يؤكد الإمام الخميني(قده) على مرونة الاجتهاد، والاستفادة من الأدوات المعرفية والمباني والأصول المساعدة للوصول إلى الحكم الشرعي، وعلى أهمية عنصري الزمان والمكان في الاجتهاد، وإلمام المجتهد بقضايا العصر، وشمولية نظرته إلى القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ففي بيانٍ لعلماء الدين.
يقول: "ولا بد من التذكير، بأن الإشارة إلى جانب من وقائع الثورة والروحانية، لا يعني بأن يتخذ الطلاب وعلماء الدين الأعزاء بعد هذا البيان، مواقف ثورية متشددة، وانما الهدف من ذلك هو العلم والوعي بالسبل التي تساعد في انتخاب مسيرة التحرك ببصيرة وادراك أفضل للمخاطر والكمائن والمطبات.
أمَّا بالنسبة للدروس والبحوث داخل الحوزات، فإني اؤمن بالفقه التقليدي والاجتهاد الجواهري، وأرى عدم جواز التخلف عنه. الاجتهاد بهذا النهج صحيح، ولكن لا يعني هذا أن الفقه الإسلامي يفتقر إلى المرونة، بل إن الزمان والمكان عنصران رئيسيان في الاجتهاد، فمن الممكن أن تجد مسألة كان لها في السابق حكماً، وأنَّ نفسَ المسألة تجد لها حكماً جديداً في ظل العلاقات المتغيرة والحاكمة على السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظامٍ ما. أي أنَّه ومن خلال المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالموضوع الأول، الذي يبدو أنَّه لا يختلف عن السابق، ولكنَّه في الحقيقة أصبح موضوعاً آخر يتطلَّب حكماً جديداً بالضرورة.
ولهذا ينبغي للمجتهد أن يكون محيطاً بقضايا عصره. فالناس والشباب وحتى العامة، لن يقبلوا من المرجع والمجتهد الاعتذار عن إعطاء رأيه في المسائل السياسية .. إنَّ الإحاطة بسُبُل مواجهة التزوير والتضليل للثقافة السائدة في العالم، وامتلاك البصيرة والرؤية الاقتصادية، والاطلاع على كيفية التعامل مع الاقتصاد العالمي، ومعرفة السياسات والموازنات وما يروِّج له السَّاسة، وادراك موقع القطبين الرأسمالي والماركسي ونقاط قوتهما وضعفهما، إذ انهما يحددان في الحقيقة استراتيجية النظام العالمي, إنَّ كل هذا يعتبر من خصائص وسمات المجتهد الجامع .
ولا بدَّ للمجتهد من التحلي بالحنكة والذكاء، وفراسة هداية المجتمع الإسلامي الكبير وحتى غير الإسلامي، ويجب أن يكن مديراً ومدبِّراً حقاً، فضلًا عن اتسامه بالخلوص والتقوى والزهد الذي هو من شأن المجتهد. فالحكومة من وجهة نظر المجتهد الحقيقي تمثل الفلسفة العملية للأحكام الفقهية في الحياة الإنسانية، والحكومة هي تجسيد الجانب العملي للفقه في تعامله مع المعضلات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية .. الفقه هو النظرية الواقعية المتكاملة لإدارة الإنسان من المهد إلى اللحد. فالهدف الأساسي يكمن في كيف يتسنى لنا تطبيق أصول الفقه المُحكَمة في عمل الفرد والمجتمع، وان تكون لدينا إجاباتٌ للمعضلات. وإنَّ أقصى ما يخشاه الاستكبار، هو أن يجد الفقه والاجتهاد الترجمة العملية، والواقع الموضوعي، ويخلق لدى المسلمين القدرة على المواجهة"(4).
نستخلص أهم الصفات التي يتميز بها المجتهد، كما ذكرها الإمام الخميني(قده) كالتالي: المعرفة الواسعة بالفقه، والمعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أحاطت وتحيط بكل مسألة يتم بحثها ماضياً وحاضراً، ليتسنى الاستفادة من اختلاف عنصري الزمان والمكان وأثرهما على المسألة، وامتلاك البصيرة للتعامل مع إستراتيجية النظام العالمي المعاصر الذي اختار الرأسمالية أوالشيوعية، وإعطاء رأيه في المسائل السياسية، وأن تكون الحكومة الإسلامية تجسيداً عملياً لديه للتعامل مع المعضلات المختلفة في المجتمع، بنقل الفقه من النظرية إلى التطبيق. ولا بدَّ للمجتهد من التحلي بالحنكة والذكاء، واتسامه بالخلوص والتقوى والزهد، وأن يكون مديراً ومدبِّراً.
هذا النموذج من الاجتهاد يؤمِّن مواكبة فعَّالة للقضايا المعاصرة، لأنَّه يُخرج الفقه من دائرته النظرية البحتة داخل الحوزات، ويجعله حاملاً لتطورات الزمان، ومواكباً لأسئلته وقضاياه المستحدثة. بل لا يمكن الوصول إلى اجتهادٍ وتجديدٍ معاصرين إن لم يتَّبع المجتهد هذا السبيل، وهذا ما ذكَّر به الإمام الخميني(قده) أعضاء مجلس صيانة الدستور، في أن يراعوا مصلحة النظام عند دراستهم للوائح الانتخابية، وأن لا يجمدوا عند حدود حرفية ما توصلوا إليه في السابق، فمصلحة النظام تتغيَّر وتتبدل بين زمان وآخر، لا بل يجب الاستعداد في المستقبل لمتغيرات تطرأ على بعض الأحكام التي أصدروها اليوم، فالعالم متغيِّر، والشريعةُ مؤهَّلةٌ لإعطاءِ الإجابات إذا ما أحسنَّا الاجتهاد في أحكامها، وإلاَّ أصابنا الجمود والتخلُّف، كما يجب بذل الجهد وعدم التسرع أو الانبهار بالأحداث عند إصدار الأحكام، كي لا نقع في تعارضٍ مع الشريعة.
قال الإمام الخميني(قده): "أتقدَّم بتذكيرٍ أبوي إلى أعضاء مجلس صيانة الدستور الأعزاء، بأن يأخذوا بنظر الاعتبار مصلحة النظام في إشكالاتهم على اللوائح(الانتخابية)، إذ أن إحدى القضايا المهمة للغاية في عالمنا المعاصر الصاخب، تتمثل في دور الزمان والمكان في الاجتهاد ونوعية القرارات. ذلك أنَّ الحكومة تحدِّد الفلسفة العملية للتعامل مع الشرك والكفر والمعضلات الداخلية والخارجية، وأنَّ البحوث التي اعتادها الطلاب في الحوزات في المجال النظري، ليس فقط لن توصل إلى حل مُرْضٍ، وانما تقودنا إلى طريقٍ مسدود يؤدي في الظاهر إلى نقض الدستور. إنكم وفي ذات الوقت الذي ينبغي أن تبذلوا مساعيكم لئلا يحصل تعارض مع الشريعة, ولا قدَّرَ الله تعالى مثل هذا اليوم, يجب أن تحرصوا كل الحرص، لئلا يُتَّهم الإسلام - لا سمح الله - بعدم المقدرة على إدارة العالم، بما فيه من تعقيدات اقتصادية وعسكرية واجتماعية وسياسية"(5).
إنَّه التحدي الحقيقي الذي يتحمل مسؤوليتَه علماءُ الدين، فقابليةُ مواكبة الحياة المعاصرة، واجتراحُ الحلول للمستجدات، موجودةٌ في الشريعة المقدسة، ولكنَّ اجتهاد علماء الدين هو الذي يفتح الطريق أمام الأفكار الإسلامية الجديدة وحلول المشاكل، أو يجمِّد الشريعة في حجرات الحوزات وبطون الكتب. ، يتحدث الإمام الخميني(قده) بوضوحٍ شديد, في بيانه لعلماء الدين، عن أنَّ الاجتهاد المصطلح والمتعارف عليه في الحوزات غير كافٍ لإدارة المجتمع، ما يتطلب حضوراً فاعلاً في الميادين المختلفة وعياً وإدارة، بما يساعد على استيعاب حركة المجتمع ومعالجة احتياجاته الحالية والمستقبلة: "باختصار علينا أن نحرص على تجسيد فقه الإسلام العملي، بعيداً عن الدبلوماسية السائدة في العالم، ومن دون أن نعبأ بالغرب المحتال والشرق المعتدي، وإلاَّ طالما كان الفقه مستوراً في الكتب وصدور العلماء، فإنَّه لن يُلحِق بالناهبين الدوليين أي ضرر، وما لم يكن لعلماء الدين حضورٌ فاعل في كافة القضايا والمعضلات، ليس بوسعهم أن يدركوا بأنَّ الاجتهاد المصطلح غير كافٍ لإدارة المجتمع. وانَّ الحوزات العلمية وعلماء الدين مطالبون دائماً باستيعاب حركة المجتمع والتنبؤ بمتطلباته واحتياجاته المستقبلية، وان يكونوا مهيئين لاتخاذ ردود الفعل المناسبة إزاء الاحداث قبل حدوثها، فمن الممكن أن تتغير الأساليب الرائجة لإدارة أمور المجتمع في السنوات القادمة، وتجد المجتمعات البشرية نفسها بحاجة إلى أفكار إسلامية جديدة لإيجاد حلول لمشكلاتها. ولهذا ينبغي لعلماء الإسلام الكبار ان يفكروا بذلك من الآن"(6).