للنفس خياران: الصلاح والفساد، وأمرها بيد الإنسان:" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا"(309)، لكنَّه بحاجة إلى عون الله دائماً، ولذا يطلب الإمام في الدعاء من الله المدد والتسديد، فإن كانت النفس بحاجة إلى من يخلصها من الوقوع في الهوى والباطل، فالملجأ هو الله، ليأخذ منها ما يفسدها ويبقي لها ما يعينها على الصلاح، بما تختزنه من بقية تساعدها على ذلك فالنفس هالكة إذا تُركت لهواها، إلاَّ أن يعصمها الله من الذنوب بعونه وتسديده فتفوز.
الإنسان بحاجة إلى بقاء خط التواصل مع الله تعالى في كل لحظات حياته، ومتى انقطع هذا الخط لفترة من الزمن في اليوم أو الأسبوع أو الحياة، فإنَّ ازدياد الخطر باتجاه الانحراف والهوى يصبح كبيراً جداً. إنها صلة المحتاج بصاحب العطاء، والفقير بالغني، إنها أشبه بصلة الساقية الصغيرة بالنهر الكبير تستمد منه استمرارية الماء والحياة فيها.
يا عبد الله، كن لجوجاً وملحاحاً في الطلب من خالقك أن يمدك بشكل دائم، فإنَّ اتصالك بمصدر كل عطاء يساعدك بأن تحصل على المدد والعون. أنت لا تدري كيف ومتى يأتيك، وبأي مستوى تحصل عليه، لكنَّه عطاءٌ يعينك ويغنيك. أدعُ الله أن يساعدك على تهذيب نفسك، وتخليصها من وسوسات الشيطان، فأنت واقع في هذه الحياة في اختبار عظيم يلازمك في كل حياتك ما دامت نفسك بين جنبيك، أي ما دمت على قيد الحياة.
في مناجاة الشاكين للإمام زين العابدين(ع) يقول:"إلهي، أشكو إليك نفساً بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، كثيرة العلل، طويلة الأمل، إن مسَّها الشر تجزع، وإن مسها الخير تمنع، ميالة إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو"(310)، ولا خلاص إلاَّ بعون الله ورحمته، قال تعالى:" وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ"(311). هذه هي الخطوة الأولى، أن تعرف ماهية نفسك لتعمل بما يصلحها، وأن تعرف أمراضها ومطالبها لتسلك طريق معالجتها، ولتدرك كيفية تعاطيك معها. إذا عرفت نفسك، فتعال معي لنسلك خطوات الصلاح والإصلاح كما تعلمناها من إسلامنا العظيم، ولنختر أربعة منها:
1- مجاهدة النفس: تعامل مع نفسك بأنها عدو تريد قهره، ولا تركن إليها فتنجرف إلى مطالبها، وقد حذرنا رسول الله(ص) من أنفسنا، فقال(ص):"أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك"(312)، ووجهنا أمير المؤمنين علي(ع) لمجاهدتها كي نملكها ونتحكم بمسارها فلا نكون أسرى لها، قال(ع):"إملكوا أنفسكم بدوام جهادها"(313)، فإذا امتلكتها وتابعت جهادك لهواك، تراكمت انتصاراتك عليه إلى أن تصلح نفسك فيصبح الصلاح ملكة فيها، قال أمير المؤمنين علي(ع):"صلاح النفس مخالفة الهوى"(314).
جاهد نفسك بعدم الاغترار بما يُعرض عليك، واعلم أنه اختبار لمدى تأثير هواك في حسم خياراتك، فهل تكون منساقاً لهواك أم تكون مطيعاً لله ولو كان الأمر شاقاً عليك؟ ولو كانت مخالفة هواك صعبة في بداية الطريق؟ ثق بأنَّك الأقوى عندما تنتصر في جهادك لنفسك.
2- العزوف عن الدنيا: اترك دنيا الحرام، أو محرمات الحياة الدنيا وملذاتها التي تؤدي إلى المعاصي، ففي تركها صلاح نفسك ونجاحها، قال أمير المؤمنين علي(ع):"سبب
صلاح النفس العزوف عن الدنيا"(315)، وقال(ع):"في العزوف عن الدنيا درك النجاح"(316)، وكل حديث عن العزوف عن الدنيا هو حديث عن الدنيا المذمومة التي تحيطها المنكرات، إذ ليس المقصود أن تتخلى عن كل ما في الدنيا، ففيها العمل والمعاش وإنجاب الأولاد وتربيتهم، وإعمار البلاد، ومسؤوليات كثيرة ملقاة على عاتقك، فهي مسرح العمل الصالح للثواب في الآخرة. إنما المقصود أن تنتبه إلى ما يُسقطك فيها، خاصة عندما تتزين لك الأمور فتجذبك إليها، وتريك إياها على غير حقيقتها، قال تعالى:" زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ"(317)، وقال أمير المؤمنين علي(ع):"أفضل الطاعات العزوف عن الملذات"(318). فالعزوف عن الدنيا هو عزوف عن المعاصي، والزينة المضلِّلة، واللذة المحرَّمة، وكل ما يؤدي بالإنسان إلى الفساد والهلاك.
3- القناعة: إعلم أن قدرتك محدودة بما أودعه الله فيك، وأن قدرك قد قسَّم رزقك وعطاياك في هذه الدنيا، فما فائدة أن تمد عينيك إلى رزق غيرك؟ وما ستجني من حسد ما عند الآخرين؟ وما ستضيف إليك إذا سلكت طريق الحرام؟ وهل تستطيع الاستحواذ على كل ما تراه في هذه الدنيا؟! بما أنك مقيد بالقدر والقدرة فعش قانعاً بما قسم الله لك، تصلح نفسك، وتصلح أمورك، وتعش مرتاحاً في انسجامك مع نصيبك المقسوم، قال أمير المؤمنين علي(ع):"أعون شيء على صلاح النفس القناعة"(319). فإذا كان المقسوم قليلاً، خفَّ حسابك في يوم القيامة، قال رسول الله (ص):"اقنع بما أوتيته يخف عليك الحساب"(320).
4- ذم النفس: لا تطمئن إلى نفسك وإلى صلاحك، بل ضع نفسك دائماً في دائرة التهمة بأنَّها مقصِّرة، وأنها تملك إمكانية الرقي أكثر. ولا تغتر بمدح الناس لك، بل خفف من المكانة التي وضعوك فيها كي لا تصاب بالغرور والاعتداد. ولا تقيم نفسك بأنك الأفضل وأنك تجاوزت أي احتمال للانحراف، بل اشكر ربك على ما أنت عليه مستعيناً به لتبقى رقيباً عليها لمصلحة استمرار صلاحها. قال أمير المؤمنين علي(ع):"من ذم نفسه أصلحها، ومن مدح نفسه ذبحها". لقد سقط إبليس من علياء الطاعة إلى مهاوي المعصية باغتراره بنفسه وبطبيعة خلقه عندما رفض السجود لآدم:" قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ"(321). وقد وجَّهنا الإمام زين العابدين(ع) في بداية الدعاء إلى كيفية التعامل مع مدح الناس لأنفسنا بقوله:"ولا ترفعني في الناس درجة إلاَّ حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلاَّ أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها".
فيا عبد الله، نفسك أمانة بين يديك، صلاحها بيدك وفسادها بيدك، إذا ملكت زمامها نجوت، وإذا تركت عقالها هويت. فقد دخل شامي على الإمام الرضا(ع)، بعد أن ذكر له قول الإمام الصادق(ع):انه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، وسأله: فما أمر بين أمرين؟
فقال(ع):وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به وترك ما نُهوا عنه.
فقال له:فهل لله عزَّ وجل مشية وإرادة في ذلك؟
فقال(ع): فأمَّا الطاعات فإرادة الله ومشيته فيها، الأمر بها والرضا لها والمعاونة عليها، وإرادته ومشيته في المعاصي، النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها"(322).