مقارنةٌ يجريها الله تعالى بين المتعلقين بالدنيا وما فيها، وبين المرتبطين به، يحبونه ومحمداً(ص) والجهاد في سبيله، وقد اختار الله تعالى ثمانية أمور تعود إليها أمور الدنيا ويتفاعل معها الإنسان بشكل مباشر، بادئاً بالعلاقات الاجتماعية الخمسة: "قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ"، وهي العلاقات التي تنشأ عن الأبوة والبنوة والأخوة والزواج والعشيرة، ثم المكاسب المالية والتجارة مصدر الإنسان في معاشه: "وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا"، ثم مكان السكن والاستقرار النفسي والمعنوي: "وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا".
هذه الأمور الثمانية تندرج تحت العناوين الثلاثة: العلاقات الاجتماعية والأموال والمساكن، وهي مقابل: "أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ"، أي أحب عندكم من الإيمان بالله تعالى والارتباط حباً به، وحب الرسول(ص) وما يمثِّل من تشريع وتوجيه ورسالة سماوية وقدوة نحو الكمال، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الدين وحماية المظلومين والمجتمع من المعتدين عليه، وقد ذخرت الآيات القرآنية بالحديث عن الجهاد في موارد كثيرة جداً، إذ لا يمكن للإنسان أن يكون مؤمناً حقيقياً فاعلاً إلاَّ إذا تربى على حب الجهاد والاستعداد للتضحية.
إذا كانت هذه الأمور الدنيوية الثمانية أحب إليكم مما يربطكم بالله تعالى: "فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"، انتظروا الحساب، فالله لا يهدي الذين فسقوا، ولم يلتزموا بضوابط الشريعة، وانحرفوا عن الطريق.
هل يوجد تعارض بين الارتباط بالدنيا وملذاتها بكل أقسامها، وبين الارتباط بالله تعالى وما يترتَّب على ذلك؟ أم بين حب الأولاد والآباء والعشيرة وبين حب الله تعالى؟ المقارنة بقوله: "أَحَبَّ إِلَيْكُمْ"، أي الحب الذي يسبِّب تضارباً في الموقف، فإذا اتخذتم موقفاً فيه لله رضا، وللأب غضبٌ أو للابن رفضٌ أو للزوجة ممانعةٌ، فهل تتبعون أوامر الله تعالى ولو أغضبتم هؤلاء ولم يكونوا راضين؟ أم أنكم تستمعون إلى كلامهم ولو أبعدوكم عن طاعة الله تعالى؟ فالمقارنة تؤكد الذًَم لالحب الذي يطغى لمصلحة الدنيا على حساب الدين. أمَّا لو تماهى وتناغم الارتباط بالأهل والعشيرة مع الإيمان بالله تعالى، بحيث يكون الحب مساراً واحداً، لله ورسوله والجهاد في سبيله، وللأهل والمال والمساكن في اطار طاعة الله تعالى، فالأولوية واضحة لله تعالى، ولا تعارض في الآثار، ولا حاجة لأي مقارنة، فالحب للأمور الدنيوية في طاعة الله أمرٌ مشروع.
من حقك أن تحصل على المال لتدبير أمور معاشك، وذلك عن طريق الحلال، ما ينسجم مع الالتزام بالأمر الإلهي، ويندرج في حب الله تعالى، أما لو حصلت عليه عن طريق الحرام، فقد اتَّبعتَ هواك، وعصيتَ الله تعالى، ما يعبِّر عن حبِّك للمال أكثر من حبِّك لله تعالى. فالمقارنة في إطار التعارض بين الحلال والحرام، ولا محلَّ لها عند التوافق، عندما تكون علاقتك مع الأهل والمال والمسكن خاضعة للإيمان وطاعة الله تعالى، فأنت تحبُّ ولدَك وتربِّيه على طاعة الله تعالى، في إطار حبك لله تعالى.
إذا كنتَ مستعداً للجهاد في سبيل الله، ولو أدى إلى خسارة مالك، في مقابل الارتباط بالمال الذي يمنع الجهاد ويؤدي إلى الاستسلام، فأنت محبٌ لله ورسوله والجهاد في سبيله، ولا يُعتبر مالك عائقاً، ولو بقي معك في كثرة ويسار، فهو لا يمنعك من الجهاد.
لكن لاحظوا كيف جرت المقارنة في هذه الآية: "قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ"، فالله تعالى انطلق من الحب، وهو تعبيرٌ عن علاقة عاطفية تنطلق من القلب، والمطلوب أن ننقل الإيمان بالله تعالى إلى حالة الحب، وكذلك الإيمان بالرسول(ص) والجهاد، فالحب يحقق التفاعل الحقيقي بين العقل والقلب، وبين الإيمان والالتزام العملي، فتنطلق الجوارح لتؤدي وظيفتها في طاعة الله تعالى في أجواء الاندفاع والأنس واللذة والذوبان في الله تعالى.
يقوم البناء الإسلامي على التفاعل بين العقل والقلب، وما ينتج عن الحب لا ينتج عن أي منطق، وما يعطيه العاشق لله تعالى لا يعطيه أي أحد لأي سبب آخر. الحبُّ مترادفٌ مع العطاء والبذل، فأنت تعطي من تحبه من دون بدل، تعطي ولدك الذي تحبه من دون توقع أن يعطيك شيئاً، وأنت مستأنسٌ بهذا العطاء. تكون قوة العطاء بالحب أكبر بكثير من العطاء للواجب، فاذا اعطيتَ ولدك لأنَّك تحبه، فهو أرقى من أن تعطيه لأنَّه واجب عليك، وهذا ما يتحقق عند الكثير من الأهل، فالفطرة تساعد على هذا السلوك الراقي.