قال الإمام زين العابدين(ع):
"وأمَّا حق الصغير، فرحمته، وتثقيفه وتعليمه، والعفو عنه، والستر عليه، والرفق به، والمعونة له، والستر على جرائر حداثته فإنه سبب للتوبة، والمداراة له، وترك مماحكته فإنَّ ذلك أدنى لرشده".
كثيراً ما يتعاطى الكبار بتسرع أو لا مبالاة أو قسوة مع الصغار، ولا يلاحظون طبيعة ومتطلبات الولد في المراحل العمرية المختلفة، فيتسببون له بأزمات وعُقد نفسية وآثار تربوية خاطئة.
لخَّص الإمام زين العابدين(ع) حق الصغير بكلمات معدودة مليئة بالمضامين التربوية العميقة، التي تمثل أسس وقواعد العلاقة مع الصغار، في إطار التوازن والتوجيه السليم، وإعطاء الفرص للنمو الطبيعي والهادف، واستثمار إمكانات وطاقات الصغار.
أمَّا قواعد العلاقة مع الصغير لأداء حقه فهي:
1-الرحمة: قال رسول الله(ص):"ارحموا صغاركم"، والرحمةُ عطاءٌ من دون مقابل، بروحية إنسانية فيها الرأفة بالصغير، لضعفه، وحاجته للرعاية الدائمة، ولا تنظر أن تأخذ منه، فلا قدرة عنده ليبادلك بعطاءاتك وأخلاقيتك معه، أنت مدرك لما تفعل وباستطاعتك التحكم بعواطفك ومشاعرك وتصرفاتك، فارحمه.
2- التثقيف والتعليم:الصغير صفحة بيضاء قابلة لتلقي كل ما يُكتب عليها، قال أمير المؤمنين علي (ع) في وصيته لابنه الحسن(ع):"وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لُبك"(77). فإذا تلقى تعليماً سليماً، وثقافة تحمل معلومات ومقدمات صحيحة، يكون بناؤه العلمي مستقيماً، فيتراكم علمه وينمو عقله ثم ينتقل نحو الأفضل، فلينتبه الكبير والمربي إلى ما يتعلمه الصغير، وإلى الرصيد المعرفي الذي يتكوَّن عنده، فالعلم في الصغر كالنقش في الحجر، يصعب تغيير مضمونه بعد ذلك، ويؤثر في وعيه المستقبلي، كما أنَّه يصعب تعويض خسارة هذه المرحلة العمرية، التي تكون فيها ذاكرته قوية، وانشغالاته وهمومه قليلة، وقدرته على الاستيعاب جيدة.
إنَّ كل ما يحيط بالصغير يساهم في تعليمه وتثقيفه، المدرسة والبيت والأصدقاء ووسائل الإعلام والمسجد والكشاف... ورُبَّ كلمات معدودة من كبير في أسلوب التعامل والتوجيه تؤثر في مستقبل هذا الصغير، وعلى الكبار عند اختلاطهم بالصغار، أن يسمعوا أسئلتهم، ويعطوهم الإجابات الصحيحة، وأن لا يصدوا الأولاد عند رغبتهم بالتعرف، كل ذلك في حدود قدراتهم وإمكاناتهم.
3-العفو عنه: عند ارتكابه للأخطاء، ونحن نتوقع أن يُخطئ الصغير، فلا يعقل أن نلاحقه على كل خطأ ونحاسبه عليه، فإنَّه لا بدَّ من العفو عن مقدار من الأخطاء، وهذا ما يساعد على الأخذ بيده. فحتى البر للوالدين لا يتحقق بشكل سليم إلاَّ بتشجيع الولد عليه عملياً، ومساعدته بالعفو عنه، لتزداد محبته لوالديه، وتنمو قابلية إحسانه إليهم. فعن رسول الله(ص):"رحم الله من أعان ولده على برِّه، وهو أن يعفو عن سيئته، ويدعو له فيما بينه وبين الله"(78).
4-الستر عليه: بعدم كشف أخطائه وعيوبه، وعدم محاسبته أمام الناس، كي نُبقي له فرصة التراجع والعودة عن الخطأ، من دون تثبيت انطباع سيّيء عنه عند الآخرين، ومن دون تيئيسه بسبب انكشاف أمره. إننا ندعو الله ستار العيوب أن يستر عيوبنا، وفي دعاء كميل عن أمير المؤمنين علي(ع):"ولا تفضحني بخفي ما اطلعت عليه من سري"(7)، فالأولى أن نستر على الصغير لا أن نفضحه بطريقة أدائنا وذكرنا لأخطائه أمام الآخرين، فالستر عليه جزء من العملية التربوية الناجحة لردعه وتقويم سلوكه.
5-الرفق به: وذلك بلين الجانب، والرأفة، وترك الغلظة في الأفعال والأقوال، سواء أصدر عنه خلاف الأدب أم لم يصدر، فعن الإمام الصادق(ع):"إنَّ لكل شيء قفلاً وقفل الإيمان الرفق"(80). فلا نحمِّل الصغير اكثر من طاقته، ولا نتعامل معه كندٍ لنا، إنَّه ضعيف البنية والإدراك، فعلينا ان نختار طريقة التعامل التي تنسجم مع قدرته ومستواه في كل المجالات، نعلمه برفق، نؤدبه برفق، ونأمره وننهاه برفق، ونكلفه بأعباء تنسجم مع طاقته برفق، ونتصرف معه برفق.
6-المعونة له: فهو يحتاج إلى المساعدة، فتجربته حديثة، ووعيه محدود وقاصر، ولا بدَّ أن نمد له يد العون.
7-الستر على جرائر حداثته فإنَّه سبب للتوبة، لأنَّ لأخطائه آثاراً واضحة، ولا تقدير لديه عما يمكن ان تؤدي إليه بعض تصرفاته من إساءة أو ضرر أو أذية أو إرباك... وهذه كلها جرائر أعماله الناتجة عن حداثة سنة، لكنَّ الستر عليه حافز للتوبة، وتعزيز لرقابة الله في نفسه، وعدم تكرار اخطائه.
8-المداراة له: فلا نتوقع أن يقدِّر الصغير الكبير ويلتزم بالقواعد والآداب، بل على الكبير أن يداري الصغير، ويراعي مشاعره، ويساير متطلباته، ليشدَّه إلى التصرف اللائق والأداء السليم، وبما أننا نفهمه ولا يفهمنا، ونعرف مرحلته ولا يعرف مرحلتنا العمرية، فنحن أقدر على مداراته للتأثير عليه. قال رسول الله(ص):"أمرني ربي بمداراة الناس، كما امرني بأداء الفرائض"(81)، لما لها من آثار في حياة الناس عموماً، وهي أولى مع الصغار.
9- وترك مماحكته: فلا تدخل معه في جدل، هو يقول وأنت تقول، إنَّ مبانيك تختلف عن مبانيه، ووعيك يختلف عن وعيه، فهل تتصور وجود قواسم مشتركة لتصل إلى نتيجة في الحوار؟ يصمم الصغير أحياناً على رأي، ويحمل قناعة راسخة به، ولا تزيده المماحكة إلاَّ تصميماً وعزيمة، وتزيدك إحراجاً وغضباً. لا فائدة من هذا الأسلوب، بل ترك المماحكة يقربه من الرشد والوعي، فيخوض تجربته ويكتشف بنفسه، أو يتأمل بينه وبين نفسه بما سمع من نصائحك وأفكارك فلعلَّها تؤثر على موقفه.
إنَّ هدفنا مراعاة قدرات الصغير الناشئة، ومساعدته باعتماد هذه القواعد لتنميته وتقويمه، وهي مسؤولية الكبار في المجتمع، الذين يتصرفون في أغلب الأحيان من دون مراعاة لخصوصيات ومشاعر الصغار، تحت عنوان أنهم لا يفهمون، أو أنَّ تصرفاتهم هذه لا تؤثر عليهم، وهذا خطأ فادح. يجب مراعاة حق الصغير علينا، وفق القواعد أعلاه، لنؤدي واجبنا تجاهه.