سبيلك إلى مكارم الأخلاق

أثر النية

أثر النية

"وانتهِ بنيتي إلى أحسن النيَّات، وبعملي إلى احسن الأعمال". النيَّة هي الإرادة الباعثة نحو العمل، وهي التي تعبِّر عن الهدف الحقيقي لأي تصرف يقوم به الإنسان. فقد يصلي المرء طاعة لله تعالى، وقد يصلي رياء للناس ليثقوا به ويصدَّقوا كلامه ويودعوا أموالهم عنده... فالصلاة واحدة في مظهرها الخارجي، لكنَّ مضامينها متعددة، تختلف باختلاف الأشخاص، وبحسب نواياهم. "إنَّ ظاهر صلاة علي بن أبي طالب(ع) وظاهر صلاة المنافق متشابهان في الأجزاء والشرائط والشكل الظاهري، ولكن هذا يعرج بعمله إلى الله، ولصلاته صورة ملكوتية علوية، وذلك يغور في أعماق جهنم، ولصلاته صورة ملكوتية سفلية"(33).

إذا اخترت منهج الإيمان، فلتكن نيتك التقرب إلى الله تعالى، لتوجِّه عملك في الاتجاه الصحيح، وتخلِّصه من شوائب الشرك الخفي، ومع أنَّ التلفظ غير مطلوب في النية للصلاة والصوم وغيرهما من العبادات، فإن استحباب التلفظ للتركيز على اختيارك الحقيقي، لتستجمع فكرك، وتحسم أمرك، وتنطلق في عبادتك لتحقيق الطاعة لله تعالى. انتبه! فالظاهر لا يكفي، بل عليك بالباطن، أي بالدافع والمحرك للعمل، فبعض من سبقك من المسلمين عرَّضوا أنفسهم للخطر، وقاتلوا أعداء الله تعالى، طمعاً بمكاسب الدنيا وليس لإعلاء كلمة الله تعالى، فماذا كانت نتيجة قتالهم الظاهري في سبيل الله.؟

عن علي(ع)، أنَّ رسول الله(ص) أغزى علياً (ع) في سرية، وأمر المسلمين أن ينتدبوا معه في سريته، فقال رجل من الأنصار لأخ له: أغزُ بنا في سرية علي، لعلَّنا نُصيب خادماً أو دابةً أو شيئاً نتبلغ به! فبلغ النبي(ص) قوله، فقال:"إنَّما الأعمال بالنيَّات، ولكل امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله، فقد وقع أجره على الله، ومن غزا يريد عَرَض الدنيا، أو نوى عقالاً، لم يكن له إلاَّ ما نوى"(34).

فلتكن نيَّتك صادقة، لينسجم عملك في نتائجه مع ما صمَّمت عليه، و"المراد بالنيَّة الصادقة، انبعاث القلب نحو الطاعة، غير ملحوظ فيه شيء سوى وجه الله سبحانه"(35)، كما قال الشيخ البهائي(قده). واعمل لتكون نيتك أحسن النيَّات مستعيناً لذلك بالله تعالى، وهذا تمييز عن النية التي تختلط فيها الأمور، أو تصاحبها شبهات تُبعدها عن هدفها الحقيقي، فبما أنَّك تريدها لله تعالى، فلتكن الأحسن، في وضوح الهدف، وصفاء السريرة، والتأمل قبل العمل، وطرد كل دخيل عليها مهما كان بسيطاً، وبالله المستعان.

وبما أن النيَّة بوصلة العمل، وأساس الإقدام عليه، ورد عن رسول الله(ص):"نيَّة المؤمن خيرٌ من عمله، ونيَّة الكافر شرٌ من عمله، وكل عامل يعمل على نيَّته"(36)، خاصة أنَّ السعي قد لا يصل إلى نتائجه، بحيث تكون النية خيراً، لكن لا يوفق المرء لإنجاز ما سعى إليه، من هنا كان الساعي إلى الخير كفاعله. وقد ورد عن الإمام الصادق(ع):"إنَّ العبد لينوي من نهاره أن يصلي بالليل، فتغلبه عينه، فينام، فيثبِّت الله له صلاته، ويكتب نَفَسَه تسبيحاً، ويجعل نومه عليه صدقة"(37).

وليكن عملك على أفضل وجه، ومكتمل الشروط، ومراعٍ للضوابط الشرعية، فالحياة كلها ابتلاء بالأعمال، " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ"(38). وفي تفسير الإمام الصادق(ع) لقوله تعالى:"ليبلوكم أيكم أحسن عملاً"، قال:" ليس يعني أكثركم عملاً، ولكن أصوبكم عملاً. وإنما الإصابة خشية الله، والنية الصادقة، والحسنة. ثم قال: الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلاَّ الله عز وجل، والنيَّة أفضلُ من العمل. ألا وإن النيَّة هي العمل، ثم تلا قوله عزَّ وجل:"وقل كل يعمل على شاكلته"، يعني على نيَّته"(39).

هذا العمل الصائب هو الأحسن، وإنما توزن أعمال الإنسان الصائبة والصحيحة مهما قلَّت، ولا عبرة في أن يكثر الإنسان من الأعمال المبتورة والناقصة والمشكوكة والمفتقرة إلى الشروط الصحيحة. قال رسول الله(ص) عن قوله تعالى:"أيكم أحسن عملاً" أتمكم عقلاً، وأشدكم لله خوفاً، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظراً، وإن كان أقل تطوعاً"(40).

وحذار من أعمال تشتبه عليك، ودقق جيداً قبل أن تُقدم على أي أمر، فقيمة كل امرئ ما يحسنه، وقيمة كل عمل بصوابيته، ولا يغرَّنك شكل العمل لتدافع عنه جهلاً من دون التأكد من سلامته، فالعبرة بالصحة لا بالعمل نفسه، قال تعالى:" قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً"(41).

هل لاحظت مما مرَّ من الدعاء آفاق المطالب؟ إنَّها في أعلى وأفضل صفاتها فالمطلوب: أكمل الإيمان، وأفضل اليقين، وأحسن النيَّات، وأحسن الأعمال، وهكذا في كل ما يأتي في تتمة دعاء مكارم الأخلاق. إنَّه توجيهٌ للنظر نحو الكمال، وتوفير الاستعدادات اللازمة للوصول إليه، والاستعانة بالله تعالى للتمكين من مجاهدة النفس لمواجهة المغريات المختلفة.

أيها العزيز. فطرتك مؤهلة لذلك، ونعمة الإسلام بين يديك في توجيهاته، وقدوة النبي(ص) وآله(ع) حافز مهم للسير والسلوك نحو العبادة الحقة، والثلة المباركة من الأصحاب المنتجبين والعلماء والصالحين والشهداء نماذج حيَّة من التاريخ والحاضر، والدور المنتظر مع الإمام المنتظر(عج) أملٌ واعد يستحق العناء، وانحصار الفوز بالطاعة لله تعالى عنوان كاف لاختيار المسير باتجاه الإسلام المحمدي الأصيل.فاترك ثوب الدنيا البالي، لتنعم بثوب الآخرة الباقي مع الخلود في الملكوت الأبدي.