لماذا لم يستعجل سيد الشهداء(ع) مكان وزمان المعركة؟
تحدث الإمام(ع) في مواقع عديدة عن استعداده لتغيير خط سيره باتجاه المدينة أو أي مكان آخر، ما يؤكد خطَّته المبنيَّة على أن تكون المواجهة دفاعية، وأن يستنفد كل الوسع لتجنب أي مسؤولية في فتح المعركة، ففي إجابته على نصيحة زهير بن القين ببدء المعركة، قال:" ما كنت لأبدأهم بقتال".
وقال (ع) لجماعة الحر:"وإن كنتم لمقدمي كارهين، إنصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم".
وقال لهم قبل صلاة الجماعة:"فإن أبيتم إلاَّ الكراهية لنا، والجهل بحقنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم، وقدمت عليَّ رسلكم انصرفت عنكم".
وقال في خطبته الأولى في كربلاء:" أيها الناس إذا كرهتموني، فدعوني انصرف عنكم إلى مأمني من الأرض".
هذا السلوك الحسيني هو التعبير عن الأخلاقية الإسلامية في نزع الذرائع، وتوفير أسباب حقن دماء المسلمين، وإعطاء الفرصة للآخرين حتى يتأملوا ويفكروا بمسؤوليتهم الشرعية وحسابهم عند الله تعالى. إنه سلوك الحنوِّ والعفو وحسن المعاملة في أصعب المواقع. فقد سقى أصحاب الحسين(ع) جند الحر ومن معه من الماء المملوء بالقِرَب وعلى الجمال، بينما منع جيش ابن سعد الماء عن النساء والأطفال في كربلاء. وقد ساعد الإمام(ع) بنفسه علي بن الطعان ليشرب ويسقي فرسه، بينما رمى معسكر يزيد الطفل الرضيع العطشان بسهم قاتل.
إنَّ قمة السمو في الاستعداد للشهادة، مترافقة مع قمة الأخلاق والحلم والتواضع والإنسانية، وهذه هي القوة بعينها. فالظالم المعتدي ضعيف، والمقاتل الحقود على أهله وعشيرته ساقط، والمتسلط المنتهك لحرمات الدين منحرف، أما المؤمن فعفوه عند المقدرة شرف، وعطاؤه لمن حرمه مكرمة، وسماحته في سلوكه قوة.
إنَّ الشهادة تربية على الاستعداد لأقصى العطاء، لكنها آخر خطوة بعد استنفاد كل الجهود، لتكون السلاح الأمضى في المواجهة مع عدم تكافؤ القوى، وهي نتيجة الدفاع المشروع عن الموقف وتحصين الهدف. ويُعتبر النزاع الداخلي أصعب بكثير من مواجهة العدو الخارجي، لأن ملامح المعركة الداخلية ملتبسة على الكثيرين وتقترب من الفتنة في كثير من محطاتها، بينما يُعتبر قتال العدو الخارجي والغاصب والمحتل أمراً واضحاً، لا يتطلب تحليلاً وإثباتاً، بل استعداداً للخطوات العملية بإعداد العدة، واختيار التنفيذ المناسب.
ليس مقبولاً التخلي عن مواجهة الظلم والانحراف بحجة درء الفتنة، فإذا وصل الحد إلى البغي فقاتلوا الفئة التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله. إن المحافظة على سلامة المجتمع الداخلي له الأولوية، وبذل الجهد لإبعاد شبح الفتنة عمل ضروري، لكن لا يمكن تثبيت الانحراف وإعطاؤه المشروعية بغطاء الهروب من الفتنة. فعندما تتضح صورة الحق في مواجهةٍ ضرورية مع الظلم والانحراف والفساد، فالعمل مشروع بضوابط مشددة وعلى رأسها أهلية وشرعية القيادة التي تحسم مثل هذا الخيار الذي يؤدي إلى الشهادة.