"وأمَّا حق سائسك بالعلم": السائس هو المؤدِّب، من فعل ساس أي تولى أمر القوم ودبَّرهم، فالسائس بالعلم هو المعلِّم الذي يتولى أمر تلامذته بتعليمهم وتأديبهم. إذاً لا يقتصر دور المعلم على التعليم والتلقين للمعلومات التي يدرِّسها لتلامذته، بل يشمل تربيتهم وتأديبهم بمضامين العلم ومفاهيمه وبسلوكه وتصرفاته وتوجيهاته.
فالتعليم والتربية متلازمان، وعلى المعلم أن يكون مربياً ملتفتاً إلى الأهداف التي يريد الوصول إليها مع تلامذته، فلا يمكنه الاستقالة من هذه المهمة التربوية، لأنَّ انعكاس شخصيته وتصرفاته وطريقته وأهدافه ستبرز بشكل طبيعي أثناء تعليمه، وستترك آثارها على تلامذته من دون إرادته، بصرف النظر عن مستوى التأثير وفعاليته.
إنَّنا لا نتحدث عن تأثيرٍ كامل لمعلم واحد، بل عن تأثير ما لكل معلم، بتفاوتٍ بين المعلمين، فالمعلم بين خيارين: أن يكون مربياً باختياره من ضمن أهدافه وخطته لذلك، فيكون تأثيره أكبر إذا أحسن الأداء، أو أن يكون مربياً من غير اختيار، فتتحقق بعض النتائج التي يريدها أو لا يريدها، فهي غير داخلة في أهدافه وخطته، لكنَّه يتحمَّل مسؤوليتها لأنها من إنتاجه، فالمعلم مربٍ شاء أم أبى.
وما يدَّعيه البعض من وجود تعليم مجرد عن التربية، قد ينطلق في بعض الأحيان من الرغبة بإعطاء صفة موضوعية لتعليم المعلم، ليسهل عليه النفاذ إلى المسألة التربوية التي يريدها، من دون إثارة المتعلم أو أولياء أمره حول الأهداف التي يريدها، والتي تخفي حقيقتها أغلب المؤسسات التعليمية من خلال العناوين البرَّاقة التي تطرحها، وتأكيدها الدائم على موضوعية التعليم لديها بطريقة مجرَّدة، لتلقين التلميذ المادة الدراسية المقررة بمعزل عن أي هدف تربوي خاص. وهذا ما تدحضه الوقائع والدراسات التربوية، وذلك في كل العلوم التي يتلقاها المتعلم. فالطفل يتأثر بمعلمته في المدرسة، سواءًا علمته اللغة العربية أو العلوم أو الدين أو اللغة الأجنبية...الخ، فإذا أحبَّها أطاعها وأحبَّ مادتها وقلَّد تصرفاتها، وانطبعت شخصيته بما تريده من أهداف. وإذا نفر منها تجنَّب ضغطها، وقد ينفر من مادتها فلا يتفاعل معها، أو يحفظها خوفاً منها، كما تتأثر نفسيته بأدائها، فيتصرف بردة فعل، أو بتسليم المتصنع الخائف، بحسب شخصيته وما أثَّر في بنائها من ظروف وأجواء تربوية مختلفة، في البيت والمدرسة والمجتمع.
ويمكننا نقل صورة انفعالات الطفل نفسها على كل المراحل العمرية للمتعلم مع معلمه، باختلاف أساليب التعبير عنها شدة وضعفاً بحسب الأفراد وأعمارهم وتقديرهم للأمور، فكيف إذا كان التعليم للدِّين، ذي الصلة الوثيقة بالعملية التربوية باتجاه الإقناع والهداية وتزكية النفس وتقويم الأعمال نحو الصلاح والفضيلة؟
فالمعلم المربي محور أساس في العملية التربوية، وعليه التحلي بأفضل صفات القدوة، وكلما نشأت علاقة من المودة والمحبة مع تلامذته، وتعززت الثقة المتبادلة معهم، استطاع توجيههم والتأثير في سلوكهم، فالمحبة تولد الحافز للطاعة والتقليد لإرضاء المحبوب.
عندها يمتلك المربي زمام المبادرة، فيتوجب عليه مواكبة حاجات التلميذ وتقلباته، وأن يعمل لتقديم الحلول المناسبة لها، فهو بمثابة معالج نفسي شاء أم أبى، وهو أكثر تأثيراً من البيت، وليس حيادياً في العملية التربوية، كل هذا يستلزم الأمانة والمسؤولية في تقديم النصح للتلميذ، وأن لا يعكس مشاكله وقلقه في حياته الخاصة أو المدرسية عليه، وأن لا يصدمه بتصرفات مخالفة للانطباع المتكوِّن عنده، كي لا ينعكس سلباً في سقوط القدوة في نظره. فالتصدي لهذه المهمة تستلزم دقة وانتباهاً شديدين في التعامل مع صفحة النفس البيضاء عند التلميذ، وفي رعاية حساسيتها من سلوك المعلم.
فالمعلم سائس بالعلم، يتولى أمر تلامذته بتعليمهم وتربيتهم، ويجب أن يكون كذلك، وله حقوق عند المتعلم لتتحقق الفائدة المرجوَّة من التعليم.