استثقال الحق
من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه•
العدل قول وعمل
لا زلنا مع العدل في كلمات أمير المؤمنين من خلال نهج البلاغة•
يذكر أنه في صفين أثنى عليه بعض أصحابه, وكانوا يظنون أنهم بالثناء عليه إنما يكسبون وده• فخطب فيهم ومما قاله: »فَلاَ تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ, فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا, وَفَرَائِضَ لاَ بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا, فَلاَ تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ, وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ )أي الغضب(, وَلاَ تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ )بتصنع التصرفات والكلمات(, وَلاَ تَظُنُّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي, وَلاَ الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي• فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ, أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ, كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ, فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ, أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ«•
يبين أمير المؤمنين كيف يجب أن يتعاطى الإنسان مع الحق وكيف يتعامل مع العدل•• يوجد ارتباط واضح بين القول والعمل• من قال بأنه يحب العدل يجب أن يعمل للعدل•• كثيرون يدّعون بأنهم مع العدل ثم في التطبيق العملي تراهم بعيدين تماماً عن إعطاء حقوق الناس وعن نصرة المظلوم والوقوف بوجه الظالم•• فكيف يكون هؤلاء من العادلين؟
يرسم أمير المؤمنين قاعدة في ذلك بقوله »مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ, أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ, كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ«•
فإذا أردت اختبار إنسان لترى هل هو مع العدل أم ضده؟ هل هو مع الحق أم ضده؟ فواجهه بخطئه عندما يخطىء, فإذا وجدته قد انزعج منك واتخذ موقفاً سلبياً, لمجرد أنك انتقدته وطالبته بحقٍ من حقوق المستضعفين والناس! فاعلم جيداً أن هذا الإنسان لا يؤدي الحق إلى صاحبه بدقة, ويصعب عليه أن يعدل أيضاً• لأن من استثقل الحق أو العدل أن يقال له, كان العمل بهما أثقل عليه•
اعتاد الناس أن يتحدثوا مع الجبابرة, القادة, العظماء والمسؤولين بطريقة فيها الكثير من الرياء والحياء والخداع لأنهم يخشون قول كلمة الحق في محضرهم• والأمير يدعوهم إلى قولها دون رعاية موقعه, ليتوازنوا وينسجموا مع الاستقامة التي يريدهم عليها•
رد الحقوق إلى أصحابها:
في زمن الخليفة عثمان لم تكن بعض الاعطيات والتوزيعات التي أعطيت متناسبة, وذلك بالمقارنة بين الناس وما يستحقونه وما ينسجم مع المساواة بينهم, والعدل يقتضي أن يُسألَ المرء من أين لك هذا؟ وأن يحاسب حتى ولو مرت سنوات على الخطأ•
قال الأمير في خطبة له عمن أخذ من قطائع الخليفة الثالث »وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ وَمُلِكَ بِهِ الإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً, وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ«•
وهذه حكمة أخرى من حكم أمير المؤمنين, فالإنسان إذا ضاق بالعدل فإنه سيضيق بالظلم أكثر• إن من لا يتحمل العدل مهما كان العدل صعباً عليه ومكلفاً له, لن يتحمل الظلم, لأن الظلم أصعب من العدل في أدائه ونتائجه السلبية على حياة الأمة•
أيها الناس اقبلوا العدل فهو أرضى لكم, ولا تنظروا إلى ما تحققوه من مكتسبات آنية تعتقدون أنكم فزتم بها, لأن هذه المكتسبات لن تدوم لكم•• فمن نال شيئاً بالظلم لا بد أن يعود عليه في يوم من الأيام وينعكس سلباً على حياته•• فالجأوا إلى العدل أفضل لكم, ومن رفض العدل في حياته سيجد أن الظلم أصعب• قد يكون المرء ظالماً اليوم ويتمكن من العباد, لكنه سيدفع الثمن في يوم من الأيام أو سيعيش صراع الظلم مع الآخرين, أو ستتغيّر المواقع والظروف لينتفض المظلوم ويسأل عن حقه•• لذا فالأفضل أن يعم العدل بين الناس, عندها تكون الحياة سعيدة مطمئنة•
الحق لا يشترى:
اعتبر مالك الأشتر أن الذي دفع الناس للابتعاد عن طاعة أمير المؤمنين وحقه, ووقوفهم إلى جانب معاوية, هو أن هذا الأخير أغدق الأموال على الرجال فمالوا إليه, فأجابه الإمام جواباً رائعاً يبين فيه كيف يجب أن يتصف الإنسان بالعدل, وان ينصف الناس بإعطاء كل ذي حقٍ حقه, حتى ولو كانت الفئة التي تسير معه فئة قليلة• فمنطق الناس بكثرة العدد, والسير مع التيار للتقوية, ودفع الرشاوى والأموال لربح الرجال ليكونوا مرتزقة هو منطق مرفوض• إن أمير المؤمنين لا يوافق على هذا الاسلوب لأنه اسلوب دنيء رخيص, وغير مبني على إقناع الآخرين, بل عندما يعملون معك فمن أجل أموالك• ما قيمة الحاكم الذي يشتري الناس بأمواله ثم يتركونه إذا تخلى عن دفعها؟! وما قيمة هؤلاء الناس الذين تجذبهم الأموال ولا تجذبهم القناعات أو إحقاق الحق والعمل من أجل نصرة الإنسان؟•
وفي هذا يقول الأمير: »أما ما ذكرت من عملنا وسيرتنا بالعدل فإن الله عز وجل يقول: (ـ پ â « » ( ü ) ! ") وأنا من أن أكون مقصراً أخوف )أكثر خوفاً(, وأما ما ذكرت من بذل الأموال واصطناع الرجال, فإنه لا يسعنا أن نؤتي أمراً من الفيء أكثــــر من حقه )نحن نعطي كل ذي حق حقه( وقد قال الله سبحانه وتعالى وقوله الحق: (ظ ع غ ] گ [ ® ® گ ف ق ك) وقد بعث الله محمداً وحده فكثَّره بعد القلة, وأعز فئته بعد الذلة, وان يرد الله أن يولينا هذا الأمر يذلل لنا صعبه ويسهل لنا حَزْنَه« )خَشِنَه(•
يرسم أمير المؤمنين قاعدة أخرى في العدل: أن نعدل ونعمل بما أمرنا الله تعالى, دون أن نقارن العدل بالضعف أو القوة, إن الفئة القليلة مع العدل وطاعة الله تنتصر عندما تؤاتيها الظروف المناسبة والتسديد الإلهي• وهي لا تسأل عن قلة أو كثرة أو عن مكسب دنيوي زائل, انما همها واحد هو التزامها العدل ورعاية الحق, أما التوفيق والتسديد فهو على الله تعالى•
يجب أن نكون مع العدل ومع القلة المؤمنة الواعية المجاهدة نعمل بما أمر الله, حتى ولو كانت الكثرة مع الظلم لا تعمل بما أمر الله, وإلا فما قيمة الإنسان وارتباطه بربه إن لم يكن عادلاً وعاملاً بالعدل•
العدل مساواة
يربط أمير المؤمنين بين العدل والمساواة بين الناس في كيفية التعاطي والتصرف• جاءه يوماً بعض الناس من العرب وقالوا له: »نحن اشراف العرب, وهناك الموالي والاعاجم والآخرون الذين لا يساووننا حسباً ونسباً فلماذا تساوي بيننا وبينهم؟ أعطنا أكثر مما تعطيهم•
يرد عليهم الأمير: »أَتَأْمُرُونِي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ, وَاللَّهِ مَا أَطُورُ بِهِ )لا أقارب الظلم( مَا سَمَرَ سَمِيرٌ, وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً• لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّه!! أَلاَ وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ, وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الآخِرَةِ, وَيكرُمه فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ«•
الإمام رمز للعدالة لا يظلم, وهو أمين ومؤتمن على مال المسلمين فكيف يخون أمانته بالتمييز في الأعطيات•• وإن الغاية هي الكرامة عند الله والفوز في الآخرة•• لذا كان العادل والمساوي بين الناس•
جاءته امرأتان كانتا قد أخذتا حصتيهما من بيت مال المسلمين بما لهما من حقٍ, فقالت القرشية: أنا قرشية وهذه أعجمية فكيف تعطيني كما تعطيها؟
فقال: »إِنِّي وَالله لاَ أَجِدُ لِبَنِي إِسْمَاعِيل فِي هذَا الفَيء فَضْلٌ عَلَى بَنِي إِسْحَاق«•
إن المساواة بين الناس مطلوبة وعلينا السعي لإحقاق الحق وإقامة العدل• فلا يجوز للإنسان أن يقف متفرجاً أمام الظلم بحجة أن لا علاقة له, يعيش حياته الخاصة ولا يساهم في معالجة شؤون الآخرين•
هذا كلام مرفوض على المستوى الإسلامي, على الإنسان أن يكون نصيراً للحق يقف بكل جرأةٍ وصلابة للدفاع عن المظلوم والمستضعف•
مع الضعيف:
وفي توجيهه لمالك الأشتر)رض( عندما ولاَّه, حدد له كيفية تعاطي الحاكم مع المحكومين•• فطلب منه أن لا يرعب الناس وأن يفسح لهم المجال ليتكلموا معه براحة, ويعبروا عن مكنونات أنفسهم, ويكون حاكماً عادلاً فيهم•• ويستشهد بحديث رسول الله يقول فيه:
»لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ)متردد(«•
فهناك أشخاص يتتعتون في كلامهم خوفاً من الحاكم ومن تأثيره•• على الحاكم والمسؤول أن يسمع كلمة العدل, ويعطي فرصة لمن يريد التعبير دون ضغط نفسي أو عملي, فإذا اكتشف خطأه صححه, وإن كان عادلاً فإن الناس يرون عدله ولن تؤثر عليه كل الاطروحات المغرضة•
إن الإمام علي يعلمنا لنقوم مطالبين بحقوقنا وبالعدالة بين الناس لنحظى برضا الله والحياة الكريمة•
لقد قال أحدهم عن أمير المؤمنين: »قتل في محرابه لشدة عدله«• سلام الله عليه كان عادلاً في كلماته واطروحته وفي عمله وجهاده وكان عادلاً في حكمه•