتها الطيبة.
"وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"(13)، الذين يعتدون على الآخرين، ويتجاوزون حدودهم وحقوقهم، ويسيؤون إلى الاجتماع البشري، وهذا مخالف لما أراده الله تعالى من العدل وحفظ حقوق الناس.
"فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ"(14)، الذين عميت أبصارهم وبصيرتهم عن حقيقة الإيمان، ولم يعتبروا بنعَمِ الله تعالى، وانكروا طريق السعادة الحقة، واختاروا نقيض الإيمان، وعادوا خالقهم ومن تعود إليه الأمور.
فالله لا يحب الفساد، ولا يحب الظالمين، ولا يحب الكافرين... فهؤلاء يسيرون في طريق تخالف وتناقض خط الله تعالى، فليتحملوا مسؤولية بغض الله تعالى لهم بسبب انحرافهم، وكذلك عاقبة أمرهم.