كيف يمكننا إجمال المعاناة التي ذكر مفرداتها الإمام زين العابدين (ع) لنصل إلى قوله:" فتشكرها على قدر ذلك ولا تقدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه "وما هي موقعية كل من الأم والإبن بالنسبة للآخر؟
لو استعرضنا ما تقدمه الأم لولدها من وقت بداية الحمل إلى نهايته ثم ولادته وإرضاعه ورعايته وهو طفل حتى سن كبيرة ، سنجد أن مستوى العطاء نموذجي ، فهو تضحية متواصلة كل ليلة بليلة وكل لحظة بلحظة ، بعض الأمهات لا ينمن الليل بسبب طبيعة ولدهن ، خاصة إذا كان عنده بعض المعاناة في جسده أو في معدته ،بل تكفي الأشهر التسعة للحمل فهي تعبير عن عناء استثنائي وكبير ،وفي هذا يقول تعالى:" وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ ".(2) أنظر لهذا المستوى من التعب والعناء وفي كل لحظة من اللحظات ، ماذا يمكن أن يفعل الولد مع أمه طوال حياته ؟ يمكن أن ينفق عليها وأن يحترمها ببعض اللياقات ، ويتواصل معها ، لكن لو جمعنا كل هذه العطاءات مهما بلغ مستواها، لا يمكن أن تحاكي شعور جسدها وأنينه وتعبه وألمه.إن الإبن يعطي أمه من الخارج مع الحنان ، بينما تعطي الأم من الداخل ،من قلبها وعقلها وجسدها ، هي جزء لا يتجزأ من معاناة الولد بينما هو ليس جزءاً لا يتجزأ من معاناتها . قد تكون مريضة ويتأثر عليها ،لكن لا يتأثر جسده ،أما هي فحملته وهناً على وهناً وهذا مستوى عال من تأثر كل الجسد .
وفي هذا يعبر الإمام زين العابدين (ع) بقوله :" وأنها وقتك (حمتك) بسمعها وبصرها ويدها ورجلها وشعرها وبشرها وجميع جوارحها " أي لم تبق قطعة من الجسد إلا وساهمت في حمايتك ورعايتك . إنك في داخلها قبل الولادة " وكان بطنها لك وعاء" ، وتحضنك باحتواء لك بعد الولادة " وحجرها لك حواء " ، وتسقيك الحليب من ثديها وهو خلاصة غذاء جسدها " وثديها لك سقاء" ، وتحميك بنفسها من أي عارض " ونفسها لك وقاء ".
بل أكثر من هذا فقد آثرتك على نفسها ، واستبدلتك بها ، وأعطتك ما كان لها ، وتحملت آلاماً كان يمكن أن تتحملها أنت لو لم تتصد لها بدلاً عنك " فرضيت أن تشبع وتجوع هي ، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمأ ، وتظلك (من الشمس والرياح) وتضحي (بالتعرض لها )"، وهي تقدم لك النعيم واللذة والراحة مع تعبها وقلة نومها " وتنعمك ببؤسها، وتلذذك بالنوم بأرقها "، إنها تواجه الحر والبرد لمصلحتك ، فما كان يشكل فائدة لك يسرته، وما كان مضراً لك حمتك منه " تباشر حر الدنيا وبردها لك ودونك ".
مع كل هذه المعاناة فهي مستأنسة مستبشرة بالمولود الجديد ، فرحة بما ستحصل عليه، تتحمل الألم والمكروه والثقل والهم والغم دون أي رفض ، منتظرة للأمر الإلهي في دفع هذا المولود بقدرة الله إلى خارج جسدها ليعيش على هذه الأرض ، حيث تواكبه بعطاءاتها وحنانها وتضحياتها .
لقد رعتك و تريدك أن تبقى حياً مهما كانت وضعيتك، بينما حَمَلتها أنت وتنتظر موتها رأفة بحالها، لأنها عجوز وقد انتهت طموحاتها، وربما كانت تعاني من العجز، فلعل راحتها بموتها.
إن مستوى تحمل الأم لولدها والعناية به يصل إلى أقصى وأفضل الدرجات، بينما عناية الابن هي رد لهذا الجميل ومحاولة للبر بحسب توجيهات الشرائع المقدسة ، إلا أنه لا يرقى الى مستوى ما أعطته الأم في أحسن حالاته .وعندما يذكر الإمام زين العابدين (ع) " فتشكرها على قدر ذلك ولا تقدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه "فهو يختصر تلك الفوارق الحقيقية الموجودة بين عطاءات الأم وعطاءات الإبن ، الذي يحتاج إلى تسديد إلهي ليكون موفقاً،وعليه أن يتذكر دائماً الأوامر الإلهية في الدعوة الى رعاية الأم والاهتمام بها ،ليرد لها بعضاً مما قدمته وما أعطته، فيكون شاكراً وباراً لأمه .