حقوق المعلم والمتعلم

فضل العالم

فضل العالم

العلماء ورثة الأنبياء في تأدية الرسالة وهداية البشر، وهي مُهمَّة جليلة وعظيمة، لأنَّها تنقذ من الجهل والضلالة، وتهدي إلى الصراط المستقيم. وإذا أجرينا مقارنة بين أصناف البشر، لتفوَّق العلماء -وعلى رأس سلسلتهم الأنبياء(ص) والأئمة(عم)- عليهم جميعاً بالفضل.

فالعالم أفضل من العابد، لأن العالم يُعلِّم الإنسان كيف يكون عابداً، ويرشده إلى ما يزيده قرباً من الله تعالى، ويساعده على تزكية نفسه، ويأخذ بيده نحو الفلاح. ولا يكون عالماً بهذا المستوى والعطاء إلاَّ ويكون عابداً أيضاً، فهو يجمع بين العلم والعبادة في مقابل عبادة العابد، وهو يدرك أسرار العبادة التي تسمو معها النفس إلى أعلى المراتب، وهو الذي يعيش حالة العشق لله تعالى كخبير أدرك سلوك الطريق الأسرع إلى الملكوت الأعلى.

عن أبي عبد الله(ع): قال رسول الله(ص):"من سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإنَّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضّى به، وإنَّه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورَّثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظٍ وافر"(40). وفي رواية أخرى عنه (ص):"فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"(41).

والعالم أفضل من المجاهد، فحبر كتابته وتعليمه أفضل من دم الشهيد، لأنَّه علَّم المجاهد كيف يسلك طريق الجهاد ويعشق درب الشهادة، وعرَّفه على مكانته في الدنيا والآخرة، وربط مساره بخير المجاهدين محمد(ص) وآله الأطهار، وجعل قدوته الإمام الحسين(ع) في نهضته وعطاءاته، ولا يكون عالماً بهذا المستوى أيضاً، إلاَّ إذا كان مجاهداً يعيش روحية الجهاد، ويبذل حياته في سبيل الله تعالى، في مواقع الدعوة إلى الله، والتصدي للكفر والانحراف، والاستعداد لتحمل التضحيات والشهادة في طريق ذات الشوكة التي اختارها. قال رسول الله(ص):"يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء، فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء"(42).

وصلاة العالم أفضل من صلاة العابد، فإذا صلَّى عاش الصلاة بكل معانيها وخصوصياتها، وكانت سُلَّم عروجه إلى السماء في مسالكها الربَّانية. أمَّا العابد فمعرفته محدودة، ويكون عروجه بقدر النور الذي شعَّ عليه. وهكذا الصوم والحج والخمس والزكاة وكل عبادة للعالم تكون مشبعة بالمعرفة والتزكية والطهر وتحديد الهدف الإلهي بدقة وخشوع. قال رسول الله(ص):"ركعتان يصليهما العالم أفضل من ألف ركعة يصليها العابد"(43). وفي هذا تشجيع للناس على طلب العلم للتَّرقي في سُلَّم المعرفة والقبول للعبادة.

العالم معلمُ الخير، والعلم بكل أنواعه خير يكشف الحقائق للإنسان ويُبصِّره طريقه، وكل سلوك لطريق الخير يفتح آفاق الصلاح والاستقامة والسعادة، وكل معلم للخير له أجره عند الله تعالى. إنَّ إيمان الإنسان بربِّه يمكِّنه من حسن الاختيار، وتمييز الخير من الشر، ولا يأتي الانحراف من العلم وإنما من طريقة تعاطي الإنسان معه، فالعلم حقائق مجرَّدة ترتبط بتوجيه الإنسان لها، فإذا سخَّر البعض العلم للمصالح الذاتية والأهواء والأنانيات أبعده عن أهدافه وفوائده، وإذا سلك به طريقاً موضوعياً باتجاه الحقيقة عمَّم الخير وأنجز المكتسبات للإنسانية. فالتمييز بين معلم الخير وغيره، تمييزٌ بين اختيارٍ ملتزمٍ هادف وموضوعي، واختيارٍ منحرفٍ ذاتي وبعيد عن الحقيقة، فمعلم الخير قد أحسن صنعاً، وأدَّى واجباً، ونفع الأمة، وهو يستحق المكانة والمكافأة، ولا يستخف بحقه إلاَّ المنافق.

قال رسول الله(ص):"إنَّ الله وملائكته، حتى النملة في حجرها، وحتى الحوت في البحر، ليصلّون على معلم الناس الخير"(44).
وقال(ص):"ثلاثة لا يستخف بحقهم إلاَّ منافق: ذو شيبة في الإسلام، وإمام مقسط، ومعلم الخير"(45).
والنظر إلى وجه العالم عبادة، فهو يذكِّر بالله، ووجهه نور من نور الله، والجلوس معه يحقق نفعاً في طاعة الله، فإذا تكلَّم عرَّف عن دين الله، وإذا ارتاح لقول أو فِعْل عبَّر ذلك عن انسجامه مع شرع الله تعالى، وإذا غضب واستنكر فللنهي عن المنكر والانحراف عن خط الله، ولا يخلو مجلسه من خير، ولا تخلو صحبته وكلامه من فائدة، ولا تقود إشاراته وملاحظاته وأداؤه إلاَّ إلى مرضاة الله جلَّ وعلا. قال رسول الله(ص):"النظر إلى العالم عبادة، والنظر إلى الإمام المقسط عبادة، والنظر إلى الوالدين برأفة ورحمة عبادة، والنظر إلى الأخ تودُّه في الله عزَّ وجل عبادة"(46).

وأي فضل أعظم من عطاء الله تعالى للكرامات التي لا تحصى ولا تعد، على قدر إرشاد العباد إلى علوم محمد(ص) وآل محمد(عم). ونورد حادثة لطيفة معبِّرة، جرت مع السيدة فاطمة الزهراء(عها) العالمة المعلمة، عندما أتتها مسلمة قد أكثرت أسئلتها عليها، فأجابتها السيدة الزهراء(عها) عن فضل عطاءات العلماء في تعليمهم لاتباع محمد(ص).

حضرت امرأة عند فاطمة الصديقة(عها)، فقالت:إنَّ لي والدة ضعيفة، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها عن ذلك، ثم ثنَّت فأجابت، ثم ثلثت، إلى أن عشَّرت فأجابت، ثم خجلت من الكثرة، وقالت: لا أشق عليك يا بنت رسول الله.

قالت فاطمة(عها):"هاتي سلي عما بدا لك، أرأيت من أكتُري(47) يصعد يوماً إلى سطحٍ بحملٍ ثقيل، وكراه مائة ألف دينار، أيثقل عليه؟
قالت:لا.
قالت(عها):أكريت أنا لكل مسألةٍ بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤا، فأحرى أن لا يثقل عليّ، سمعت أبي(ص) يقول:"إنَّ علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم(48) من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم، وجدهم في إرشاد عبادة الله،حتى يخلَعَ على الواحد منهم ألف ألف خلعة من نور، ثم ينادي منادي ربنا عزَّ وجلَّ:أيُّها الكافلون لأيتام آل محمد، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم! هؤلاء تلامذتكم، والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم، فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذ عنهم من العلوم، حتى أنَّ فيهم-يعني في الأيتام- لمن يخلع عليه مائة ألف حلة، وكذلك يخلع على هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم، ثم إنَّ الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم وتضعّفوها، فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك مرتبتهم ممن خلع عليهم على مرتبتهم".

ثم قالت فاطمة(عها): يا أمة الله، إنَّ سِلكاً من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة، وما فضل ما طلعت عليه الشمس؟ فإنه مشوب بالتنغيص والكدر"(49).

ولا يقتصر الفضل على منح الله لمعلم الخير بقدر ما أعطى، ولا بمضاعفة حسناته على ما أعطى، بل يُضاف إليه أجر من تعلم منه وعمل بما تعلَّم، ثم لا تتوقف هذه الإضافة على فترة التعليم وحياة المعلم، بل تستمر إلى يوم القيامة، وتتضاعف باستمرار مع كل من استفاد عبر الأجيال، ليتراكم الأجر بشكل متصاعد.

فعن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول:"من علَّم خيراً فله أجر من عمل به.
قلت:فإن علَّمه غيره يجري ذلك له.
قال(ع):إن علَّمه الناس كلهم جرى له.
قلت:فإن مات.
قال(ع): وإن مات"(50).
وعن أبي جعفر(ع):"من علَّم باب هدى، فله أجر من عمل به، ولا ينقص أولئك من أجورهم شيئاً، ومن علَّم باب ضلال كان له مثل أوزار من عمل به، ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئاً"(51).

إنَّ الفقيه العالم في موقع الخير الإلهي، فعن الإمام الصادق(ع):"إذا أراد الله بعبدٍ خيراً فقَّهه في الدين"(52)، وفي موقع دعاء النبي(ص) له بالرحمة ، قال(ص):"رحم الله خلفائي. فقيل:يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال(ص): الذين يحيون سنتي ويعلِّمونها عباد الله"(53). فأي فضل أعظم من دور الهداية وهي وظيفة الأنبياء؟ وأي أجر أعظم من عطاءات الله تعالى ورضوانه؟.

رُوي عن أحد العارفين قوله: من جلس عند العالم ولم يطق الحفظ من علمه فله سبع كرامات بهذه الجلسة:
1-ينال فضل المتعلمين.
2-ويحبس عنه الذنوب ما دام عنده.
3-وتنزل الرحمة عليه إذا خرج من منزله طالباً للعلم.
4-وإذا جلس في حلقة العالم، نزلت الرحمة عليه، فحصل له منها نصيب.
5-وما دام في الاستماع، تُكتب له طاعة.
6-وإذا استمع ولم يفهم، ضاق قلبه بحرمانه عن إدراك العلم، فيصير بذلك الغم وسيلة إلى حضرة الله تعالى، كقوله تعالى في الحديث القدسي:"أنا عند المنكسرة قلوبهم".
7-ويرى إعزاز المسلمين للعالِمْ وإذلالهم للفساق، فيرد قلبه عن الفسق وتميل طبيعته إلى العالم.