قال الإمام زين العابدين (ع) :
"وأما حقُّ المال فأن لا تأخذه إلا من حِلِّه، ولا تُنفقه إلا في حِلِّه ، ولا تحرفه عن مواضعه، ولا تصرفه عن حقائقه، ولا تجعله إذا كان من الله إلا إليه وسبباً إلى الله، ولا تؤثر به على نفسك من لعلَّه لا يحمدك، وبالحري أن لا يحسن خلافته في تركتك، ولا يعمل فيه بطاعة ربك، فتكون معيناً له على ذلك، وبما أحدث في مالك أحسن نظراً لنفسه فيعمل بطاعة ربه، فيذهب بالغنيمة وتبوء بالإثم والحسرة والندامة مع التبعة ، ولا قوَّة إلاَّ بالله".
ما هي نظرة الإسلام إلى المال ؟ هل هو وسيلة أم غاية ؟وماذا قصد تعالى بقوله"المال والبنون زينة الحياة الدنيا"؟ ما هو الهدف من جمع المال؟ وما هي طريقة جمع المال؟ أسئلة مطروحة للإجابة عليها في هذا الحق.
1- نظرة الإسلام إلى المال.
س: ما هي نظرة الإسلام إلى المال ؟
المال لله، قال تعالى:" وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُم"(1)،فالله مصدر الرزق والعطاء، قال تعالى:" أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"(2)، والناس مستخلفون على هذا المال، فهم أمناء ومسؤولون عنه، قال تعالى:" آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ "(3).
وبما أن المال عطية ورزق من الله تعالى، فعلى الإنسان أن يستخدمه فيما أمر الله به أو أباحه، فهو وسيلة لتوفير الطعام والشراب وتأمين الخدمات ومتطلبات الحياة الإنسانية، وليس هدفاً بحدِّ ذاته، لذا لا يسعى الإنسان لتحصيل المال من أجل المال، بل ليكون مساعداً له في مستلزمات حياته. وحيث وجَّه الإسلام الناس إلى الأهداف السليمة في الحياة، كان من الطبيعي أن ينسجم السعي لتحصيل المال مع هذه الأهداف، وأن ينتج عن السعي مساران: احدهما حلال ويمثِّل الوسائل والطرق المشروعة كالبيع والإجارة والمزارعة والمضاربة والمساقاة والإرث والهدية وغيرها، وثانيهما حرام كالقمار والسرقة وبيع الخمر والمتاجرة بالمخدرات وغيرها.
إنَّ مسؤولية الإنسان أن يسلك مسار الحلال، وأن يعتبر نفسه خليفة الله في أرضه ووكيلاً على المال والرزق الذي حصل عليه، فلا يتصرَّف به خارج دائرة الأوامر والنواهي الإلهية، وإلاَّ كان عاصياً يستحق العقاب.
2- عنوان الحلال.
س- وأما حق المال فأن لا تأخذه إلاَّ من حِلِّه، ولا تنفقه إلا في حِلِّه، فلو تفضلتم بشرحها؟
الحديث عن الحق حديثٌ عن المسار السليم، وإلاَّ فالمال لا يأخذ شيئاَ من الإنسان فهو بتصرفه، وحق المال يعني الطريق الذي يجب أن يسلكه المرء في التعاطي مع المال.
وبما أنَّ للمال جهتين: واحدة للحصول عليه وثانية لصرفه، فقد شمل هاتين الجهتين بالتوجيه والتحديد وفق عنوان يشمل التفاصيل كافة وهو عنوان الحلال،الذي يكون التعرف عليه بالعودة إلى التفاصيل الموجودة في رسائل المراجع في المعاملات خاصة، حيث يتبيَّن تركيز الإسلام على كيفية الحصول على المال وكيفية إنفاقه.
أمَّا كيفية الحصول على المال، فالطرق الشريفة التي تعتمد على الكفاءة ونظافة الكف والربح الحلال والإجارة المشروعة وغيرها تُيسر الثروة بشكل موضوعي، وتجعل تراكمها منطقياً، عندها لا إشكال بتحقق الثروة عن طريق الحلال. فعندما يلتزم الفرد بضوابط البيع الحلال والأجرة الحلال والكسب الحلال والوظيفة الحلال، يكون بذلك قد حدَّد نمطاً وسلوكاً فردياً واجتماعياً لا يقتصر على المال فقط وإنما يؤثر على حياته كلها.
وأمَّا كيفية إنفاقه، فهو لا يملك الحرية الكاملة ليتصرف بماله كيفما يشاء، لأنَّ الإنفاق المحرَّم يستلزم تبعات فردية واجتماعية مفسدة وضارَّة، لذا حرَّم الإسلام إنفاقه في لعب القمار وشراء الخمر والأعمال المحرَّمة والفاسدة وشراء الضمائر والتغرير بالناس، ومن الواضح أن محرمات الإنفاق لحماية الحياة الإنسانية، ومع ارتكابها يخرج عن السلوك المقبول ما يؤدي إلى انحراف عن الاستفادة السليمة، وهو قول الإمام زين العابدين(ع):"ولا تحرفه عن مواضعه"، ولذلك "ولا تصرفه عن حقائقه" كتعبير عن القواعد الثابتة للإنفاق التي هي بمثابة الحقائق التي يشكِّل الخروج عنها انصرافاً عن الحقيقة، بينما أحلَّ الله إنفاقه على المأكل والملبس والمسكن والطباعة والتعليم والتنزه والرياضة والهدايا وغيرها مما يدخل في المتاع الحلال.
فإذا التزم الفرد في عدم الحصول على المال إلاَّ عن طريق الحلال، وعدم إنفاقه إلاَّ في طريق الحلال، يكون بذلك قد أدى كامل حق المال، أمَّا التفاصيل الأخرى فهي بمثابة توضيح وإرشاد إلى عواقب التصرف بالمال في الاتجاه الخاطئ.
3- مسؤوليتك تجاه المال.
س- فلنتابع كلام الإمام زين العابدين(ع):" ولا تجعله إذا كان من الله إلاَّ إليه وسبباً إلى الله، إلى آخر الحديث؟
"ولا تجعله إذا كان من الله إلا إليه"، إنَّه يقول لك:هل المال من الله أم من غيره؟ فإذا كان من الله جلَّ وعلا، فمسؤوليتك أن تجعله في سبيله، وأن تصرفه فيما يرضى عنه. فالمال كلُّه لله، وإذا كنت مؤمناً بهذا الأمر فلا تجعله إلاَّ في الطريق الذي أمرك به الله جلَّ وعلا ليكون سبباً إلى مرضاته.
"ولا تؤثر به على نفسك من لعلَّه لا يحمدك"، فلا تحرم نفسك منه لتؤثر غير المستحق له، ولا تعطه لمن لا يكون أهلاً له، ولا تعتمد على من لا يُخرج الحق الشرعي منه وإنما يأخذه لنفسه فتكون بذلك محروماً من الأجر ومسؤولاً عمَّا فعلت لأن المال لم يُصرف في محلِّه الصحيح، فمن يتصرف بالمال بهذه الطريقة لا يحمدك على ما أعطيته، لأنَّه أساء إليك. فانظر إلى من تؤثره على نفسك من أولادك أو غيرهم، أين يضع هذا المال، وكيف يتصرف به؟
"وبالحري أن لا يُحسن خلافته في تركتك"، فعندما تموت ويحصل الوريث على تركتك، ثم لا يؤدي الحقوق كما كنت تريد، تكون قد حرمت نفسك بينما صرفه في طريق الباطل، فلم يعمل فيه بطاعة الله، وتكون قد أعنته على ذلك، بتوفير المال له وعدم قيامك بما يناسب من أداء حق المال من توجيه ولدك ومراقبته كي لا يصل إلى هذه المرحلة التي تفقد فيها السيطرة عليه، ويتنعم بالمال في حياتك أو بعد مماتك من دون حسيب أو رقيب. فما يفترض أن تراعيه في صرفك المال على أولادك أو من تتحمل مسؤوليتهم، أن تجعله سبباً لاستقامتهم، أو بالحد الأدنى بأن لا يتسلطوا عليه لارتكاب المحرمات، وأن لا تتساهل معهم في ذلك عندما ترى توجههم لاستخدام المال بغير طاعة الله. أمَّا إذا بذلت الجهد ولم تنجح في توجيههم، ومنعتهم من استخدام المال في الطريق الحرام ولم يتعظوا بذلك، فقد قمت بما عليك، وهو بلاء أن تخلفك ذرية أو بعض ذرية منحرفة.
لا تؤخر واجباتك تجاه مالك بدفع الخمس والزكاة وتأدية حقوق الناس، ولا تعتمد على ورثتك فأنت المسؤول، وإنما يكون لعملك قيمة في حياتك، وبعض الأعمال لا فضل لك بها إذا مت وقام غيرك بأدائها إلاَّ برفع المسؤولية عنك، لكنك تحمل وزر التأخير والتقصير. فكيف إذا ابتليت بمن لا يؤدي عنك هذه الواجبات، ويتصرَّف بمالك بما يحقق لذَّاته الدنيوية؟ عندها لا تنفعك الحسرة، فأنت الذي أعنته على ذلك، وبخلت على نفسك ولم تقم بواجباتك تجاه الحقوق الشرعية المتوجبة عليك، وتجاه الناس في حقوقهم عندك.
"وبما أحدث في مالك أحسن نظراً لنفسه فيعمل بطاعة ربه"، وهذه حالة معاكسة للحالة الأولى، حيث يأخذ منك المال بالوراثة أو بعطائك إياه، ويتصرف به في مساره الشرعي، فيصرفه في الحلال، ويؤدي جميع الحقوق الشرعية المتوجبة عليه، ويراعي مسؤوليته في طاعة ربه، فيكون بذلك قد غنم لنفسه بحُسن ما أحدثه في مالك، ولا ينالك من هذا المال ما كان يجب عليك فيه، لأنك أسأت صرف ما ملكت في حياتك، وأحسن ولدك أو وريثك أو من أعطيته المال في صرف ما ملك بسببك في حياته، وبما أن " كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ "(4)، فهو يأخذ أجر المال وتبوء أنت بالإثم وتبعاته وعقابه مع الندامة التي لا تنفع ولا تغيِّر الواقع.
إذاً راقب تصرفك بمالك ليكون نافعاً لك ولمن يأخذه منك، فيكون خيره في حسابك دائماً، ولا تصرفه في غير محله فتبوء بإثمه، ولا تعطه لمن يسيء استخدامه فتحمل من وزر عمله، والكارثة الكبرى أن يكون مالك شراً لك وخيراً لغيرك، فيكون له الغُنم وعليك الغُرم. واعلم أن المال اختبار وامتحان لك في الدنيا، قال تعالى:" الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً "(A)، فلا يغرنك المال فتراه على غير حقيقته وواقعه، إنَّه متاع زائل، تقضي من خلاله بعض حاجاتك ثم تتركه وترحل عن هذه الدنيا، فتبقى آثاره وتبعاته ومسؤولياته عليك. إنَّه زينة مؤقتة، تُغري وتجذب، فانتبه لمخاطر الانخداع والانزلاق، وتعامل مع المال بضوابط الشريعة المقدسة، تنجو في دنياك بحسن الأداء وفي الآخرة بجزيل العطاء والثواب. واعلم "أن خير المال ما أورثك ذُخراً وذِكراً وأكسبك حمداً وأجراً"، كما قال أمير المؤمنين علي(ع)، و"شر الأموال ما لم يُغن عن صاحبه"(5).
4- الخمس فريضة.
س-سماحة الشيخ، ما هو الخمس؟ وما هي دلالاته وأبعاده؟
الخمس عبادة مالية تزكي الأموال، يدفعها المؤمن بنية التقرب من الله تعالى، فيُثاب على فعله ويعاقب على تركه، وهي تساوي 5/1 أو 20٪ مما يجب خمسه، وقد فصَّلت كتب الفقه دائرة وجوبه التي تشمل سبعة أشياء:غنيمة الحرب، المعدن، الكنز، الغوص، الفاضل عن مؤونة السنة له ولعياله، الأرض التي اشتراها الذمي من المسلم، الحلال المختلط بالحرام مع عدم تمييز صاحبه(6).
عند الاطِّلاع على مصرف هذه الفريضة، ندرك الأهداف التي تحققها، ونستفيدها من قوله تعالى:" وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"(7).
الخمس على ستة أسهم: سهم لله تعالى، وسهم للنبي(ص)، وسهم لذوي القربى وهم الأئمة من أهل البيت(عم)، وهذه الثلاثة تندرج فيما اصطلح على تسميته بسهم الإمام المعصوم وهو الآن الإمام المهدي(عج) الذي يملك حق التصرف بالأسهم الثلاثة، وفي غيابه يصرفها الفقيه الذي ينوب عنه في التصدي لأمور المسلمين ويأذن في صرفها في حاجات ومصارف الأمة والمشاريع الإسلامية المختلفة كمساعدة الفقراء وبناء المدارس والأعمال الخيرية والاجتماعية وغيرها. وثلاثة للأيتام والمساكين وأبناء السبيل ممن انتسب بالأب إلى عبد المطلب(8) كما ورد في الروايات التي فصَّلت هذا المعنى، وتندرج هذه الثلاثة تحت عنوان سهم السادة. فيكون الخمس مقسماً إلى قسمين متساويين: سهم الإمام وسهم السادة، حيث يصرف كل سهم في موارده المذكورة أعلاه.
وإذا استعرضنا الشرائح المستفيدة من الخمس، نجدها من أصحاب الحاجات الاجتماعية والنشاطات المتنوعة التي تساهم في إحياء المجتمع. وعلى الرغم من قلة الملتزمين اليوم بأداء هذه الفريضة فإنها تسد ثغرات كبيرة جداً وتُنشئ مشاريع وأعمالاً كثيرة تُغطي مساحة واسعة من متطلبات مجتمعنا، وتحقق تكافلاً اجتماعياً مهماً، ولولاها لبرزت المآسي الاجتماعية الكبيرة ولوقفنا عاجزين أمام الحاجات الملحّة لخدمة الأجيال من المدارس والتبليغ والمستشفيات والمستوصفات والأعمال الخيرية فضلاً عن دعم مقاومة الاحتلال وما يستلزمه من نفقات وأعباء.
فإذا كانت الآثار الإيجابية كبيرة مع هذا المستوى من الالتزام، فكيف سيكون عليه الحال لو التزم الجميع بأداء الخمس؟ عندها يمكننا أن نستعيد الذكريات المجيدة في خلافة أمير المؤمنين علي(ع) الذي كان يكنس بيت مال المسلمين بعد أن يوزع العطايا والتقسيمات على أصحابها، ثم يمتلئ هذا البيت مجدداً ويصرفه في مجالاته أيضاً، فلا يبقى محتاج واحد في بلاد المسلمين، فقد روي عنه(ع):"إن علياً كان يكنس بيت المال كل يوم جمعة ثم ينضحه بالماء، ثم يصلي فيه ركعتين، ثم يقول:تشهدان لي يوم القيامة"(9).
الخمس عبادة وليس ضريبة مفروضة من الدولة، فالمسؤولية تجاهها أمام الله تعالى في يوم القيامة، وعلى كل فرد أن يحسبها بدقة ليُبرئ ذمته ويرفع عنه المسؤولية، ولا تُغني الضرائب المعمول بها اليوم عن هذا الحق، الذي يترتب على الأفراد بشكل أساسي في إطار ما يفضل عنهم من أرباح سنتهم بعد صرف ما يحتاجونه في شؤونهم الفردية والعائلية لسنة كاملة.
5-كيفية الكسب.
س- لماذا وضع الإسلام قيوداً على تحصيل المال؟
إن طريقة تحصيل المال تؤثر على بنية المجتمع الثقافية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية، فالإنسان لا يتأثر بعامل واحد في حياته، وإنما تتظافر العوامل مع بعضها لتُنتج سلوكاً في حياته، فبحسب موارد تحصيل المال تتأسس البُنى الثقافية والاجتماعية في المجتمع.
ولتقريب الفكرة نضرب مثالاً عن القمار، فالسعي لتحصيل المال عن طريقه يؤدي إلى نتائج عدة أبرزها:
1- حصول البعض على أموال طائلة من دون تعب، ومن ثمار جهود الآخرين الذين تعبوا لتحصيلها، ما يولِّد ثروات غير مسؤولة وأحقاداً بين الناس.
2-خسارة البعض لأموالهم بلحظات بسيطة من دون مسوِّغ منطقي باستثناء نزوة تسلية عابرة أو رغبة في ربح سريع.
3- افتقار بعض العوائل رغم حاجتها، لانصراف الزوج أو الأب عن القيام بمسؤوليته تجاه أسرته لتعلقه بلعب القمار، وهذا يؤدي إلى مآسٍ اجتماعية كبيرة.
4-رواج نمط تربوي في المجتمع يرتكز على عدم الاهتمام بالإنتاج المالي الهادئ والهادف، وعدم الاهتمام بالأعمال الصالحة والطريق السليم، ما يولِّد بطالة منحرفة تؤدي بأصحابها لسلوك طرق فاسدة لتحصيل المال، والتعود على نمط منحرف في الحياة.
فالتحريم ينطلق من قطع الطريق أمام الآثار السلبية المحتملة على الفرد والمجتمع، فهي ليست مشكلة اقتصادية أو مالية بحتة، إنما هي مشكلة تربوية ومجتمعية، لا تنحصر آثارها بمن يحصل على المال المحرَّم، بل تعمُّ أفراد المجتمع وتنعكس مباشرة على الأجيال الناشئة التي يغرُّها سلوك الدرب السريع والمحرَّم لتحصيل المال، فتقع في أزمات ومآزق في ريعان شبابها، تشكل عقبات مستقبلية أمامها.
أمَّا ما يمارسه البعض من المتاجرة بأعراض الناس أو ترويج أفلام ومجلات الخلاعة والرذيلة أو بيع المخدرات بأنواعها، فإنَّه يدمِّر بُنية المجتمع، ويجعله رهينة أطماع الرأسماليين المالية، الذين لا يهتمون إلاَّ بزيادة ثرواتهم مهما كانت النتائج.
من هنا كانت المكاسب المحرَّمة من الكبائر التي نهى عنها الإسلام، منها القمار، وأكل السحت(10) كثمن الميتة والخمر، والمسكر، وأجر الزانية، والرشوة على الحكم ولو بالحق، وما أصيب من أعمال الولاة الظلمة، وبيع الأموال المزوَّرة(11)، ومعونة الظالمين في ظلمهم، وعمل السحر، والغش، والتزوير وغيرها.
وقد اعتبر القرآن الكريم الإثم والعدوان والسحت في سياق واحد، قال تعالى:"وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "(12).
عن الإمام الكاظم(ع):"السحت أنواع كثيرة، منها أجور الفواجر، ثمن الخمر والنبيذ المسكر، والربا بعد البيِّنة، فأما الرشا في الحكم فإن ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله(ص)" (13).
6- الثروة المشروعة.
س-هل نرفض وجود الثروة مع أحد؟
لسنا مع رفض الثروة لأحد إذا جاءت عن طريق الحلال، ولسنا مع التربية الحاقدة التي يلجأ إليها البعض لتحريض الفقراء على الأغنياء لمجرد غناهم، فالإسلام لا يمنع الثروة ولا يحدِّد كميتها، وإنما يحدِّد كيفية الحصول عليها، فهو يحدد الكيف ولا يحدد الكم. فطالما حصل الإنسان على المال عن طريق الحلال فماله مشروع، وهو رزقه المقسوم له من الله تعالى، تبقى العبرة في كيفية صرفه.
عن أبي ذر(رض)قال:خرجت ليلة من الليالي فإذا برسول الله(ص) يمشي وحده وليس معه إنسان، فظننت أنَّه يكره أن يمشي معه أحد، فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني، فقال:من هذا؟ قلت: أبو ذر جعلني الله فداك. قال: يا أبا ذر تعال، فمشيت معه ساعة، فقال:"إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلاَّ من أعطاه الله خيراً، فنفخ فيه بيمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل منه خيراً"(14).
وعن أبي جعفر(ع):"إنَّ الله عزَّ وجل يبعث يوم القيامة ناساً من قبورهم مشدودة أيديهم إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يتناولوا بها قيس أنملة، معهم ملائكة يعيِّرونهم تعييراً شديداً، يقولون:هؤلاء الذين منعوا خيراً قليلاً من خير كثير، هؤلاء الذين أعطاهم الله عزَّ وجل فمنعوا حقَّ الله عزَّ وجل في أموالهم"(15).
وعن سدير الصيرفي عن أبي عبد الله(ع) أنَّه قال له:"يا سدير ما كثُر مال رجل قط إلاَّ عظمت الحجة لله عليه، فإن قدرتم أن تدفعوها عن أنفسكم فافعلوا.
فقال له:يا بن رسول الله بماذا؟
قال: بقضاء حوائج إخوانكم من أموالكم"(16).
فالمقياس هو الاستقامة في تحصيل المال، وصرفه في محله الصحيح، وتأدية الواجب تجاهه، بإخراج الحق الشرعي منه. فعن أبان بن تغلب، قال أبو عبد الله(ع):"أترى الله أعطى من أعطى من كرامته عليه، ومنع ما منع من هوان به عليه؟ لا، لكنَّ المال مال الله يضعه عند الرجل ودائع، وجوَّز لهم أن يأكلوا قصداً، ويشربوا قصداً، وينكحوا قصداً، ويركبوا قصداً، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين، ويلموا به شعثهم، فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالاً، ويشرب حلالاً، ويركب حلالاً، وينكح حلالاً، ومن عدا ذلك كان عليه حراماً، ثم قال(ولا تسرفوا إنَّه لا يحب المسرفين(17) (17).
7- الغرور تربية خاطئة.
س-بعض الأشخاص يتكبرون على الناس ويصيبهم الغرور بسبب المال، فكيف نعالج هذه المشكلة؟
إذا امتلك الإنسان بعض المقوِّمات من مال أو موقع او علم أو جمال أو قوة فهو معرَّض للاعتداد بنفسه وللإصابة بالغرور، وهذا أمر تربوي، فبحسب التربية التي نشأ عليها وتقييمه لنعم الله تعالى، يصبح مغروراً إذا ادَّعى القدرة الذاتية، ويكون متواضعاً وطبيعياً إذا أقرَّ بعطاء الله تعالى.
والخطأ الذي يقع فيه البعض هو نسيانهم وإغفالهم لمصدر النعم والقدرات، فمهما امتلك الإنسان من كفاءة وأهلية، فإنها لا تكفي لحصوله على مكاسب الدنيا، بل الكفاءة نفسها من عطاء الله تعالى، وما لم ييسر الله تعالى الرزق له فلا يمكنه الحصول على المال، الذي يُعتبر عطاءً اختبارياً وامتحاناً إلهياً في هذه الحياة الدنيا، وليس تشريفاً أو تكريماً للإنسان، لكنَّه نعمة تستحق الشكر إذ لا يتساوى الناس فيها حتى لو تساووا في المقدمات.
هل تبقى النعمة لصاحبها؟ وهل يضمن زيادتها؟ وهل يأمن الانتكاسات التي يمكن أن يتعرض لها؟ ألم ير أقرانه من الذين تدمَّرت مصالحهم وتراجعت ثرواتهم وخسروا أملاكهم وأموالهم؟ فليتعرَّف على نفسه وعلى قدرتها ليتصرَّف بواقعية وموضوعية.
إنَّ التواضع حماية للنفس الإنسانية، وإقرار بالربوبية بشكل علمي، وتدريب على الاعتراف بالجميل وشكر لله تعالى على نعمه، والذي يؤدي إلى الزيادة والتوفيق:" وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ "(18).
8- مسؤولية الدولة.
س-من هو المسؤول عن الخلل في توزيع الثروات؟
يأتي الخلل في توزيع الثروة من سوء الإدارة والظلم واستغلال الموقع والاتجار بالمحرمات، وتتحمل الدولة مسؤولية كبرى في ذلك لأنَّها ترعى القوانين المنظِّمة للحصول على الثروات من خلال قوانين البيع والشراء والامتلاك والوكالات الحصرية وغيرها، فإذا لم تطبق قاعدة من أين لك هذا؟ فإن اغراءت الثروة المحرَّمة متعددة، حيث تُصيب المسؤولين في السلطة ومواقع الدولة الأساسية بمرض السمسرة والعمالة المالية واستغلال الموقع حيث يجنون الثروات الطائلة عن طريق الحرام، ويعملون لتشريع القوانين التي تلائم أصحاب رؤوس الأموال الكبرى التي تعود بالنفع عليهم أيضاً. ومع عدم وجود الرقابة الفاعلة فإن استغلال أموال الشعب أمر سهل لمن بيده قرار التلزيمات والمناقصات وشراء التجهيزات وغيرها.
ومن الصعب ان تُجمع الثروات في الأغلب الأعم إلاَّ من شُحٍّ أو حرام، وهذا ما يُوجِد خللاً كبيراً بين فئة غنية مترفة وفئة فقيرة معدمة، وبينهما فئة محدودة من متوسطي الحال. ولا يمكن للأفراد أن يعالجوا هذه المشكلة بالنصائح والتوجيهات، لأنها تحتاج إلى معالجة على مستوى إدارة الدولة، وهذا يعود إلى مستوى استقامة المسؤولين فيها ومدى جدِّيتهم في المحاسبة ورعاية شؤون عامة الناس.
لكنَّ هذا لا يدفعنا إلى سلوك مسلك الحرام في مجاراة الآخرين، فإذا كان الشعب عاجزاً عن المحاسبة فإنَّ الرقابة الإلهية لا تتوقف لحظة واحدة، وهي تسجِّل ما يرتكبه الإنسان من محرَّمات، وبطبيعة الحال فإنَّه لا تنفع هذه الرقابة في الدنيا إلاَّ مع من آمن بها، فيستقيم حتى لو انحرف الجميع.
9- الرزق المقسوم.
س-البعض يأتي رزقه من الحرام، ويعتقد بصعوبة حصوله على رزقه من الحلال، فما رأيكم؟
هذه النظرة خاطئة، فمعادلة الرزق تنطلق عندنا من الإيمان بأنَّه من عند الله تعالى:"وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ *فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ "(20)،وهو الذي يقسمه بين عباده، "قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ"(21)، وهو جزء من الاختبار الإلهي ، يمنح من يشاء من عطائه ليختبره به، ويحرم من يشاء من عطائه ليمتحن صبره وثباته.
فالرزق مقسوم لا يبدِّله سلوك طريق الحلال أو طريق الحرام، بمعنى أنَّ حصة الإنسان من هذه الدنيا له، فلو اجتمع العالم ليسلبه إياها لما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولو بذل جهوداً استثنائية وقام بمحاولات مضنية لما تمكن من الحصول إلاَّ على رزقه المقسوم. وبما أنَّه عطاء إلهي للاختبار فلا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون، وهذا جزء من التفاوت الاجتماعي الذي يساعد على تكامل الحياة من خلال حاجة الناس بعضهم إلى بعض.
عندما نطَّلع على حياة شخصين يمتلكان المواصفات نفسها في العمر والشهادة والكفاءة، فنجد الأول قد تيسرت له فرصة نادرة فجمع ثروة مهمة في وقت قصير، ونجد الثاني متعثراً لا يقوى على تجاوز قوت يومه على الرغم من الجهود التي يبذلها في عمله، فإنَّه لا تفسير لهذا الاختلاف في النتائج مع تشابه المقدمات إلاَّ الرزق المقسوم.
أمَّا أن يعتقد البعض بحصوله على الثروة بسبب الحرام، وأنَّه لو بقي في طريق الحلال لما حصل عليها، أو أنَّه انتظر طريق الحلال طويلاً فلم يتوفق وبمجرد أن قرر سلوك طريق الحرام انفتحت أمامه أبواب الثروة، فهذا التباس واضح. لأن الأول سيحصل على هذه الثروة فهي رزقه، لكنَّه اختار طريق الحرام من البداية ولو سلك طريق الحلال لحصل على الثروة نفسها، أمَّا الثاني فقد حصل على رزقه عن طريق الحرام، ولو صبر لحصل عليه عن طريق الحلال، فاعتقاده بأنَّه صبر كثيراً ولم ينجح إلاَّ عن طريق الحرام، يرد عليه بأنَّه لو صبر قليلاً لوصل إلى مرامه عن طريق الحلال.
10- المكانة للعمل.
س-ألا يُقيَّم الناس في المجتمع على أساس إمكاناتهم المالية؟
قال أمير المؤمنين علي(ع):"قيمة كل امرئ ما يحسنه"(22). فالمال لا يزيد من قيمة الإنسان، والمركز لا يرفع من مكانته، إنما العمل الصالح هو الذي يزيد من قيمته ويرفعه بين الناس بشكل واقعي. وعندما ينبهر البعض بأصحاب رؤوس الأموال، ويتحسَّرون لعدم امتلاكهم ما يحوزون عليه، فهي تربية خاطئة تؤثر على صاحبها، وتجعله يختنق بحسرته وحسده ونظرته إلى ما عند الآخرين، وفي هذا يقول تعالى:" وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً"(23). فمن أراد زيادة أو ثروة أو حاجة فليسأل الله من فضله، وليقم بما عليه من جهود وسعي، وليكن مستعداً للرضى بالنتائج مهما كانت، لأنَّها خارجة عن قدرته، ومن الأفضل أن لا يعيش المأزق الذي يولِّد له الأزمات في داخل نفسه إذا لم يحصل على ما يريد، فإنَّه لن يغير من الأمر شيئاً.
كما نبَّهنا الإسلام من معاشرة الأغنياء المترفين، الذين يسرفون فيما ينفقون، ويتباهون بأموالهم، ويعتقدون في أنفسهم قدرة على امتلاك عقول وقلوب الناس، فعن الرسول(ص):"أربع تميت القلب:الذنب على الذنب، وكثرة مناقشة النساء، ومجاراة الأحمق تقول ويقول ولا يرجع إلى خير، ومجالسة الموتى. فقيل له: يا رسول الله وما الموتى؟ قال:كل غني مترف"(25).
واعمل لتكون مالكاً لمالك مهما كان قليلاً، لا أن تكون مملوكاً له، وملكك له بالتعامل معه كوسيلة لحاجاتك في الحياة من دون أن يستأثر بحياتك، أو أن يدفعك للتخلي عن مبادئك من أجل الحصول عليه والمحافظة عليه ، فعن أبي عبد الله(ع):"ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال ولا تحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله عزَّ وجل"(25)، ولنعم ما قيل:ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملكك شيء.
وليكن احترامك للصلاح لا للأموال، وإن طغت الأعراف الاجتماعية في تكريم أصحاب المواقع والأموال، فإنَّها لياقات ظاهرية لا يصح أن تدخل في مضمون تقييمك، وليكن تقييمك للناس على أساس أعمالهم، " وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ "(26).