الدنيا التي نعيشها سببٌ للسعادة الأبدية أو الشقاء الأبدي، وذلك عائد لما نختاره فيها، فبأيدينا سعادتنا أو شقاؤنا، وبالتالي فالدنيا ليست منكرة بذاتها كي ننفر منها أو نسعى للتخلص منها، فالمنكر ملذاتها المحرَّمة والتعلق بها وبمغرياتها، وإيثارها على الصلاح والاستقامة.
اسألك يا رب أن تطيل عمري في هذه الدنيا إذا كان عمري مبذولاً لطاعتك، أي إذا التزمت في اختياراتي الدنيوية منهج الصلاح، فهذا لمصلحتي في أن أعيش السعادة الدنيوية بالاستقامة والالتزام بأوامرك ونواهيك، وأن تطيل الفرصة التي تمكنني من زيادة رصيدي من الأعمال الصالحة، طالما أن مساري يراكم المزيد من الحسنات والإيجابيات.
أمَّا إذا كانت حياتي الدنيوية سبباً لارتكاب الآثام والفساد والمحرمات، فاسألك يا رب أن تُنهيها، وأن تقبض روحي لأموت في وقت مبكر، كي لا يكون طول عمري مرتعاً للشيطان، يسرح فيه متى شاء وكيفما شاء، كما تسرح الغنم في مرعاها لتأكل منه ما شاءت ومتى شاءت، وكي لا أُراكم خسائري وسيئاتي في دنياي، التي تنقلب أيضاً سلباً عليَّ عند حسابي في يوم القيامة. فلو انتهت حياتي باكراً، واكتفيت برصيدي السابق، ولم انغمس في الشرور والآثام ، أكون بذلك قد تجنبت مقتك وغضبك، فإنَّه لا طاقة لي على تحمُّل استحكام غضبك عليَّ.
لقد عالج الإمام زين العابدين(ع) نقاطاً جوهرية حول الدنيا ومفهومها، بدعاء زيادة العمر في الطاعة، وإنهاء العمر المسبِّب للمعصية، وبذلك يكون قد اختصر الأسس التي يجب أن نتعامل من خلالها مع الدنيا، والتي يمكن تحليلها وفق التالي:
1- الدنيا محمودة ومذمومة: فهي خلق الله تعالى لنا لنعيش فيها، ولم تكن في يوم من الأيام عقوبة لنا، كما يظن البعض بأنها كذلك، بسبب نزول آدم(ع) من الجنة بأكله من الشجرة التي نهاه الله عنها، فإرادةُ الله أن نعيش على هذه الأرض، للاختبار والامتحان، ثم يحمل كل واحد منا أعماله فيكون مسؤولاً عنها، من دون أن يتحمل أي مسؤولية عن أي إنسان آخر مهما كان قريباً، " وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى"(121)، ولا يتلبسنَّ عليك قوله تعالى" قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ"، فهو وصفٌ لطبيعة الحياة البشرية التي تتجه في بعض خياراتها إلى السلبية والشرور، ومنها العداوة الناشئة عن البغضاء والظلم والتحاسد وغيرها، وهذه صورة من الصور التي تحمل في طياتها الفتنة والاختبار في الدنيا ولا تحمل العقوبة والعذاب فيها، في مقابل صورة الإيمان عن العلاقات الإنسانية الرائعة بين المؤمنين" رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ "(122)، وغيرها من الصور كثير. مع العلم اننا لو استكملنا آية الهبوط إلى الأرض لتوضحت الصورة التي ذكرنا،" قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ"(123)، فالمسؤولية مرتبطة بالاختيار الإنساني في هذه الحياة الأرضية وليس لذلك علاقة بقصة آدم(ع).
عن رسول الله(ص):"منهومان لا يشبعان: منهوم دنيا، ومنهوم علم، فمن اقتصر من الدنيا على ما أحلَّ الله عزَّ وجل سَلِمْ، ومن تناولها في غير حلها هلك، إلاَّ أن يتوب ويراجع، ومن أخذ العلم من أهله وعمل به نجا، ومن أراد به الدنيا فهي حظه"(124).
فالتعاطي مع الدنيا مرتبط بالأهداف التي نريد تحقيقها، لذا كان من دعاء الإمام زين العابدين(ع) في يوم الثلاثاء، ما يطلب فيه الدنيا أو يرفضها بحسب المكاسب أو الخسائر
فيها، قال:"واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والوفاة راحة لي من كل شر"(125). ويمكن تحقيق التوازن الدقيق عندما نسلك طريق الدنيا بهدف الآخرة، فيكون كل ما فيها في خدمة الهدف، ويكون العيش الطويل فيها خيراً وبركة وأعمالاً صالحة، لأن الآخرة حاضرة مع الدنيا في كل لحظة، وهو ما قصده الحديث الشريف المروي عن الإمام الحسن(ع):"إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"(126).
2-طلب الدنيا غير المستنكر: هو الطلب المنسجم مع الخير والفضيلة وطاعة الله تعالى، فقد استنكرت الآية الكريمة الإعراض عمَّا أحلَّ الله للمؤمنين في الدنيا، "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون"(127)، وأكدت أن تناول حلال الدنيا يتحول إلى إثابة على الأعمال الخالصة من الشوائب في يوم القيامة.
إنه أمر الله لنا أن نسير في هذه الأرض، ونأكل من رزقها، ونأخذ نصيبنا منها، قال تعالى :" فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ َ"(128)، وقال رسول الله(ص):"العبادة سبعون جزءاً، أفضلها طلب الحلال"(129).
ولا معنى للخوف من الدنيا وتجنبها طالما أنَّها في الحلال، روي عن أبي جعفر (ع) قوله:"نعم العون الدنيا على الآخرة"(130)، وقال(ع):"من طلب الدنيا استعفافاً عن الناس، وسعياً على أهله، وتعطفاً على جاره، لقي الله عزَّ وجل يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر"(131).
وقد عالج الإمام الصادق(ع) الالتباس في الفهم الخاطئ في طلب الدنيا، فبيَّن للسائل طبيعة طريق الدنيا إلى الآخرة، حيث يتحول طلب الدنيا مع كل ما يأخذه الإنسان منها إلى طلب للآخرة. قال رجل للإمام الصادق(ع):"والله إنَّا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها.
فقال(ع):تحب أن تصنع بها ماذا؟
قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصلِ بها، وأتصدق بها، وأحج واعتمر.
فقال(ع): ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة"(132).
3- الدنيا مسرح عمل: وهي دار فناء، لا يصح العمل للاستقرار فيها لأنَّها غير قابلة لذلك، ولا يصح التمسك بها لأنها غير دائمة، فهي معبر لحياة مؤقتة تمهيداً للحياة الأبدية في الآخرة. وبما أن الفرصة محدودة والعمر قصير، فالنجاح يكون بالاستفادة إلى أقصى الحدود من العمل الصالح والمناسب لهذه الفترة الزمنية المحدودة.
قال أبو عبد الله(ع):" كان فيما وعظ به لقمان ابنه: يا بني، إنَّ الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم، فلم يبق ما جمعوا ، ولم يبق من جمعوا له، وإنما أنت عبدٌ مستأجَر، قد أُمرت بعمل ووُعدت عليه أجراً، فأوفِ عملك واستوفِ أجرتك، ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع أخضر، فأكلت حتى سمُنت، فكان حتفها عند سمنها، ولكن إجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر، جُزت عليها وتركتها، ولم ترجع إليها آخر الدهر"(133).
لكنَّ هذا لا يمنعك من الحصول على نصيبك من الدنيا، لتتزود منها لحاجتك ولآخرتك، فلا تُعرض عن ذلك، طالما أنك تُحسن ولا تفسد،" وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"(134).
4- التعلق بالدنيا انحراف: فإذا تمسك بها الإنسان، وجعلها هدفه النهائي، أقبلَ على ملذاتها المحرَّمة، وخرج عن جادة الصواب، وعاش المرارة في نفسه وحياته، حتى ولو ظن في خطواته أنَّه قد حصل على مبتغاه، فسرعان ما تذهب اللذة في وقتها وتبقى آثارها المدمرة. وصف أمير المؤمنين علي(ع) الدنيا وصفاً معبراً، قال:"ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فُتن، ومن افتقر فيها حزن"(135).
لا تتمسك بالدنيا، ولا تتعلق بملذاتها، ولا تجعلها هدفك، ولا تعش الهيام بها، ولا تتفاعل بحبها، فهي لا تستحق كل ذلك، بل يودي بك حبها إلى الهاوية. قال رسول الله(ص):"حب الدنيا رأس كل خطيئة"(136)، وانتبه فلا تنجرف معها أثناء اختبارك فيها، فعن أمير المؤمنين علي(ع):"حب الدنيا رأس الفتن وأصل المحن"(137).
هذه الدنيا لا تستحق منك أن تطلبها وتلاحقها من أجل الحصول عليها والتمسك بها، قال رسول الله(ص):"من علامات الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وشدة الحرص في طلب الدنيا، والإصرار على الذنب"(138). وبما أن التعب حاصل في دار "أولها عناء، وآخرها فناء"، فليكن لك الربح والكسب، بدلاً من أن تضيع جهودك سدى، وهي نصيحة الإمام موسى الكاظم(ع) لهشام بن الحكم:"يا هشام، إنَّ العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها، فعلم أنها لا تُنال إلاَّ بالمشقة، ونظر إلى الآخرة فعلم أنها لا تُنال إلاَّ بالمشقة، فطلب بالمشقة أبقاهما. يا هشام، إنَّ العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة ومطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت، فيفسد عليه دنياه وآخرته"(139).
5- الدنيا سجن المؤمن: في الحديث الشريف:"الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر". كيف تكون كذلك وهي مسرح للعمل، وفيها قسمٌ محمود، وطلبها في الحلال غير مستنكر، بل حثَّت الأدعية على طلب زيادة العمر فيها في الطاعة؟
إذا رغب المؤمن بالدنيا المحرمة والمذمومة والمصاحبة للملذات والمنكرات أو حدثته نفسه بالاستجابة لها، عاش الصراع في داخل نفسه، بين الإقبال عليها أو رفضها، ومع المعاناة والمكابدة ينتصر على غرائزه وينجح في رفض الحرام، فيكون بذلك كمن أحاط به السجن بحيطان الشهوات وقد صمد في مواجهتها، فهي سجن بشهواتها التي تحاصر المؤمن، وهي جنة الكافر لأنَّها منتهى آماله وطموحاته، وقد وقع في أفخاخها وانجرف معها فعاش متاعها المؤقت غافلاً عن نتائجها، ومن الطبيعي أن لا يرى حقيقتها وهو غارق في ملذاتها.
فإذا أدركنا الفروقات بين الدنيا المحمودة والدنيا المذمومة، أمكننا الاختيار بوضوح، وتحويل الدنيا إلى معبر خير لا تتعقَّد حياتنا بسببه، بل نمارس فيها كدحنا الإنساني للسمو والنجاح، فنأخذ منها حاجاتنا وما أجازه الله لنا فيها، فنكون بذلك قد ربحناها وربحنا الآخرة. فالمتقون فيها كما وصفهم أمير المؤمنين علي(ع):"سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت، وأكلوها بأفضل ما أُكلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون. ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلِّغ والمتجر الرابح"(140).