معالم للحياة من نهج أمير المؤمنين (ع)

الحلقة السادسة

الحلقة السادسة

أصناف الناس

رحم الله امرءاً تفكر فاعتبر•
أصناف الناس في هذه الحياة تختلف بحسب الجهة التي ننظر من خلالها• إذاً كيف نصنفهم؟ بناء على سعيهم في الحياة الدنيا؟ أم بناء على الفارق بين العالم والجاهل؟ أم بناءً على نظرتهم للدنيا والآخرة؟
هذا البحث تطرق إليه أمير المؤمنين في نهج البلاغة بطريقة رائعة, فبين لنا أصناف الناس وكيفية توزيعهم في هذه الحياة من زوايا متعددة تلتقي عند هدف واحد• وعلى أساس هذا التصنيف نستطيع أن نحدد موقعنا أين نكون• ولنتبين كيف نعمل حتى نكون ممن يرضى الله عنهم• يقول أمير المؤمنين•
الصنف الأول:
»فَالنَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ: مِنْهُمْ مَنْ لاَ يَمْنَعُهُ الْفَسَادَ إِلاَّ مَهَانَةُ نَفْسِهِ, وَكَلاَلَةُ حَدِّهِ, وَنَضِيضُ وَفْرِهِ«•
هذا الصنف من الناس لا يملك القدرة على أن يفسد, لمهانة نفسه وضعف قدرته, وكلالة حَدِّه فالسيف الذي يملكه ضعيف غير قاطع, ولا يقوى على اشهاره أمام الآخرين ليتسلط عليهم, ونضيض وفره أي قلة أمواله فهو لا يستطيع استخدام المال في أي حرام لأنه غير متوفر, لذا فإن عدم إفساده ناشىء عن عدم قدرته• وهذا الصنف من الناس معذور طالما أنه لم يرتكب الفساد, والحساب إنما يكون على العمل•
الصنف الثاني:
»وَمِنْهُمُ الْمُصْلِتُ لِسَيْفِهِ, وَالْمُعْلِنُ بِشَرِّهِ, وَالْمُجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ, قَدْ أَشْرَطَ )هيأ( نَفْسَهُ, وَأَوْبَقَ دِينَهُ, لِحُطَامٍ يَنْتَهِزُهُ, أَوْ مِقْنَبٍ )خيل( يَقُودُهُ, أَوْ مِنْبَرٍ يَفْرَعُه)يلقي عنه كلاماً(, وَلَبَئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً, وَمِمَّا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ عِوَضاً«•
هذا النوع من الناس يشهر سيفه ويعلن شره, يفضل الدنيا على الآخرة, يستفيد من قوته للفساد ومن أجل المعصية والشر وهو يجاهر بذلك• وإذا اعتلى منبراً من المنابر, تحدث بنفاق واضح حتى يجذب الناس إلى الشر, مستخدماً كل امكانياته ومقوماته في خدمة الشر, وآثر الدنيا على الآخرة, بأن تكون ثمناً بديلاً عن عطاء الله تعالى في الآخرة• بمعنى آخر اتخذ قراراً بأن يكون في غير طاعة الله جلّ وعلا•
الصنف الثالث:
»وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ, وَلاَ يَطْلُبُ الآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا, قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ, وَقَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ, وَشَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ, وَزَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلْأَمَانَةِ, وَاتَّخَذَ سَتْرَ اللَّهِ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَعْصِيَّةِ«•
الصنف الثالث من الناس يطلب الدنيا بعمل الآخرة, فيصلي لا طاعة لله وإنما ليراه الناس أنه يصلي حتى يثقوا به• ويصوم حتى يقول الناس عنه بأنه ورع تقي ويلتزمون كلامه وتوجيهاته• يذهب إلى الحج ليصوره الإعلام بمظهر المؤمنين الصالحين• يصلي الجمعة جماعة مع الناس حتى يقال عنه بأنه إنسان قريب من الله•• لكنه في هذا يريد أن يكسب الدنيا, فهذه المظاهر التي يتظاهر بها أمام الناس من صلاة وصوم وحج وغيرها, إنما هي سبيله لتحقيق مكاسب دنيوية وليس مرضاة الله عز وجل•
قد طامن شخصه أي تواضع وتذلل أمام الناس, وقارب من خطوه بسيره بخطى هادئة, كأنه إنسان رؤوف طيب متواضع خاشع لله, حتى يظهر بمظهر يحبه الناس ويستأنسون به, وشمر عن ثوبه خوفاً من النجاسة التي يمكن أن تلحقه في سيره, وزخرف نفسه للأمانة, بالظهور بمظهر الأمين على حقوق الناس, متخذاً ستر الله ذريعة إلى المعصية, لأن الله ستر عليه ولم يفضحه لإعطائه الفرصة وإذ به يستمر بمعصيته, ويعلل ذلك بأنه لو كان مذنباً أو مخطئاً لفضحه الله تعالى, لكنه يعلم أن الله يمهل ولا يهمل, وأن العقاب مؤجل للآخرة•
إن هذا النوع من الناس يستغل أشكال العبادة ومظاهرها الخارجية, التي تدل على الإيمان, من أجل أن يكسب الدنيا•• فإذا دفع اموالاً لبناء مسجد أو حسينية فهو لا يدفعها من أجل أن يعبد الله, وإنما ليؤيده الناس في الانتخابات مثلاً, حيث يصبح مقبولاً عندهم فينتخبوه ليستفيد من مركزه, يدفع للفقراء لا بقناعة أنهم يستحقون المساعدة, بل ليظهر بمظهر الإنسان الجواد الكريم المحترم عند الناس فيأمنوا له• إنه إنسان مخادع غير مؤمن, إنما يستخدم مظاهر الإيمان لمكاسب دنيوية•
الصنف الرابع:
»وَمِنْهُمْ مَنْ أَقْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُلْكِ ضُؤُولَةُ نَفْسِهِ, وَانْقِطَاعُ سَبَبِهِ, فَقَصَرَتْهُ الْحَالُ عَلَى حَالِهِ, فَتَحَلَّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ, وَتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الْزَّهَادَةِ, وَلَيْسَ مِنْ ذلِكَ فِي مَرَاحٍ وَلاَ مَغْدىً«•
هذا الصنف من الناس لم تمكنه ظروف الحياة من أن يحكم أو يتسلط على الناس, فلا حول له ولا قوة بانقطاع سببه• فهو فقير معدم لا امكانات لديه ولا مقومات, لذا فإنه يتحلى بأسمى آيات القناعة لعدم تمكنه من الحصول على شيء, ولو كان بإمكانه أن يحصل على هذه الدنيا بسيئاتها وسلبياتها لما قصر, لكنه لا يستطيع فيحاول إقناع الآخرين بأنه قنوع• والفرق بينه وبين الصنف الأول, أن الصنف الأول لا يرتكب الفساد لعدم تمكنه منه, أما هذا الصنف فإنه زيادة على عدم تمكنه من الفساد يدّعي قناعة وانسانية وأخلاقاً غير موجودة فيه•
ويقول: »فَتَحَلَّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ, وَتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الْزَّهَادَةِ, وَلَيْسَ مِنْ ذلِكَ فِي مَرَاحٍ وَلاَ مَغْدىً«•
يبين للناس أنه زاهد في الدنيا لا يريد منها شيئاً, لكنه عاجز عن أن يحصل على شيء منها فهو مخادع, لم تسنح له ظروف الحياة أن يحصل على شيء وهو مدع لهذه الصورة•
إذاً هذه أصناف أربعة يبينها أمير المؤمنين من الناس الذين يتعرضون لختم حياتهم بالابتعاد عن الايمان وطاعة الله عزَّ وجل•
فالصنف الأول: مستعد للفساد لكن لا امكانية عنده ليفسد•
الصنف الثاني: يستغل الدنيا لارتكاب المحرمات بكل ما أوتي من قوة•
الصنف الثالث: يدعي أنه على الايمان ليخدع الناس حتى يحصل على الدنيا من خلال النفاق مستفيداً من مظاهر الإيمان•
الصنف الرابع: مستعد للفساد لكن لا امكانية عنده ليفسد وهو يدعي الزهد والقناعة•
الصنف الخامس:
هو الصنف الرائع المؤمن والمطلوب منا جميعاً• يقول أمير المؤمنين:
»وَبَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ الْمَرْجِعِ, وَأَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ, فَهُمْ بَيْنَ شَرِيدٍ نَادٍّ, وَخَائِفٍ مَقْمُوع, وَسَاكِتٍ مَكْعُومٍ, وَدَاعٍ مُخْلِصٍ, وَثَكْلاَنَ مُوجَعٍ«•
هذا الصنف من الناس جعلهم ذكر القبر يغضون أبصارهم عن الحرام•• تذكروا الآخرة فتركوا الحرام في الدنيا, أراق دموعهم يوم القيامة طلباً لرحمة الله, فهم بين »شريد ناد« أي هارب من الجماعة الفاسدة إلى الوحدة مع الله, وخائف مقموع من يوم القيامة وعذاب الله تعالى• إلى ساكت ومكعوم لا يتحدث بأي أمرٍ فيه فساد أو غضب لله تعالى, إلى ثكلان موجع حزين يتألم لما يرى في هذه الحياة من كثرة السيئات التي يرتكبها الناس•
الصنف الخامس يمثل الإنسان المؤمن, الذي سلم نفسه لله وعمل في طاعته سبحانه وتعالى•
المعاملة بالسوية:
وفي مجال آخر يتحدث أمير المؤمنين علي ليقدم لنا تصنيفاً آخر للناس على أساس دينهم, بحيث لا يكون عقبة أمام حسن التعامل ورعاية الموقع الإنساني لأفراد المجتمع• فعلى الحاكم أن يتعامل مع الناس بعدل, وبدون تمييز بينهم بسبب دينهم, فالمؤمنون بالرسالات السماوية محترمون لإنسانيتهم• ففي كتاب وجهه إلى واليه على مصر مالك الأشتر)رض( في الاهتمام بالرعية قال: »وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ, فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ, وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ«•
أي, إن لم يكن أخاك في الإسلام, فهو نظير لك وشبيه في الخلق, خلقه الله تعالى فيجب التعامل مع الناس لانسانيتهم بالعدل والسوية•
التصنيف على أساس العلم والجهل:
يصنف أمير المؤمنين الناس على أساس العلم والجهل إلى ثلاثة أصناف فيقول لكميل بن زياد:
»النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ, وَهَمَجٌ رَعَاعٌ, أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ, يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ, لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ, وَلَمْ يَلْجَأُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ«•
العالم الرباني هو العالم المخلص لله في علمه, والمتعلم على سبيل نجاة هو الذي يتعلم من أجل أن يعرف تكليفه الشرعي فينجو يوم القيامة لالتزامه به•
أما الهمج الرعاع فهم المصيبة الكبرى, انهم الحمقى الذين لا مكانة لهم, وهم مشتتون لا يجمعهم جامع, ينعقون مع كل ناعق فيميلون كلما مالت الريح, ليس لديهم قناعات ومواقف ثابتة, يتبعون مصالحهم الذاتية حتى ولو كانت في معصية الله تعالى• لم يستضيئوا بنور العلم فهم جهلة, ولم يلجأوا إلى ركن وثيق ليشكل دعامة لمواقفهم•
ويقول أمير المؤمنين »الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ, وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ«• أي إذا عرفت قدرك فأنت عالم مهما كان علمك قليلاً, فمعرفتك بنفسك تؤهلك للتبصر وللمزيد انطلاقاً من صحة معاطياتك•
قوام الدين
ثم يتحدث الأمير في موعظة له لجابر بن عبد الله الأنصاري مبيناً له قوام الدين فيقول:
»يَا جَابِرُ؛ قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيا بِأَرْبَعَةٍ: عَالِمٍ مُسْتَعْمِلٍ عِلْمَهُ, وَجَاهِلٍ لاَ يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَتَعَلَّمَ, وَجَوَادٍ لاَ يَبْخَلُ بِمَعْرُوفِهِ, وَفَقِيرٍ لاَ يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ«•
وأنت أيها الإنسان إذا كنت في أي موقع من هذه المواقع الأربعة فاجتهد ليكون في مصلحتك:
إذا كنت عالماً فعلِّم•
وإذا كنت جاهلاً فتعلّم•
وإذا كنت غنياً فابذل من مالك•
وإذا كنت فقيراً فتعفف حتى ترضي الله تعالى•
هكذا يمكنك أن تكون في أي موقع من مواقع الحياة, وتربح الدنيا والآخرة• ان الله لا يريدك أن تعتزل هذه الدنيا, لكن أطعه تكن من الصنف الذي يرضى عنه•
»رَحِمَ اللَّهُ امرءاً تَفَكَّرَ فَاعتَبَر«•