كتاب الإمام الخميني(قده) : الأصالة والتجديد

تكليفنا أن نعمل

تكليفنا أن نعمل

هل يعمل الإنسان لهدفٍ ما بناء على النتيجة التي يرغبها؟ فإن اطمأنَّ إلى النجاح بادر إلى العمل، وإن لم يطمئن لا يبادر إليه؟ وهل المطلوب أن يكون المقياس هو النجاح أو النصر حصراً؟ وهل يمكننا استخلاصُ قاعدةٍ عامَّة لكل أعمالنا؟

مرَّ معنا بأنَّ الأساس هو العمل للحق، فإن كان من مقومات تحقيقه أن تُبذل له التضحيات عندها يصبح العمل واجباً، بصرف النظر عن الربح والخسارة، فإقامة الحق ورفض الظلم ونشر العدل والاحتكام إلى دين الله...مما لا مجال فيها للخنوع وانتظار ضمانة الربح الأكيد، لذا يجب أن يكون السعي متجهاً إلى ما يجب تحقيقه. إنَّ إقامة الحكومة الإسلامية في بلد كإيران مما يجب السعي لتحقيقها، وهذا هو التكليف الشرعي - بناء لفتوى الولي الفقيه - ما يعني وجوب السعي لإقامتها، فإن تحققت تم النجاح، وإن لم تتحقق تأجل النجاح، وفي كلتا الحالتين يكون المؤمنون قد قاموا بتكليفهم، فقد بدأت حركة الإمام الخميني(قده) بشكل بارز مع أحداث المدرسة الفيضية وقتل طلبة العلوم الدينية المنتفضين على الشاه بالآلاف في عام 1963، واستمرت التضحيات وعطاءات الشهداء والمعتقلين إلى أن انتصرت الثورة عام 1979، أي بعد ستة عشر عاماً، وفي كلتا الحالتين قبل الانتصار وبعده، قام المؤمنون بتكليفهم، بل وجب عليهم القيام به، فالتكليف ليس مرتبطاً بالنجاح المادي، التكليف هو مسؤولية الإنسان، أما النصر فهو من عند الله تعالى، والذي قد يتحقق بعمل ما ولا يتحقق بعمل آخر، أو في ظروف دون أخرى، أو في مرحلة دون أخرى، والله أعلم متى يَمنح نصرَهُ للمؤمنين.

قال الإمام الخميني(قده): "فالمهم أن يقوم الإنسان بأداء مسؤوليته بأي منطق كان، حتى لا يُمسي خجلًا أمام وجدانه، وأن الوصول للمقاصد أو عدمه يرتبط بالارادة الالهية وليس تكليفنا"(98).

المهم أن يعرف المؤمنون تكليفهم ليقوموا به، وعندما حدَّد الإمام الخميني(قده) تكليف المؤمنين في إيران بإسقاط الشاه الظالم، أصبح واجباً عليهم أن يبذلوا جهودهم في هذا الاتجاه، سواءً وصلوا إلى هدفهم أم لا، قال الإمام(قده): "أمَّا مواجهة جهاز ظالم يريد تدمير أساس الإسلام والقضاء على علمائه وأساس الوطنية، وقد عرَّض مصالح الإسلام والمسلمين للخطر ودمرها، فهو تكليفٌ شرعي للمسلمين، وعليهم أن يثوروا عليه، ويردعوه عن ذلك، أي: أن يُخرجوه من هذا البلد، وإذا استطاعوا فعليهم أن يعتقلوه ويحاكموه ويسترجعوا منه ما نهبه من أموال الناس، وإذا كان قد ضعيها فإنه يعاقب على كل ظلم ارتكبه.

وهذا تكليفٌ واجب علينا وعلى المسلمين القيام به، وغاية الأمر أننا لو استطعنا تحقيقه، فالحمد لله على قيامنا بالتكليف والوصول إلى الهدف أيضاً، وإذا لم نستطع تحقيقه، فانَّنا قد أدَّينا تكليفنا الشرعي مثلما أنَّنا صلَّينا"(99).

من الطبيعي أن تصاحب التضحياتُ أداء التكليف، ولا يُعقل تحقيق الإنجازات والنصر من دون خوض اللُّجج وبذل المُهَج، ومع ذلك فقد لا يتحقق النصر. لكن، بما أنَّ التكليف واضح، وقد صدر بأمر الولي الفقيه، فلا مبرِّر للتقاعس، وبمشيئة الله تعالى يتم الوصول إلى المقصد، قال الإمام الخميني(قده): "أمَّا التساؤل الاستنكاري عن النتيجة فهو مما لا معنى له هنا، لقد صلَّينا وقُمنا بواجب معارضة الظالم ومواجهته، وحاربنا وجاهدنا هذا الذي أراد تدمير البلد- وقد دمَّره- وسحق كل مصالح المسلمين وأعطى جميع ثرواتهم للكفار، وقد قدَّمنا لذلك الدماء، وأَسَلنا منهم الدماء أيضاً. أجل لقد قمنا بكل هذه الأعمال أداءً لتكليفنا، فإذا وصلنا الهدف، فالحمد لله، وإذا لم نصل، فقد أدَّينا تكليفاً، ولا نرى أي ضير علينا من ذلك، وبمشيئة الله سنصل للمقصد"(100).

وبما أنَّ أداءَ التكليف مقدورٌ عليه، لأنَّه بحسب الاستطاعة، "لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَ وُسْعَهَا"(101)، إذاً على المؤمنين أن ينجزوا عملهم، فها هو أمير المؤمنين علي(ع) يقوم بتكليفه، ويحارب في صفين، ويتحمل المعاناة مع جيشه، ولا يتمكن من إسقاط معاوية ومشروعه. لكنّه قام بما عليه والباقي على الله تعالى.

قال الإمام الخميني(قده): "قلتُ: نحن نقوم بأداء الواجب الشرعي، ولسنا ملزمين أن نتقدَّم، لأنَّنا لا نعلم، ولا قدرة لنا الآن على التقدم، لكنَّنا مكلَّفون، وعلينا أن نؤدِّي تكليفنا، هكذا أدركتُ أن نُنْجز عملَنا.

فإن تقدَّمنا، فقد أدَّينا تكليفنا الشرعي، وبلغنا غايتنا أيضا. وإنْ لم نتقدّم، فقد أدّينا تكليفنا الشرعي، ولم نستطع بلوغ غايتنا، وأمير المؤمنين(ع) لم يستطعْ أيضا، فقد أدَّى تكليفه، ووقفوا في وجهه، وقف أصحابه في وجهه، فما استطاع، وما هذا بشي‏ء. حسناً، نحن نستطيع أن نعمل قدر استطاعتنا"(102). على المرء أن يسعى يمقدار جهده، وليس عليه أن يكون موفَّقاً.

يَطرحُ بعضهم تقديم التنازلات، وتقليل الطموحات، وتعديل الأهداف، بهدف تحقيق إنجازات ملموسة ولو كانت قليلة أو محدودة! وهذا يعني التنازل عن الحق، والاعتراف بالظالم، وإنما تكون مثل هذه التنازلات مبنية على المساهمة في تثبيت دعائم الظلم على حساب الحق لبعض المكتسبات التي لا تستحق ذلك، فالشاه يريد الاعتراف بحكمه، ودعم سيطرته، وإيقاف تحريك الشارع ضده، مقابل تعديل بعض القوانين أو إعطاء مكتسبات محدودة لخط العلماء، وهذا يعني اعتباره مسيطراً نافذاً وقادراً على الإلتفاف من زوايا مختلفة على ما أعطاه، ليحقق مشروعه الذي يربط إيران بالاستكبار وإسرائيل.

ما هو مبرِّر التنازلات؟ هل لأنَّ العدد قليل والإمكانات متواضعة في مقابل أعدادهم وإمكاناتهم، ولا ثقة بالنصر في مثل هذه الحالة!

يحسم الإمام الخميني(قده) الموقف بوجوب أداء التكليف، طالما أنَّ التكليف مطلوبٌ لذاته، تحقَّق النصر أو لم يتحقَّق، فرفضُ الظلم مطلوبٌ لِذاته سواءً انهار الظلم أو استمر، والدعوة إلى الله تعالى مطلوبةٌ لِذاتها سواء استجاب الناس أو لم يستجيبوا...أمَّا التنازلات فتضيِّع الهدف وينحرف أداء التكليف عن مساره، يقول الإمام الخميني(قده): "على المسلمين أن يتحدوا ويواجهوا القوى الكبرى، ولن تستطيع أية قوة عظمى مجابهتهم. إننا الآن بعددنا القليل- نفوسنا 35 مليون نسمة, والحال أنَّ خصومنا عددهم مليار- نحن بعددنا القليل عزمنا على المواجهة ولا نتوقع النصر بالضرورة، إنما نركّز على أداء التكليف. تكليفنا أن نواجه الظلم، وفي باريس حينما كانوا يأتون، قال لي بعض (الناصحين) غير الواعين بحقيقة الأمور أن هذا مستحيل، ما عاد ممكناً، وعلينا أن نجد حلًا مثلًا ونقدم تنازلًا، كنتُ أقول لهم إنَّنا نؤدي تكليفنا، ولا يهمنا النجاح أو عدم النجاح، نحن مكلفون من قبل الله تبارك وتعالى بمواجهة الظلم"(103).

علينا أن نعمل للتكليف ولو لم تتحقق كل أهدافنا، تأسياً بالأنبياء والمعصومين الذين طرحوا أهدافاً كبرى، وسعوا لتحقيقها، لكنَّ إنجازاتهم كانت متواضعة في كثير من الحالات، إلاَّ أنهم قاموا بتكليفهم على أكمل وجه، فهم مأمورون بالتكليف وليس النتائج. فالنبي نوح(ع) دعا قومه إلى الإيمان، وبذل جهوداً كبيرة لهداية قومه، مدة 950 سنة، ثم حمل في السفينة عدداً قليلاً جداً من دون ولده الذي عصى واستكبر، لقد قام بتكليفه ولا يتحمل مسؤولية عدم تحقق كل أهدافه.

قال الإمام الخميني(قده) في بيانه لعلماء الدين: "اننا لم نندم أو نأسف ولو للحظة واحدة من عملنا في الحرب. فهل نسينا أنَّنا حاربنا أداءً للتكليف ولم تكن النتيجة سوى فرع من ذلك، وهنيئاً لأولئك الذين لم يترددوا حتى آخر لحظة. وحينما اقتضت مصلحة الثورة والنظام قبول قرار وقف اطلاق النار، عملنا بواجبنا أيضاً. فهل العمل بالواجب يبعث على القلق؟ هل ينبغي لنا أن نصرِّح بآراء ووجهات نظر خاطئة كي يرضى عنا عدد من الليبراليين البائعين لأنفسهم، مما يدعو حزب الله العزيز للتصور بأن الجمهورية الإسلامية بصدد العدول عن مواقفها!.. إنَّ إشاعة تصور من قبيل أن‏ الجمهورية الإسلامية الإيرانية لم تحقق شيئاً أو أنها لم تكون موفقة في مسيرتها، هل يحقق شيئاً سوى أضعاف النظام وسلب ثقة الناس به؟!. إنَّ تأخُر تحقق كل الأهداف لا يمثل دليلًا على أننا عدلنا عن أهدافنا، إنَّنا جميعاً مكلفون بأداء الواجب وليس النظر إلى النتيجة، فلو أنَّ الأنبياء والمعصومين(ع) كانوا مكلفين بالنتائج في زمانهم ومكانهم، لما كان ينبغي لهم العمل خارج طاقاتهم وقدراتهم والتحدث عن الأهداف العامة طويلة الأمد، التي لم تتحقق عملياً في حياتهم الظاهرة مطلقاً"(103ب).

إذاً واجبنا أداءُ التكليف، فإذا ما أديناه حقَّقنا النتيجة المطلوبة منَّا، وعملنا بتكليفنا، قال الإمام(قده): "لكنَّنا لاينبغي أن نبقى بانتظار تحقق نتيجة قطعية عند أداء تكليفنا، فاذا عرفنا بين يدي الباري تعالى أننا عاملون بالتكليف، فتلك هي النتيجة"(104).