ما هو حق الأب في الطاعة ؟
سنقسم هذا البحث إلى عدة فقرات لتسهيل فهم حق الأب، وهو يشمل الصبي والبنت عند الحديث عن الولد أو الابن إلاَّ ما استثني:
أولاً : الفترة المتعلقة بالصغر إلى سن البلوغ، ومن الطبيعي أن يكون حق الطاعة فيها للأب، الذي لا يمكنه إدارة العملية التربوية لهذا الولد إلا بطاعة الولد له، وكذلك تكوين الأسرة في الإسلام وجعل القوامية والإدارة عند الرجل تستلزم أن تكون الطاعة من قبل الأولاد لوالدهم ، قد ذكرت في الحلقة السابقة بأن الأم لها أيضاً حق الطاعة، ضمن إطار تقسيم الأدوار بين الأب والأم، بحيث إنها في إدارتها الداخلية وفي عمليتها التربوية المنسقة مع الأب، لها حق الطاعة من فترة الصغر إلى سن البلوغ .
ثانياً : تجاوز الولد سن البلوغ وأصبح مكلفاً على المستوى الشرعي، ولكنه موجود في داخل البيت، والأب هو المالك والمسؤول والمنفق ورب البيت، فالطاعة من قبل الابن للأب تكون في إطار ودائرة إدارته للمنزل ولطبيعة الأسرة، وتعتبر كل التصرفات التي يقوم بها الولد داخل البيت هي ضمن دائرة ملكية ومسؤولية الأب، وقد ذكرنا أن الأم تدخل هنا في دائرة التفويض من الأب. أما في الأمور الشخصية التي لها علاقة بمستقبل الابن وقراراته العامة، ماذا يريد أن يعمل؟ كيف سيبني مستقبله؟ ماذا سيتعلم؟ فليس للأب أن يفرض على ولده هذه الأمور، لكن على الابن أن يستفيد من النصيحة،وليس واجباً عليه أن يكون مطيعاً لكامل رغبات الأب كما يريد إذا شعر أنها تضر بمستقبله، لأن الولد أصبح مكلفاً ومسؤولاً ويريد أن ينشئ مستقبله. نعم في داخل البيت والأمور المتعلقة بالبيت والإنفاق فهو لا يستطيع التصرف كما يحلو له، لأنه ضمن دائرة ملكية وصلاحية الأب ومسؤوليته، والأب هو الذي يقرر، أمَّا فيما يتعلق بمسؤولية الابن وما لا ينعكس على دائرة سلطة الأب، فمن حقه أن يأخذ القرار المناسب.
ثالثاً: الإحسان وهو مجاراة رغبة والده كما يحب،وفيه أجر كبير طالما أن هذا الأمر لا يؤثر عليه، وينسجم مع قناعاته، أو لا يترتب عليه انعطاف جذري في حياته. فلو واجه الابن أمرين، أحدهما يرغبه كثيراً والثاني أقل رغبة، فالإحسان يكون بمسايرة رغبة الأب. لكن ليس عليه أن يكون مطيعاً في كل أمر، بمعنى أن يلتزم بكل أمر من الأب خارج دائرة صلاحياته في موضوع الإنفاق والإدارة الأسرية.أما في دائرة الإنفاق فالصلاحية للأب وهو المسؤول عن قراره، وقد يمارس ضغطاً في هذا الشأن، فالولد معني بأن يوازن قدرته وأن يقبل معادلة الضغط لاعتبارات يراها من مصلحته، فالطاعة هنا تأخذ شكل المقايضة والتبادلية ولا تأخذ شكل الإلزام.
لنفترض أن الولد اختار اختصاصاً أو سفراً أو منزلاً يرتب نفقات مالية على الأب، يستطيع الأب أن يرفض ، سواء لعدم قناعته أو لعدم قدرته على الالتزام المالي، ولا يقدر الولد أن يلزم أباه، أو أن يعتبره مقصراً في حقه ، فهذا من حق الأب، وليس من حق الولد أن ينزعج ويحمل الأب المسؤولية، لأن القرار مُكلف ولا يستطيع الابن تحمل أعبائه ، ومع رفض الأب يمكنه العدول بما يتناسب مع قدرته. لكن لو افترضنا أن الولد اختار تخصصاً لا يكلف شيئا أو يكلف تكاليف معينة يمكن للابن أن يتحملها، وقال الأب أنا لست راضياً، فهذا لا يصح لأنه خيار الولد وعلى الأب أن يترك مجالاً للولد للاختيار. أمَّا إذا غيّر الولد وجهة نظره مراعاة للأب فهذا يدخل في الإحسان، لكن إذا لم يراع والده وهو مقتنع بما يفعله فلا يكون عاصياً، لأنه ليس في دائرة واجب الطاعة وحق الأب .
رابعاً: التوجيه الذي له علاقة بالإيمان والسلوك هو من حق الأب بعد بلوغ الابن من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن باب متابعة الأسرة لصلاحها . وهو عندما يمارس بعض الضغوطات المالية والعملية وأساليب الترغيب والترهيب يقوم بدوره ومسؤوليته، عندها تكون طاعة الولد منسجمة مع السياق العام المطلوب من كل إنسان. أما لو كان الأب منحرفاً وأراد توجيه ولده في هذا الاتجاه، أو شجعه على المعصية، أو منعه من سلوك طريق طاعة الله، عندها يحق للولد أن يرفض هذا التوجيه ولا يلتزم بطاعة والده في هذا الشأن بالأسلوب اللائق المحترم لموقع الأبوة، وهذا ينطبق على الأم أيضاً "وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ ..."(3).
خامساً: الزواج، وهو بالأصل اختيار وموافقة الولد ذكراً كان أم أنثى، لكن الإسلام أعطى صلاحية للولي وهو الأب أو الجد للأب بالنسبة للبنت البكر، فاشترط موافقة الولي إضافة إلى موافقتها، على قاعدة حماية البنت وتوفير المشورة المناسبة لها. إلا إن الأب لا يستطيع استخدام هذه الصلاحية عشوائياً بحيث يرفض بلا مبرر مقنع أو يدعي عدم استئناسه بهذا الزواج أو لا يرغب بهذه العائلة مع توفر كل الشروط الشرعية المطلوبة في الزواج من الإيمان وقدرة الإنفاق. لأن الرفض في هذه الحالة خارج السياق المسؤول عنه شرعاً، فإذا كانت البنت مقتنعة مع توفر الشروط الشرعية في العريس، عندها تسقط موافقته وتكفي موافقتها، بل في حالات معينة إذا شعرت أنها قد ترتكب حراماً إذا لم تتزوج، ولم يقدِّر الوالد هذا الأمر، فمن حقها الزواج مع عدم موافقته خشية الوقوع في الحرام، كما تغني موافقة الجد عن موافقة الأب في كل الحالات. أما الثيِّب أي غير البكر فلا تحتاج إلى إذن والدها إذ لا حق له عليها .
وكذا لا حق للأب في قرار زواج ابنه الصبي، فموافقة الابن تكفي. لكن نعود مجدداً إلى الإحسان لتكون مراعاة موافقة الأب من هذا الباب، ولحسن استمرار الروابط الأسرية . أما مع توفر الضوابط واتخاذ كل طرف سواء أكان أباً أو صبياً أو بنتاً لموقفه استناداً إلى صلاحياته الشرعية، فعلى الجميع التسليم والقبول إذا أرادوا أن يكونوا في دائرة الطاعة لله تعالى والالتزام الشرعي .