أسَّس الرسول محمد(ص) لقاعدة استراتيجية في التعاطي التربوي مع النمو البشري، بما يتلاءم مع القدرة والاستعدادات، عندما أطلق تحديده للمراحل العمرية للولد منذ أكثر من 1400 سنة، ولم يكن في دائرة النصيحة التوجيهية العابرة، بل لتعليمنا سراً من أسرار الخلق، ليوفِّر علينا تجارب الاستكشاف، ويسهِّل طريق تنمية معارفنا، "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى"(132). وها نحن نرى اليوم دعائم علم النفس التربوي الحديث، تقوم على التقسيمات العمرية التي تتلاءم مع التكوين الفطري والتوجيه التربوي، والتي تشابه تقسيمات الإسلام في مضمونها.
قال رسول الله(ص):"الولد سيد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين، فإن رضيت أخلاقه لإحدى وعشرين، وإلاَّ فاضرب على جنبه فقد أُعذرت إلى الله"(133).
عن الأئمة(عم)، قال أمير المؤمنين علي(ع):" يُرخى الصبي سبعاً، ويؤدب سبعاً، ويُستخدم سبعاً، وينتهي طوله في ثلاث وعشرين، وعقله في خمس وثلاثين، وما كان بعد ذلك فالتجارب"(134).
قال الإمام الصادق(ع):"دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدب سبعاً، والزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح، وإلاَّ فلا خير فيه"(135).
فالمراحل العمرية ثلاثة(136):
الأولى- من 1-7 سنوات: الولد سيد، فلا تنفع القسوة معه، ولا تُعدِّل بعض تصرفاته لاعتبارات تكوينية، فجسده محدود القدرة، ورغباته لا تخضع لمعايير عقلية، ولا يفهم ضوابط المجتمع الذي حوله، ولا يمكننا فهم بعض اختياراته، ولا نعرف انطباعاته ومسبباتها في كثير من الحالات، فتعامل معه بقناعة عدم قدرتك على إدارته بالكامل كما تريد، فهو سيد في اختياراته.
يُترك الصبي سبعاً، فهو بحاجة ليعيش طفولته وينمو فيها، لأنَّه بهذا الأسلوب يعيش التوازن والنمو الطبيعي، على قاعدة التقليل من التوجيهات والضوابط، والاكتفاء بزرع بعض القيم الضرورية لهذا العمر.
دع ابنك يلعب سبع سنين، لتنمو عضلاته، ويكتسب جسده المرونة والنمو والصحة، وليشعر بلذة الطفولة، كي ينشأ فيها وقد أخذ حقَّه منها. كما ينعكس اللعب على نضجه العقلي واستقراره النفسي.
الثانية- من 7-14 سنة: الولد عبد، وهو التعبير عن مرحلة التوجيه الرئيسة في متابعة الولد بأدق التفاصيل، ومواكبته جسدياً ونفسياً وعقلياً وأخلاقياً واجتماعياً، فهنا مسموحات وممنوعات، أوامر ونواهي، ثواب وعقاب، وهنا التربية والمواكبة بكل زخمها.
وهذا ما تعنيه عبارة "ويؤدب سبعاً"، فهي المرحلة العمرية الأدق في حياة الإنسان، التي تحتاج إلى رعايتها لصقل الشخصية، وتعبئتها بالقيم والمفاهيم، وإرشادها نحو الطريق الأفضل في الوعي والسلوك. وتخضع شخصية الولد لتقلبات كثيرة في هذه المرحلة، ويتأثَّر بكل ما يحيط به في البيت والمدرسة والمجتمع والأصدقاء، ما يتطلب رقابة دقيقة، ومتابعة تعليمية تربوية تأديبية غير منفِّرة، ففي نهايتها الخطوة الانتقالية إلى المراهقة، إلى مرحلة جديدة بخصائصها ومواصفاتها.
الثالثة- من 14 -21 سنة:الولد وزير، فقد بدأت خياراته بالنضوج، وبدأ يتمسك بآرائه وتجربته، فصاحبه مصاحبة الوزير المشاور، بطريقة تربوية تستهدف الحوار والإقناع والتفاعل، وتبتعد عن الفرض والقوة وسلب الشخصية.
إنَّه يشعر بشخصيته المستقلة، ويحاكي الكبار في تصرفاته، فالأفضل أن تستخدمه، بأن تُشعره بقدرته على القيام ببعض الأعمال لإنجازها كما يُنجزها الكبار، وأن تُشعره بالثقة به على المستوى العملي، ولا تقف عند بعض الأخطاء والثغرات، فهي عادية في إطار تجربته الجديدة التي لا تستقيم من دون عثرات.
والزمه نفسك كصاحب لك، تستشيره وتسامره وتصحبه في السفر، تسمع مقترحاته ولا تسخِّفها، تخفف من املاءاتك عليه وتسعى لتحفيزه على الاختيار الطوعي للدرس أو العمل أو الرياضة أو الزيارة أو ما شابه ذلك. وانتبه لمشاعره، فهو يعتقد باكتمال شخصيته، ويرى نضجه الجسدي والعقلي والنفسي قد تجاوز المرحلة السابقة، ويزداد نمواً وقدرة باستمرار، وهذا ما ينطبق على الشاب والشابة، فاحرص على حسن التعامل مع هذه المرحلة الأخيرة في التعليم والتربية المباشرين.
فالتربية أساس في تكوين الشخصية، وعلى المعنيين اختيار التوقيت والأساليب الملائمة بما ينسجم مع مراحل النمو، وقد بادر الإمام علي(ع) ولده الإمام الحسن(ع) بالتربية بما يحقق الهدف في الهداية والاستقامة، قال الأمير(ع):"وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ، ما أُلقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لُبك"(137).
أمَّا علم النفس التربوي الحديث فقد قسَّم المراحل العمرية لتربية الولد بحسب اختلاف مكوناتها إلى ثلاثة(138) أيضاً، وهي:
أولاً- مرحلة الطفولة المبكرة: من 2- 6 سنوات، وتسبقها الرضاعة التي يقطع الطفل شوطاً لا بأس به في النمو الجسدي والحركي والعقلي والانفعالي، حيث تُسمى المرحلتان بالسنين التكوينية. أمَّا في الطفولة المبكرة فتكتمل لدى الطفل قدرات جسمية جيدة كالمشي، وقدرات عقلية كالكلام والإدراك الحسي، ونمو حركي واضح. وفي هذه المرحلة تُغرس في نفوس الأطفال كثير من القيم والاتجاهات الأخلاقية والاجتماعية، وفيها تُحدد مفاهيم الصواب والخطأ، والخير والشر، ويمكن القول بأنها مرحلة وضع البذور الأولى لشخصية الطفل المستقبلية(139).
ثانياً-مرحلة الطفولة الوسطى والمتأخرة: من 6- 12 سنة، وهي المرحلة الابتدائية في التعليم، وفي نهايتها يشرف الطفل على مرحلة المراهقة، وتتكون في هذه المرحلة اتجاهاته حول الذات، ويتعلم القراءة والكتابة، والمهارات الحركية، وتتكوَّن مدركاته ومفاهيمه، ويتشكل لديه الوازع الداخلي(الضمير) الذي يحاسبه على الخير والشر والخطأ والصواب، وتنمو لديه الرغبة بالعمل الاجتماعي واتخاذ الأصدقاء، ويستطيع التعبير عن انفعالاته، وتتطور قدراته العقلية بشكل متراكم، وتنشأ لديه أسئلة كثيرة عن الموت والحياة والولادة وكل ما يحيط به، فهي مرحلة النضج المفاهيمي وغرس القيم(140).
ثالثاً-مرحلة المراهقة: من 13- 21 سنة، وهي قسمان:
أ- المراهقة المبكرة من 13 -16 سنة، وهي تمتد منذ بدء النمو السريع الذي يصاحب البلوغ، حتى بعد البلوغ بسنة تقريباً، عند استقرار التغيرات البيولوجية عند الفرد. وفي هذه المرحلة يسعى المراهق إلى الاستقلال، ويرغب دائماً في التخلص من القيود والسلطات التي تحيط به، ويستيقظ لدى الفرد إحساسه بذاته وكيانه، ويميل إلى الاندماج مع جماعة من الأصدقاء(الشِّلة)، وتشتد منافسته مع أترابه واخوته، ويحاول أن يجذب إليه انتباه الجنس الآخر.
ب- المراهقة المتأخرة من 17 - 21 سنة، وفيها يتجه الفرد محاولاً تكييف نفسه مع المجتمع الذي يعيش فيه، ويوائم بين تلك المشاعر الجديدة وظروف البيئة ليحدد موقفه من القضايا المختلفة، محاولاً التعود على ضبط النفس، والابتعاد عن العزلة، والانضواء تحت لواء الجماعة، فتقل نزعاته الفردية، ولكن في هذه المرحلة تتبلور مشكلته في تحديد موقفه بين عالم الكبار، وتتحدد اتجاهاته إزاء الشؤون السياسية والاجتماعية وإزاء العمل الذي يسعى إليه(141).
ولا يعني تقسيم المراحل وجود حدِّية في مواصفات كل عمر عند انطباقه التام، فمراحل النمو متَّصلة ومتداخلة، ولا يوجد بينها فواصل، ويتم الانتقال من مرحلة إلى أخرى بشكل متدرج من دون طفرات بينها. كما تتأثر حدود كل مرحلة بالبيئة الاجتماعية والظروف المعيشية والظروف المناخية، فتزداد أو تنقص أشهراً أو سنة أو أقل أو أكثر، وإنما ينفع هذا التحديد لمعرفة الفروقات الإجمالية بين هذه المراحل، وبناء عليه فزيادة سنة أو نقصانها لا يُخل بفهمها، وضبط إيقاعها، والعمل فيها، حيث تُحدِّد مراقبة تصرفات الأولاد بوضوح عملية الانتقال، من مرحلة إلى أخرى.
إنَّ المعلم بحاجة إلى المزيد من المعرفة في علم نفس الطفل، وعلم النفس العام وعلم النفس التربوي، والتوجيهات التربوية والسلوكية في الإسلام، لتتكوَّن لديه القدرة على التعامل مع الولد في مراحل نموه المختلفة، كي لا يتصرف معه عشوائياً، فيحصد نتيجة معاكسة للأهداف التي يريد الوصول إليها.
ويتطلب النجاح في العملية التربوية عدة أمور:
1- تحصيل ثقافة عامة عن التربية وأسسها، مستمدة من الدين، ومن الدراسات المعاصرة التي سبرت أغوار التكوين البشري عقلياً ونفسياً وجسدياً بما يسمى"علم النفس التكويني".
2- اكتساب المعرفة في الطرق والأساليب التربوية الملائمة.
3- اكتساب المعرفة في طرائق تدريس المواد المختلفة.
4- الإلمام الإجمالي بالأوجه المرضية للنمو، والمشاكل النفسية والاجتماعية التي تحيط بالولد.
5- دراسة الواقع الاجتماعي المحيط بالتلامذة الذين نريد تعليمهم وتربيتهم، لتحديد الأداء الملائم لهم.
6- تحديد الأهداف التي نريد تحقيقها، ووضع الآليات المناسبة لها، مع تقييم دائم ومستمر لكل خطواتنا من أجل الاستدراك والمعالجة والتصويب.
والأهم من ذلك، أن نُوجد الحافز عند التلميذ للتفاعل مع المعلم، أكان بالمكافأة أو تحقيق الطموح أو إرضاء المحيط العائلي أو القدوة أو المحبة أو غير ذلك من الأمور التي يمكن أن تجتمع مع بعضها البعض لذلك، فلا يمكن للمربي أن يؤثِّر ما لم يكن المتلقي(التلميذ) قابلاً ومتفاعلاً، وهنا تكمن المهمة الكبرى في توفير عوامل الجذب والتحفيز، ليتمكن المعلم من مساعدة التلميذ في تهيئة المناخات التعليمية والتربوية الملائمة والمؤثرة. وهنا يحتاج المعلم إلى عاملين أساسيين:
1- أن يمتلك المواصفات الشخصية المناسبة في العلم والأخلاق وحسن التعاطي مع الولد.
2- أن يهتم بالطرق والأساليب والتقنيات التعليمية والتربوية الحديثة الفاعلة والناجحة.