يقبل أعداء الإسلام كل شيء إلاَّ الإسلام، وهم يريدون القضاء عليه، وقد بذلوا جهداً كبيراً بعد القضاء على الخلافة العثمانية في مطلع القرن العشرين، لتشويه تعاليم الإسلام، وشَنُّوا حملة افتراءات واسعة عليه وعلى العاملين له، ليبعدوه كلياً عن مسرح حياة الناس، وكتبوا الكثير من الأضاليل للاساءة الى سمعة الإسلام ونعته بالتخلف والرجعية.
هؤلاء لا يريدون للإسلام أن يعود، وهم ينفرون من التلفظ بإسمه فكيف بمضمونه. ولكنَّ الإمام الخميني(قده) كان جاداً وواضحاً في طرحه للإسلام, لإعادته إلى حياة الناس، كنظام حكمٍ لهم، من خلال الحكومة الإسلامية.
طرح الإمام الخميني(قده) إقامة النظام اسلامي في إيران على أساس: الجمهورية الإسلامية، فالنظامُ إسلاميٌ, والشكلُ جمهوريٌ، وهو بتبنيه الشكل الجمهوري في إدارة إيران، يكون مجدَّداً ومنسجماً مع تطورات الحياة المجتمعية ومتطلبات العصر الحديث.
لعلَّ المرتكز في الأذهان من تجربة المسلمين الطويلة، بدءاً بإقامة أول دولة إسلامية في المدينة المنورة على يد رسول الله(ص)، وانتهاءً بالدولة العثمانية، أنَّ عنوان الحكم في الإسلام ينحصر بالخلافة، التي يترتب عليها هيكلية إدارية محددَّة للدولة. علماً بأنَّه لم يبقَ من الخلافة في حقبات الحكم الإسلامي المختلفة الا عنوانها، فقد اختلفت الهرمية والشكل الإداري والتنظيمي للدولة بشكل كبير بين خليفة وآخر، ودولة إسلامية وأخرى، وكذلك كانت طرق اختيار الخليفة بعد رسول الله(ص) مختلفة، إلى أن جاءت بدعة توريث الخلافة الذي بدأ مع بداية الدولة الأموية، وتكرَّس بعد ذلك مع أطوار الدول الإسلامية المختلفة، أكانت الدولة الاسلامية جامعةً لكل أقطار المسلمين، أم موزَّعة دولاً متفرقة بينهم.
لا يُعتبر شكل الحكم في الإسلام مُنزَّلاً من عند الله تعالى كهيكلية إدارية وتنظيمية في توزيع الصلاحيات والمسؤوليات داخل الدولة، وإنما هو جزء من مساحة الفراغ (الاباحة) التي أباحها الشارع المقدس، ليختار المسلمون ما يناسبهم, بحسب متطلبات الزمان والمكان, ومنها شكل وهيكلية الحكم، على قاعدة أن يكون المضمون إسلامياً، لقوله تعالى: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ"(50)، وقال جلَّ وعلا: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"(51).
فالدولة الإسلامية هي التي تحكم بالإسلام، ويبرز هذا الأمر في دستورها وقوانينها ومتابعاتها التي تلتزم الأحكام الشرعية، فتحلِّل ما أحلَّه الله تعالى، وتحرِّم ما حرَّمه الله تعالى. وهذا ما كان واضحاً جلياً في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية, ففي المادة الأولى: "نظام الحكم في ايران هو جمهوري اسلامي، صوَّت عليه الشعب بأكثرية بلغت 98,2 من مجموع أصوات الناخبين المؤهلين، عبر الاستفتاء العام الذي أُجري في يومي الثلاثين والحادي والثلاثين من شهر مارس/ آذار من عام 1979، الموافق للأول والثاني من شهر جمادى الأولى من سنة 1399هـ، وكانت مشاركته في هذا الاستفتاء من منطلق إيمانه التاريخي العميق بحكومة القرآن الحقَّة والعادلة، وذلك بعد انتصار الثورة الإسلامية المباركة بقيادة المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى الإمام الخميني(ره)"(52).
وفي المادة الثانية: "يرتكز نظام الجمهورية الإسلامية على الإيمان بـ:
1. الله الأحد (لا اله الا الله) واختصاص الحاكمية والتشريع به وضرورة التسليم لأمره.
2. الوحي الإلهي و دوره الأساس في تشريع القوانين وسَنِّها.
3. المعاد ودوره البنَّاء في مسيرة كمال الإنسان إلى الله سبحانه.
4. العدل الإلهي في الخلق والتشريع.
5. الإمامة والقيادة المتواصلة و دورهما الأساسي في استمرارية نهضة الإسلام.
6. كرامة الإنسان ومكانته السامية، وحريَّته ومسؤوليَّته أمام الله، والتي تضمن إرساء دعائم القسط والعدل والاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والوحدة الوطنية عن طريق:
أ- استمرار الاجتهاد الفقهي للفقهاء الجامعين للشروط طبقاً لكتاب الله وسيرة المعصومين(عم).
ب- الاستعانة بالعلوم والفنون والتجارب الإنسانية المتقدمة والسعي الى الإرتقاء بها.
ت- رفض كل أنواع الظلم والتسلط والخضوع والخنوع"(53).
وفي المادة الرابعة: "المعايير الإسلامية هي القاعدة التي تقوم عليها جميع القوانين والتشريعات المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها. وتتقدَّم هذه المادة على جميع مواد الدستور والقوانين والتشريعات الأخرى المطلقة منها والعامَّة، وتحديد ذلك من صلاحيات فقهاء مجلس صيانة الدستور"(54).
ولا تُعتبر دولةً إسلامية تحكم بالإسلام تلك التي تكتفي بأن تكتب في مقدمة دستورها بأنَّ الإسلام دينُ الدولة، أو أنَّ الإسلام أحد مصادر التشريع لديها، ثم تكون أغلب تشريعاتها مخالفة للدين. وأما المصطلح المستخدم اليوم في وصف بعض الدول بأنها إسلامية، فهو يعبِّر عن الدولة التي يسكنها أغلبية ساحقة من المسلمين، ولا علاقة لهذا المصطلح بالحكم بما أنزل الله تعالى، ولا بالدولة الإسلامية بالمعنى الصحيح.
إذاً الدولة الإسلامية هي التي تحكم بالإسلام، فيكون نظامها إسلامياً، أي مضمونها إسلامياً، وبالتالي فإنَّ دستورها وقوانينها وتشريعاتها إسلامية. أما شكل الحكم فقد اختاره الإمام شكلاً جمهورياً، وعرضه على الاستفتاء الشعبي فوافق عليه الناس، وهو بذلك يكون قد اختار أحدث أشكال الحكم المعاصرة، وأكثرها نجاعة بحسب التجربة المعاصرة، لجهة انتخاب الرئيس من الشعب مباشرة، وفصل السلطات الثلاث وصلاحياتها وهي: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وقد ورد في المادة 57 من دستور الجمهورية الإسلامية: "السلطات الحاكمة في الجمهورية الإسلامية في إيران هي: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، وتمارس صلاحياتها تحت إشراف ولي الأمر المطلق، وإمام الأمة، وفقاً للمواد اللاحقة من هذا الدستور، وتعمل السلطات المذكورة مستقلة عن بعضها البعض"(55). واعتماد الانتخاب الشعبي للسلطة التشريعية (مجلس الشورى)، والانتخابات البلدية، ومجلس الخبراء (الذي يختار الولي الفقيه ويحاسبه).
تجلَّى تجديد الإمام الخميني(قده) في اختيار شكل الحكم الجمهوري، ما يدلُّ على سعة إطلاعه على أشكال الحكم المختلفة، ودراسته لتجاربها التنظيمية والإدارية والقانونية، وانتخابه الأفضل والأحدث من بينها. هذا الشكل هو المناسب للحكم الإسلامي في إيران، وهو حكمٌ مشروعٌ باختيار الشعب الإيراني وامضاء الولي الفقيه.
وقد واجه الإمام(قده) تحدياً كبيراً في صياغة نظام الحكم الإسلامي ضمن الشكل الجمهوري، إذ اعتقد الكثيرون بعدم قدرة الإسلام أو الفقيه المسلم والعلماء والنخبة الثقافية على صياغة دستور الجمهورية الإسلامية، فالدساتير الجمهورية كُتبت على قياسات غير إسلامية، وكذلك لم تمر تجربةٌ قريبة أو معاصرة اختارت الإسلام كنظام حكمٍ لها، ولا توجد دساتير وقوانين يمكنها محاكاة متطلبات النظام الإسلامي.
لقد راهن الكثيرون على عدم قدرة الجمهورية الفتية على صياغة دستورٍ معاصر، واعتماد آليات حُكمٍ فعَّالة، بسبب الطرح الإسلامي! لكنَّ رهانهم فشل، فقد نجح الإمام الخميني(قده) بصياغة دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الذي أنجزه مجموعة من العلماء والخبراء في القانون، بتوجيهات ومتابعة مباشرة من الإمام(قده)، وهو بذلك قد واءَمَ بين النظام الإسلامي وشكل الدولة العصرية، وقدَّم النموذج الأصعب الذي يدل على قدرة الإسلام على مواكبة الحياة في كل زمان ومكان، ومع هذا النموذج الإسلامي المعاصر يكون الإمام(قده) قد طرق باب التجديد من أوسع أبوابه وأعظمها شأناً، فأثبت للحداثويين قدرة الإسلام على التفاعل والعطاء.
كما تخطى الإمام(قده) كل التقليديين وحواجزهم المصطنعة، وأولئك الذين غرقوا في عالم المصطلحات، فأسرتهم لفظة الخلافة، مع أنَّها مصطلحٌ بدلالاتٍ وهيكليات خدمت في مراحل قيام الدولة الإسلامية في الزمن الأول، ولا ضير في تغيير المصطلح انسجاماًُ مع متطلبات العصر. فلفظة الخلافة، وآليات عملها، ليست حكماً شرعياً منزلاً، وإنما هي شكلٌ من أشكال الحكم الإسلامي، ومن اعترض على تغيير اللفظ إنما توقف عند الشكل الظاهري، الذي لم يعد قادراً على مواكبة الحياة المعاصرة. أما الجمهورية الإسلامية فهي شكل من أشكال الحكم الإسلامي، استخدمت هيكليات وآليات عمل تلبي الاحتياجات المعاصرة، ومن الضروري اختيار شكل الحكم الذي ينسجم مع الكثافة السكانية وتنوع الدول وتطورات العصر الحديث، مع التأكيد دائماً على الأصالة، فالمضمون الإسلامي للدولة من الثوابت التي لا تقوم الدولة الإسلامية إلاَّ على أساسها، وهذا ما بيَّناه عندما عرضنا مواد الدستور الأولى والثانية والرابعة.