س - كيف نتعامل مع الولد مع اختلاف نموه وعمره؟
التعامل مع الولد يختلف باختلاف عمره، لأن تكوينه النفسي والعقلي والجسدي يختلف من عمر لآخر، ولأن استعداداته تنمو بشكل تدريجي لتشكل خصوصية ترتبط بكل مرحلة عمرية لها أساليبها الخاصة في التعامل.
أ- فالطفل إلى سبع سنوات تنمو قدراته ببطء، وتتركز معالم قدراته الأولية، ويتعامل مع المحيط كساحة لعب وتسلية، ولا يدرك معنى المسؤولية بدقة. إن الاستجابة لمتطلباته وعدم تحميله ما لا يطيق، يساهم في تنميته ليعيش طفولته بشكل سليم، فالضوابط والأوامر خفيفة ومحدودة، وتمرر له تباعاً دون إثقاله بأعباء كثيرة، والتسامح في هفواته وأخطائه العفوية الطفولية يعتبر أمراً طبيعياً، بل التصابي معه ومجاراته في لعبه جزء لا يتجزأ من العملية التربوية، لربطه بمحبة والديه في أنهما يواكبانه ويهيئان له ما يرغبه، ليتمكنا من الاستفادة من هذا الحب لحسن الإدارة والتوجيه. وعندما يذكر في الحديث:" دع ابنك يلعب سبع سنين" فهو توجيه لخصوصية الولد واهتماماته، دون التخلي عن مسؤولية المتابعة والضبط المناسب. إن حرمان الولد من طفولته يؤدي إلى مجموعة من العُقد التي تصاحبه في شبابه وكامل حياته، وتنعكس على تصرفاته وسلوكه.
إن أكثر تركيز الأهل يكون على الطعام والشراب والصحة، أما التربية فتعتمد على الوضع التقليدي في جملة من الأوامر والنواهي الصارمة والكثيرة التي تحاصر الولد دون أن تأخذ بعين الاعتبار انفعالاته وتأثره. لقد ركز الإسلام على مجموعة من الضوابط للتعامل مع الطفل تؤسس لمستقبل تربوي أفضل، نذكر منها :
1- أهمية الأم ودورها في العملية التربوية، فأمير المؤمنين علي (ع) يقول:"انظروا من تُرضع أولادكم فإن الولد يشبُّ عليه"(1)،فالإرضاع هنا لا يقتصر على اللبن، وإنما يمتد لأخلاقية وسلوك وتربية الأم، بما تعكسه من شخصيتها مع الإرضاع.
2- التصابي مع الولد وكأنه يتعامل مع أبناء جيله، فعن رسول الله (ص):"مَن كان عنده صبي فليتصاب له"(2)،لأن التصابي مدخل إلى محاكاة طفولة الولد، والنفاذ منها للتأثير عليه. وهذا يختلف عن إطلاق العنان لسلوك خاطيء أو تشجيعه للتمرد على كل الضوابط، الذي ينعكس غنجاً ودلالاً يصعب ضبطه لاحقاً.
3- تعزيز العلاقة العاطفية بالحب، وترجمة هذه العلاقة بتقبيل الولد، وتعزيزها بتحقيق رغباته بما يتناسب مع حسن تربيته. روي عن رسول الله(ص) أنه عندما خرج على عثمان بن مظعون ومعه صبي صغير له يلثمه،" قال له : ابنك هذا؟ قال : نعم.قال: أتحبه يا عثمان؟ قال : أي والله يا رسول الله أحبه. قال : أفلا أزيدك له حباً؟ قال: بلى فداك أبي وأمي. قال:إنه من يرضي صبياً له من نسله حتى يرضى ترضَّاه الله يوم القيامة حتى يرضى"(3)، إن هذه المحبة تنعكس رحمة على الأب في يوم القيامة، فعن الإمام الصادق(ع):" إن الله عزَّ وجل ليرحم العبد لشدة حبه لولده"(4)، فالمحبة تُولد مناخاً إيجابياً للتربية الهادفة.
4- الرحمة بالولد، فعوده طري، ويفتقر إلى الإدراك السليم والتجربة، ما يستدعي التعامل معه بلطف ورقة وصدق. قال رسول الله (ص):" أحبوا الصبيان وارحموهم وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم فإنهم لا يدرون إلاَّ أنكم ترزقونهم"(5). إن التوجيه نحو الأساليب الأنفع لا يكون معزولاً عن المضمون السليم لتلقين الولد وتعليمه، إذ" كل مولود يولد على الفطرة إلاَّ أن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"(6)، كما ورد عن رسول الله (ص)، فهو ابن بيئته الثقافية والاجتماعية والأخلاقية والدينية، ويتأثر بالكلمة والحركة والمعاملة وأجواء الأولاد الذين يعاشرهم والمدرسة التي يذهب إليها، وهنا الصعوبة في تهيئة المناخات المناسبة لتربية أفضل يتكامل فيها التعلم واكتساب التجربة وحُسن الأساليب.
ب-أما الفترة العمرية الثانية والحساسة، فهي من سن السابعة إلى الرابعة عشرة، ويدخل فيها النضج الجسدي الذي يؤدي إلى مرحلة المراهقة، وكذلك الاستعدادات الشخصية والنفسية التي تكون مهيأة للتلقي، والتي تتطلب متابعة دقيقة. فالغالب على هذه المرحلة ثلاثة أمور هي: التعليم والتأديب والمتابعة. وهذا ما يبرز في الرواية عن رسول الله (ص):" مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، وأضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين(ع)، وفرقوا بينهم في المضاجع"(7). فالأمر بالصلاة لسبع سنين مع عدم التكليف الشرعي لعدم البلوغ، يستلزم تعليماً لها، وهو طريق للتعويد والألفة مع الصلاة ما يساهم في التأديب والتوجيه، ليأتي الضرب" التأديبي " في العاشرة والذي لا يؤدي إلى الأذية الجسدية مهما كان نوعها، فيكون عاملاً من عوامل التأديب والملاحقة، حتى لا يكون التراخي مقدمة لعدم الإقبال على الصلاة عند التكليف، ثم يُضاف التوجيه الدقيق في التفريق بين الأولاد أثناء النوم، فلا يكونون تحت غطاء واحد وفراش واحد، كإجراء وقائي بسبب بداية التغيرات الجسدية وتأثيرها على العامل الجنسي، ما يُخشى معه الانحراف وسلوك الطريق الخاطئ. فالضوابط في دائرة الإيجاب أو السلب، ومتابعتها باحتياطات قبل أوانها ، هي للتعويد على السلوك الإسلامي المطلوب.
ويتبين لنا ما في هذه المرحلة، ما ورد من عناوين لها وبتعابير مختلفة في الروايات التي تحدثت عن المراحل العمرية المختلفة، نذكر منها :
1- عن رسول الله (ص) : " الولد سيد سبع سنين، وخادم سبع سنين، ووزير سبع سنين، فإن رضيت مكانفته(جعلته في كنفك)لإحدى وعشرين، وإلاَّ فاضرب على كتفه، قد أعذرت إلى الله فيه"(8).
2- وعن رسول الله (ص):"الولد سيد سبع سنين، وعبد سبع سنين،ووزير سبع سنين، فإن رضيت أخلاقه لإحدى وعشرين، وإلاَّ فاضرب على جنبه، فقد أعذرت إلى الله"(9).
3- وعن أمير المؤمنين علي (ع) :" يُرخى الصبي سبعاً، ويؤدب سبعاً، ويُستخدم سبعاً، وينتهي طوله في ثلاث وعشرين، وعقله في خمسة وثلاثين، وما كان بعد ذلك فالتجارب"(10).
4- وعن الإمام الصادق(ع):" دع ابنك يلعب سبع سنين، ويُؤدب سبعاً، والزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح، وإلاَّ فلا خير فيه"(11).
5- وعن الصادق (ع) :" الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلم الكتاب سبع سنين، ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين"(12).
فالولد في هذه المرحلة" عبد وخادم ويؤدب ويتعلم" -كما في الروايات الخمس أعلاه-، وهي إشارات إلى استعداده لتنفيذ الأوامر وتلبية التوجيهات، وإلى ضرورة أن يوجّه ليكون كذلك. فهو عبد وخادم أي يطيع دون رفض، ويؤدب في دائرة الملاحقة والمتابعة ورسم الحدود، ويتعلم لتتكون عنده بنية معلوماتية، تشكل رصيداً لمعلومات أولية سليمة تساعده في الفهم والوعي وحُسن الحكم على الأشياء بشكل سليم، إستناداً إلى هذه المقدمات الصحيحة التي تلقنها وتأسس عليها.
إن هذه المرحلة تتطلب جهداً كبيراً، لأنها مرحلة التأسيس، وتتطلب مواكبة تفصيلية ودقيقة، ولا يكفي فيها الإطار العام. ولا يمكن الاطمئنان فيها لاستقامة الأمور، لأن تقلب شخصية الولد واردة بشدة في هذه المرحلة، ولأن العوامل المؤثرة لا تقتصر على الأهل، وإنما تشمل المدرسة والعائلة والأصدقاء ووسائل الإعلام وكل ما له علاقة بمخاطبة الولد أو الاحتكاك به. لذا يجب الانتباه لكل كلمة أو تصرف، ضمن رقابة مدروسة وغير متسلطة، وبدراسة بعض الظواهر دون اللجوء إلى أساليب منفرة. لكن الطابع التعليمي والتأديبي مع متابعتهما هو الغالب على التعاطي مع الولد في هذا العمر.
وقد أكدَّ الإمام الصادق (ع) هذا المعنى عندما قال:" إنا نأمر صبياننا بالصيام إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم، فإن كان إلى نصف النهار وأكثر من ذلك أو أقل فإذا غلبهم العطش والغرث أفطروا، حتى يتعودوا الصوم ويطيقوه، فمروا صبيانكم إذا كانوا أبناء تسع بما أطاقوا من الصيام، فإذا غلبهم العطش أفطروا"(13).
ج-أما الفترة العمرية الثالثة فهي من سن الرابعة عشرة إلى الواحدة والعشرين، وهي الفترة التي تتكون فيها معالم الشخصية المستقلة، فالولد يجنح إلى الاستقلال وإبداء الرأي والاختيار، ويرغب بأن تؤخذ وجهة نظره بعين الاعتبار، ويكره بأن يُعامل بطريقة طفولية، ويتصرف على أساس أنه صاحب قرار، وأنه يتميز بمجموعة من الصفات الخاصة والمهمة. لذا، نرى بداية المصادمة مع أهله إذا لم ينسجم مع توجيهاتهم، ونزوعه إلى التفاعل مع أصحابه وجوِّه الخاص، واختياره لأنشطة تعبر عن هذا المنحى، ومحاولة تقليده للكبار باللباس أو طريقة الحديث أو الجلوس أو التدخين..
إن التعاطي مع هذا العمر يتطلب شكلاً من المؤاخاة مع الصبي أو البنت، وإشعارهما بخصوصيتهما وبالاعتراف بشخصيتهما ومتطلباتهما. ونلاحظ تركيز الروايات الخمس أعلاه في تربية الولد على هذا الاتجاه. ففي الروايتين الأولى والثانية" ووزير سبع سنين"، والوزير للعون والمشاورة وتحمل المسؤولية، وعندما يكون ولدك وزيراً لك، فذلك يستدعي مناقشته ومحاورته والاستئناس برأيه، لتكون وجهة نظره حاضرة قبل اتخاذ أي قرار، فلا ينفع التسلط والآمرية القاسية فهذا يُوَّلد ردَّة فعل سلبية. وفي الرواية الثالثة" يستخدم سبعاً "، لأن القابليات التي نمت لديه تمكنه من أن يؤدي بعض المهام بنجاح، فبإمكانك أن تحمله مسؤولية ما، وهو قادر على متابعتها وملاحقتها وذلك بحسب سنه وما ينسجم معه.
وفي الرواية الرابعة " ألزمه نفسك سبع سنين "، أي أبقه إلى جانبك كصديق وأخ، وتعامل معه من موقع الندِّية لا الفوقية، وهذا لا يعني قدرته على مواكبة تجربتك كأب أو كأم بالكامل، ولكننا نتحدث عن أسلوب التعاطي الذي يُغلِّب المصاحبة والرفقة، وهو أسلوب مطبوع بالتقدير والنضج والحوار.
وفي الرواية الخامسة " يتعلم الحلال والحرام سبع سنين "، وهذا يختلف عن المرحلة التي سبقتها حيث كان " يتعلم الكتاب سبع سنين" ، فالتعلم في المرحلة السابقة إجمالي وتعبوي وتوجيهي، لكن التعلم في هذه المرحلة تفصيلي وتترتب عليه مسؤولية، فهو تكليف يحدد السلوك ويؤثر على المسار العام للشخصية، ويحدد الاتجاه الذي اختاره هذا الشاب. إنَّ تعلم الحلال والحرام هو تعبير عن اختيار المنهج في الحياة، وهو انتقال من التلقين إلى الاقتناع والالتزام والفهم والتبني للتكاليف الشرعية. والتوجيه لنا أن نهيء له سبل تعلم الحلال والحرام، لا أن نتركه دون معرفة أو توجيه، لأنه إذا لم يطَّلع على مسائل الحلال والحرام فستتكوَّن اختياراته من علمه الالتقاطي الذي يأخذه من هنا وهناك، ويكون تأثره بمن أخذ منه أكثر أو أعجبه واستأنس به، دون أن يكون الاختيار مبنياً على أسس الإيمان والاستقامة والصلاح.
إن الالتزام بهذه المراحل الثلاثة لا يعني تشابه التفاصيل في كل مرحلة خلال سبع سنوات، وإنما بينَّا الإطار العام لكل مرحلة حيث تتفاوت فيها بعض الجزيئات والمتابعات، لكنها تكون محكومة للعنوان العام والقواعد الكلية المذكورة.