حزب الله ... المنهج.. التجربة.. المستقبل

الفصل الأول: الرؤية والأهداف

الفصل الأول: الرؤية والأهداف

ثانياً: الجهاد في سبيل الله
الجهاد من فعل جاهد، وهو بذل الجهد واستفراغ الوسع في مدافعة العدو، والكلمة بمعناها الإسلامي العام أشمل من القتال العسكري للعدو، لتشمل عدو الإنسان الداخلي، الذي يتمثل بوسوسات النفس باتجاه الشرور، وبالشيطان الذي يدعو إلى الباطل، وكل ما يؤدي إلى الانحراف والفساد.
بيَّن رسول الله (ص) هذا المعنى عندما استقبل سرية من المسلمين العائدين من إحدى الغزوات بقوله لهم:" مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر(القتال) وبقي عليهم الجهاد الأكبر. قيل: ما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: جهاد النفس"(1).
فالجهاد يؤثر في مسار حياة المؤمن، وهو جزء من إيمانه الحقيقي الذي لا يمكن أن يكون مقبولاً عند الله تعالى من دونه، على أن يكون جهاداً كاملاً غير منقوص، فالمطلوب هو العمل باستعداد تام وشامل، قال تعالى في القرآن الكريم:" وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير"(2). وقد ذكر العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان:" أن المراد بالجهاد في الآية هو المعنى الأعم.. ومعنى كون الجهاد في الله حق جهاده، أن يكون متمحضاً في معنى الجهاد، ويكون خالصاً لوجهه الكريم لا يشاركه فيه غيره"(3).


النظرة إلى الدنيا
هذا التوجيه للجهاد مرتبط بنظرة الإسلام إلى الحياة الدنيا. فالدنيا دار فناء ومتاع زائل وحياة مؤقتة، وهي محل اختبار وابتلاء للإنسان، لتكون نتائج أعماله مقرِّرة لمستقبله في يوم القيامة، حيث يُحيي الله جميع الخلق من جديد، فيُدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار. وعادة ما يكون الاختبار محفوفاً بالتعب والمشقة والألم والصعوبات، قال تعالى:" لقد خلقنا الإنسان في كبد"(4)، وعلى الإنسان أن يؤهل نفسه للتحمل ومواجهة التحديات لينجح، " يا أيها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه"(5).
ولا يستطيع أحد أن يمنع عنه مصاعب الدنيا، فهذا الأمر خارج عن إرادته، لأنها طبيعة الحياة الدنيا. فإذا ظن البعض أنه بالكفر أو المعصية أو الانحراف يتخلص من مصاعبها فهو مخطئ، لأنه سيقع في مصاعب أشد نتيجة السلوك الفاسد، وسيخسر فرصة العمل الإيجابي في الدنيا، وسيعاقب في الآخرة. فالأَولى أن تكون المعاناة لمصلحة الخير والصلاح ليربح في الدنيا والآخرة. وبناء عليه فالكل يعاني لأنهم في دائرة الاختبار، لكنَّ الفرق بينهم يرتبط بالنتائج النهائية.
إنَّ الخلاف في المبدأ بين منطقين:
أحدهما: منطق الماديين الدنيويين الذين يؤمنون عملياً بأن الدنيا نهاية الحياة فيحشدون فيها كل ما أمكنهم، ويلجأون إلى الوسائل كافة مهما أوغلت في الشر، على قاعدة رؤيتهم لمصالحهم ورغباتهم في هذه الدنيا، ولو أدى الأمر إلى الفساد والانحراف الفردي والجماعي، وإلى ظلم الآخرين والاعتداء عليهم وقتلهم وسلبهم حقوقهم، طالما أن حياتهم الدنيا نهاية المطاف، وهذا هو المقياس عندهم.
ثانيهما: منطق المؤمنين بالله الذي يعيشون الدنيا كمعبر للآخرة، ولا تمثل دار الاستقرار، فإذا خسروا فيها شيئاً بسبب انضباطهم ومخالفة أهوائهم ورغباتهم، فسيعوضوه يوم القيامة. فلا داعي للظلم والاستئثار والعدوان فنتائجه لا تستقر، بل يتوجب عليهم رفض الظلم ومواجهته ومجاهدة أنفسهم لنصرة الحق والعدل وحقوق الإنسان والاستقامة، ولا يجوز لهم أن يتفرَّجوا، أو أن ينأوا بأنفسهم عن المسؤولية، أو أن يسلموا أمرهم ويستسلموا أمام الظالمين، قال تعالى:" ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون"(6).
فمنطق المؤمنين تفاؤلي وإيجابي مهما كانت التضحيات، لأن الأجر لا يضيع عند الله تعالى، فإمَّا فوز ونجاح في الدنيا، وإمَّا تأجيل للمكافأة إلى الآخرة. فالمهم هو الالتزام بالخط المستقيم الذي يتمثل بالحقوق والواجبات التي أمر بها الله تعالى على جميع الأصعدة، وأن يكون النظر إلى الصلاح لا إلى الرغبات، وإلى العدل لا إلى التسلط والهيمنة، وإلى الرضا بما قسم الله تعالى بعد بذل الجهد لا إلى سلوك درب المنكرات والظلم والعدوان، وإلى تحرير الأرض والإنسان مهما كلف ذلك لا إلى الاستكانة والرضا بحياة الذل أو الاستقالة من الدور الفاضل والمؤثر في الحياة.


أسس الجهاد
أعتبر الإسلام الجهاد سلوكاً أساسياً في حياة المسلم، سواء أكان جهاداً للنفس أو كان جهاداً للعدو، وإن كان الثاني هو المصداق التطبيقي الأصعب، ويأتي بعد نجاح الإنسان في مدافعة شهواته ورغباته ليتشكل عنده الاستعداد العملي لمدافعة الظالمين والمحتلين. فجهاد النفس هو الأكبر، لأنه يومي ودائم وفي كل صراع بين الخير والشر، بين طاعة الله وهوى النفس، أما جهاد العدو وقتاله فهو الأصغر، لأنه في محطات محددة من تاريخ الإنسان كجزء من نصرة المبادئ والقيم والحق ونصرة الأمة، عندما تتعرض الأمة للعدوان أو الاحتلال أو الإذلال.
وقد بنى الإسلام الجهاد على أسس هادفة أبرزها أربعة:
1- الابتلاء: الحياة الدنيا مبنية على الابتلاءات والاختبارات المستمرة، فلا يمر يوم أو زمن إلا ويواجه الإنسان فيه المصاعب مع نفسه أو مجتمعه أو جهة ما في هذا العالم. وبدل أن نتساءل عن سبب هذه الابتلاءات، التي تشكل جزءاً من خلقنا في الحياة ولا إرادة لنا فيها، فلنعمل على استخدام قدرتنا التي أودعها الله تعالى فينا، بالانتصار على الذات وعلى الأعداء من خلال المجاهدة، ولنكن صابرين متحملين لأن النتائج تستحق ذلك. قال تعالى:" ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم"(7)، وقال أيضاً:"أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين"(8).
2-سبيل الله: الجهاد في سبيل الله هو الهدف، فمن ترك المعاصي للطاعة فهو في سبيل الله، ومن قاتل لإعلاء كلمة الله وتنفيذ أوامره فهو في سبيل الله. لكن من استسلم للمعاصي فهو في سبيل هواه، ومن قاتل من أجل راتب يقبضه فهو في سبيل راتبه، ومن قاتل من أجل عصبية فهو في سبيل عصبيته، فالدافع أساس لتحديد اتجاه الهدف. ولم نؤمر بالجهاد كيفما كان، ولم نؤمر بالجهاد من أجل أن نعاني، وإنما أُمرنا به لنكون في خط الله مقتدين بتعاليمه.
ولا يعني هذا أن الله بحاجة إلينا لنجاهد في سبيله، فبإمكانه أن يستبدلنا ويأتي بآخرين ولا نضره شيئاً، لكنه يريد لنا الاستقامة، وهذا فضل منه علينا إذا قبلنا واختارنا في مسيرة الإيمان. إن سبيل الله تعبير عن تحديد الاختيار الإنساني في مقابل الخيارات الأخرى. قال تعالى:" يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ويجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم"(9).
إنَّ التصميم على الاختيار الصالح يتطلب جرأة وشجاعة، ولا يمكن الركون إلى مثبطي الهمم والعزائم الذين يحملون مناهج أخرى، وتكمن العبرة في بذل أقصى الوسع بثقة واطمئنان مهما فعل اللائمون، قال أمير المؤمنين علي(ع):" جاهد في الله حق جهاده ولا تأخذك في الله لومة لائم"(10).
3- مصلحة الإنسان: إذا جاهدت عدوك وطردته من أرضك فلمصلحتك، وإذا جاهدت شيطانك فمنعته من التأثير عليك فلمصلحتك، وإذا جاهدت الشر فاسقطته وعمَّ الخير بين الناس فلمصلحتك، وإذا جاهدت نفسك فتهذبتْ وأصبحت سليم السريرة ومرتاح النفس والبال فلمصلحتك.
قال تعالى:" ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين"(11).
وقال تعالى:"من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد"(12).
إن الجهاد معاناة مثمرة لمصلحة الإنسان، بينما اتباع الهوى والمعاصي والمنكرات معاناة مضرة في نتائجها على مستوى الفرد وعلى مستوى الناس. ولا يكون الحكم على الأشياء باستعجال اللحظة الحاضرة، بل بخواتيم الأعمال. فاللذة في لحظتها مغرية وجذَّابة لكنها مدمرة في نتائجها وتبعاتها، والتسلط في لحظته مغرٍ ومفرح لكنه مؤلم في آثاره الاجتماعية وتداعياته المستقبلية.
4- الهداية: فالجهاد سلوك نستشرف بعض نتائجه، التي نراها أكثر عند إحصاء النتائج. فهو يفتح أبواب التوفيق والهداية أمام المؤمن على مصاريعها، ولا يتقيد بالحسابات البشرية المحدودة، فالإنسان عاجز عن فهم أسرار الكون وعالم الغيب وما قدَّره الله تعالى في الحياة. قال تعالى:" والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين"(13).
إن الجهاد باب للحياة وليس باباً للموت، فالاستقامة حياة، والعزة حياة، وتحرير الأرض حياة، والانتصار على الذات حياة، بل الشهادة حياة الفرد في فوزه بالجنة بعد شهادته، وحياة الأمة في تأثير دماء شهدائها بانتصارها وعزِّها. وهذا كله يفتح طرق الهداية إلى الخير والفلاح في حياة الفرد وفي حياة البشرية.


الجهاد العسكري
وبما أن الجهاد العسكري الذي يتمثل بقتال العدو يرتبط بأبحاث هذا الكتاب مباشرة، فسنركز بحثنا عليه.
يقسم الفقهاء الجهاد إلى قسمين:
1- الجهاد الابتدائي: وهو أن يبدأ المسلمون مواجهة الآخرين والدخول إلى أراضيهم لاعتبارات ليس لها علاقة باسترداد أرض أو التصدي لعدوان، فهذا مرتبط بالنبي(ص) أو الإمام المعصوم(14)، ولا يعتبر مطروحاً في زماننا مع غياب الإمام المهدي الغائب والمنتظر(عج).
2- الجهاد الدفاعي: وهو أن يدافع المسلمون عن الأرض والشعب وعن أنفسهم عندما يتعرضون لاعتداء أو احتلال، وهذا أمرٌ مشروع بل واجب. يقول الإمام الخميني(قده):" لو غشي بلاد المسلمين أو ثغورها عدو يخشى منه على بيضة الإسلام ومجتمعهم، يجب عليهم الدفاع عنها بأيِّ وسيلة ممكنة من بذل الأموال والنفوس"(15).
لكن قرار الجهاد مرتبط بالولي الفقيه، الذي يشخِّص الحالة التي ينطبق عليها عنوان الجهاد الدفاعي، والذي يحدد قواعد المواجهة وضوابطها، فمسؤولية الدماء عظيمة، ولا يمكن زج المقاتلين في أي معركة من دون الاستناد إلى ما ينسجم مع وجوب الجهاد فيها وما يحقق أهدافها.
وقد يختلف رأي بعض الفقهاء عن رأي الولي الفقيه، لكنَّ رأيه ملزم لهم فهو المتصدي والمبايعَ من قبل الناس، ويترتب على مثل هذه المنعطفات نتائج خطيرة، فلا يمكن المراهنة على إجماع الآراء، مع احتمال الخلاف دائماً، وبما أنها صلاحيته، فالقرار يعود إليه وهو مُلزم للمسلمين.
وعند سؤال أحدهم للإمام الخامئني(حفظه الله) بقوله: إذا كنت مقلداً لأحد المراجع، وأعلن ولي أمر المسلمين الحرب ضد الكفرة الظالمين أو الجهاد، ولم يجوِّز لي المرجع الذي أقلده الدخول في الحرب، فهل ألتزم برأيه أم لا؟
أجاب:" يجب إطاعة أوامر ولي أمر المسلمين في الأمور العامة التي منها الدفاع عن الإسلام والمسلمين ضد الكفرة والطغاة المهاجمين"(16). وهو رأي الفقهاء الأعلام.
قد يؤدي قرار الجهاد إلى صد العدوان والتحرير، وقد لا يؤدي إلى هذه النتيجة في المدى المنظور، فهل يتوقف الأمر بالجهاد على الانتصار الحتمي والمضمون؟ وهل يرتبط بحدود معينة للتضحيات؟
لا شك بأن ضمانة الانتصار تُرضي الجميع، ولا تثير أسئلة كثيرة حول جدوى الجهاد. لكن تفاوت موازين القوى المادية، واحتمالات التضحيات الكثيرة، وغموض أفق النتائج السريعة والمباشرة، يثير نقاشاً في الجدوى. هنا يعود التقدير للولي الفقيه، الذي يستند إلى الظروف الموضوعية، وتقدير المصلحة من المفسدة، ليتخذ قراره.
فقد يكون الجهاد مطلوباً للتأكيد على الحق والتأسيس له، من دون توخي النتائج العملية المباشرة، ليكون عملاً استنهاضياً لتحريك الأمة واستخراج عوامل القوة الكامنة فيها وتشجيعها لتثق بإمكاناتها وتوفيق الله تعالى لها، وقد يكون عملاً طويل المدى تتفاوت فيه التضحيات وتتراكم من مرحلة إلى أخرى ليصل إلى النصر.
هذا لا يعني أن الإمكانات والظروف لا تدخل في حساب القرار، فهي دخيلة في حدوده وضوابطه، لكننا لا نملك كامل الصورة والتقديرات، لذا لا يمكن تقييم قرار الولي الفقيه من منطلق وحدود معطياتنا وتحليلنا، فقد يشرح للأمة كل المعطيات والخطوات التي أملت قراره، أو يعرِّفها على البعض منها، أو يُظهر أموراً ويخفي أخرى كجزء من أسلحة المعركة مع العدو.
إن الجهاد مبني على التضحية بالمال والنفس، ويجب توفير الوسائل الممكنة والمناسبة له، فالذهاب إلى المعركة ليس عشوائياً، والرغبة بالشهادة لا تشرِّع الاستهتار بتوفير مقومات المعركة، إلاَّ أن سقوط الدماء وحصول الجرح والأسر من طبيعة العمل الدفاعي، وهو ليس رمياً للنفس إلى التهلكة، فنتائج الجهاد لا تتحقق إلاَّ بعطاءات الشهداء والأسرى والجرحى، لأن اعتداءات العدو مبنية على الإيلام للتيئيس والإخافة وفرض الاستسلام، أما الجهاد فهو دفاع لإسقاط أهداف العدو مع دفع الأثمان اللازمة مهما بلغت، طالما أن الإدارة أمينة ومسؤولة، والهدف واضح وشرعي.


مكانة الجهاد
جعل الإسلام مكانة مميزة للجهاد، وأعتبره طريقاً لقبول المؤمن، ورتَّب عليه توجه سلوك الفرد نحو الاستقامة. فقد ساق الله تعالى في القرآن الكريم مقارنة تفصيلية ومحددة، لكل حاجات وعلاقات الإنسان المباشرة واليومية، في مقابل الجهاد في خط الله والرسول(ص)، ليخيره بين أمرين:" قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين"(17).
فالأولوية لحب الله ورسوله والجهاد في سبيله، في مقابل حب الأرحام والعلاقات والرغبات المادية، وهذه الأولوية تبرز عند التعارض، فإذا منع المال من الجهاد خوفاً من خسارته، ومنع الولد من التضحية رغبة بالأنس به، فهو انحراف عن طاعة الله. أمَّا مع البذل والتضحية في سبيل الله تعالى، فحب المال والولد لا ينفك عن حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، وعندها لا تعارض بين الأمرين، بل يدخل حب الأمور الثمانية في سياق سبيل الله، وتكتسب مشروعيتها من انقيادها لما أمر الله تعالى، فهي لم تعد أموراً دنيوية تُبعد عن التكليف الشرعي، وإنما هي عوامل مساعدة للقيام بهذا التكليف.
ولا يخفى ما للجهاد والمجاهدين من مكانة كبرى في الإسلام.
ففي القرآن الكريم:" لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم أولئك لهم الخيرات وأولئك هو المفلحون"(18).
وفي الحديث الشريف عن رسول الله(ص):" للجنة باب يُقال له باب المجاهدين، يمضون إليه فإذا هو مفتوح وهم متقلدون بسيوفهم والجمع في الموقف، والملائكة ترحب بهم"(19).
وعن أمير المؤمنين علي (ع) :" فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة"(20).
وعنه أيضاً:" الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد"(21).
وعن الإمام الصادق(ع):" الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض"(22).
إن الجهاد نقطة ارتكاز رئيسة في الإيمان بالإسلام، وله مقدمة ضرورية بالاستعداد والتضحية بالنفس والمال وليس بجزء منهما فقط، مع أنهما أهم شيئين يحرص عليهما الإنسان في حياته. إنَّها صيغة تعاقدية ومبايعة مع الله تعالى، لنيل الجنة مقابل التضحية:" إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ذلك هو الفوز العظيم"(23).
ولا استغراب في اندفاع المؤمن نحو الشهادة، فهذا جزء من الالتزام والتعبئة الإيمانية، وهو تعبير عن الطاعة لله بتطبيقها عملياً بعد الأمر بالجهاد، وهو تحقيق للتكليف الشرعي الملقى على عاتق المؤمنين في الدفاع عن أرضهم وحقوقهم.
وبمقدار ما يحقق الجهاد عزاً وتحريراً، يؤدي تركه إلى الذل والخسارة والسقوط والانهيار للفرد والأمة. في الحديث الشريف عن رسول الله(ص):" فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلاً في نفسه، وفقراً في معيشته، ومحقاً في دينه، إن الله أعز أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها"(24). فتارك الجهاد يعيش الذل على المستوى الشخصي بسبب انسحاقه أمام الأعداء وعجزه أمامهم واستسلامه لمطالبهم، ويعيش الفقر لأن خيرات بلده وأمته وحياته يتحكم بها الأعداء، ويخسر دينه تدريجياً لأنه لم يلتزم بهذا الجهاد المقوي للدين وللمتدينين.
فلو لم يكن المؤمن قادراً على الجهاد، أولم تسنح الظروف الموضوعية لمشاركته فيه، فعلى الأقل يجب أن يعيش التفاعل مع الجهاد والرغبة به، حتى لو تمثل بحديثه مع نفسه في رغبة الجهاد. قال رسول الله(ص):" من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق"(25). إنه تقييم مختلف للحياة، فهي موت مع الذل والاستسلام، وهي حياة مع الجهاد والشهادة لنصرة الحق وإعزاز الأمة، وفي هذا قول أمير المؤمنين علي(ع):"
الموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين"(26).


تعبئة الشباب وقدوة الحسين (ع)
يحمل الإسلام قدرة تعبوية كبيرة لمعتنقيه، فالتركيز على الجانب الروحي، والتخلي عن ملذات الجسد والدنيا في سبيل الأهداف الأسمى، والوعد بالجنة ورضوان الله تعالى، تُكسب المسلم قدرة قوية للثبات على الإيمان والدفاع عن أطروحته. لكننا نرى اختلافاً كبيراً بين المسلمين، فمنهم من يكتفي ببعض واجبات الإسلام وينأى بنفسه عن قضايا الأمة، ومنهم من يتوقف عن حدود فكرة التضحية فلا يُقدِم على ما يؤدي إليها، ومنهم من يرفض ما عدا جماعته ويعطي الأولوية لمواجهة مخالفيه وللخلافات الداخلية أو المذهبية على حساب أولوية مواجهة أعداء البلاد والاستكبار، ومنهم من يربط حركته بضوابط دقيقة خاصة عندما يتعلق الأمر بالدماء ويلتزم سبيل الله مهما كلّفت التضحيات إذا صدر الأمر عن القيادة الشرعية المتمثلة بالولي الفقيه. وهكذا نرى اتجاهات عديدة في فهم وتطبيق الإسلام، وهذا عائد إلى العلماء القادة بحسب فهمهم وتوجيههم، ما يؤدي إلى تربية منسجمة مع تفسيرهم لمضمون الإسلام، وبناء على هذه الاتجاهات نرى الحركات والأحزاب وسلوكيات الأفراد في المجتمعات.
لكن ما قدَّمه حزب الله يبين أنها تربية الإسلام، وليست تربية جهة محددة أو خاصة. فعندما لا نجد الأمة تعيش روحية الشهادة والاستعداد لها، فلتقصير ونقص في وعيها والتزامها بتكليفها.وعندما نجح الحزب في هذه التعبئة، فلأنه انسجم مع تعاليم الإسلام، وقد حقق وجود وتوجيه الولي الفقيه المتمثل بالإمام الخميني(قده) ومن بعده بالإمام الخامنئي(حفظه الله) النموذج التطبيقي لإرادة الجهاد بطريقة واقعية وعملية وفاعلة.
وقد استغرب الغربيون هذا المستوى من التضحية الهادفة، واعتقدوا أنَّ شيئاً ما يحصل للشباب من تناول للعقاقير أو الخضوع لظروف حياتية خاصة أو سلوك تدريبات نفسية معقَّدة أو وجود حوافز مادية تعوض عن الحرمان، كي يُقبلوا على الشهادة‍! فالغرب اعتاد بحسب منطلقاته الفكرية، على تقديس الحياة المادية والتمسك بها مهما كلفت، فلم يعد قادراً على استيعاب معنى وجود الاستشهاديين إلاَّ بتفسيره المادي لإيمانهم. ومن حق الغربيين أن لا يفهموا الآثار التربوية الروحية بمنهج الإسلام، لأن الفهم له ولآثاره لا يقتصر على الفهم العقلي المجرد، وإنما يحتاج إلى معايشة فعلية وإلى مراقبة لمراحل حياة المجاهدين وأجواء المجتمع الإسلامي بشكل عام، ليتم بعض الإدراك في كيفية تكوين هذه الروحية الجهادية. أمَّا من سلَّم من الغربيين بها، فلأنه رآها واقعاً حقيقياً لا يمكن نفيه، وإن التبس عليه تفسيرها وغابت عنه الأسباب الحقيقية.
إنَّ الأصل - على أساس الارتباط بالدين- هو الاندفاع نحو الشهادة وليس الهروب منها، ونلاحظ الأعداد الكبيرة من الراغبين بالشهادة يتمنون تكليفهم بعمل استشهادي من موقع حرصهم على تحقيق رضوان الله تعالى والفوز بطاعته. ولا يأتي هذا الأمر من دون تثقيف وبناء روحي وأداء عبادي. فالاستشهاد ليس فكرة للإقناع فقط، إنها اختيار يتطلب إيماناً وتفاعلاً بعد جهد وجهاد مع النفس.
ولكن هل تعني الرغبة بالشهادة إسقاط الرغبة بالنصر؟ أبداً. فالجهاد له ثمرتان:الشهادة والنصر، فيفوز المستشهد بشهادته، ويفوز المجاهدون والأمة بالنصر. وقد عبَّر القرآن عنهما بالحسنيين:" قل هل تربصون بنا إلاَّ إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون"(27).
عندما يتربى الناس على النصر فقط ويكون الهدفَ من تحركهم، فهذا يعني توقف سعيهم عن مواجهة العدو إذا ما بدت علامات النصر بعيدة أو غامضة. لكن عندما يتربون على الشهادة فإن بذلهم سيكون في أقصى مستويات العطاء، وتكون حركتهم فعالة، فإذا استشهدوا فقد نالوا ما تمنوا، وإذا انتصروا فهي نعمة دنيوية لهم كثمرة لجهادهم. فالتربية على النصر لا تضمن تحقيق النصر وتُسقط أوراق القوة الكامنة في الأمة، أمَّا التربية على الشهادة فتستثمر كل الطاقات وتحقق النصر أو الشهادة أو كليهما معاً، فهي تفتح الآفاق على كل الاحتمالات وتحمل آمال النصر. إنَّ التربية على النصر تستلزم الاعتماد على الإمكانات المادية، أما التربية على الشهادة فتحرك المعنويات وتربط بالله تعالى، وعندها يكفي القليل من الإمكانات.
إنَّ القدوة في التربية على الشهادة، تؤدي إلى فعالية التأثير والتبني لنهج الشهادة. ولم تحصل حادثة في التاريخ أعظم من واقعة كربلاء، حيث استشهد الإمام الحسين(ع) وسبعون من خيرة أهل بيته وأصحابه دفاعاً عن الإصلاح في الأمة:" إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي" وإسقاطا للحاكم الظالم المنحرف، فيزيد:" قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله" وهو يعلم أن موقفه سيؤدي إلى الشهادة:" قد شاء الله عز وجل أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً"(28).
فعندما يتربى المجتمع على نموذج الإمام الحسين(ع) وأصحابه، يأخذ مدداً من سلوكهم، ويستقل تضحياته أمام تضحياتهم، ويدرك أهمية المواجهة من دون تحقيق النصر العسكري المباشر، وأن الأهداف الكبرى تتطلب مستويات عالية من البذل من دون توقع البدل.
فإذا لم يقف العدد حائلاً أمام جهاد الحسين(ع)، ولم تكن العدة العسكرية مانعة من خوض المعركة، وانحصر الخيار بين الهزيمة والاستسلام أو القتال والشهادة فآثر الشهادة، فما هو مبرر ركون الأمة من بعده إلى الظالمين وخضوعها لسطوة الأعداء؟‍‍!
لقد تعلَّمنا من الإمام الحسين(ع) حب الشهادة في حب الله، وعشق الجهاد في سبيل الإسلام. وأدركنا عظمة الإنجازات التي تحققت بشهادته بعد أجيال من نهضته في كربلاء، فنظره لم يكن إلى لحظة المعركة بل كان متوجهاً إلى مستقبل الإسلام والمسلمين.
كما تبيَّن أن الشهادة عندما تتم في واقع الناس، فإن التربية بها تتضاعف مرات ومرات، فالكلام عن الشهادة شيء والتفاعل مع الشهداء أصحاب العطاءات المميزة شيء آخر. فلو أعطينا دروساً مكثفة عن أهمية الشهادة والشهداء، وجعلناها عنواناً لكل حركتنا التثقيفية، وعملنا لسنوات طويلة في هذا الاتجاه، لما تمكَّنا من تحقيق جزء يسير من الاندفاعة المتصاعدة عند الشباب نتيجة عطاءات الشهداء.
تأثر الجميع بالشهداء، ودخلت روحية الشهادة إلى كل المستويات والفئات، وتفاعل الأهل معها إلى درجة الاستياء من عدم توفيق بعضهم لوجود شهيد من أسرتهم، وحمل الأطفال معنويات المجاهدين حتى أصبحت طموحاتهم باتجاه الشهادة أمراً عادياً ومنتشراً،وكثرت أعداد المجاهدين على الرغم من انعدام الامتيازات السياسية والعملية لهم في واقع الدولة. ومع أن الظروف معاكسة لنهج الشهادة، فإن تأثير دماء الشهداء كانت الأقوى، ما يدل على أنَّ الشهادة تحمل قدرة إحيائية وحيوية تنتشر في الأمة من دون موانع، وتتصدر حركتها بسرعة فائقة، وتهيء لإستثمار الطاقات الكامنة في الأمة.
إنَّ للمرأة النصيب الكبير في التربية والتعبئة الجهادية، وفي مواقعها المختلفة كأم وزوجة وأخت وابنة، فكم من أم ربت ولدها على الإيمان عندما كان صغيراً، ودفعته إلى المعركة عندما أصبح كبيراً، وكم من زوجة ساندت زوجها وتحملت معه تضحيات الجهاد، إنَّها التربية التي ترتقي بالمرأة إلى المستويات العظيمة من العطاء والتضحية.
وقد لمسنا هذا الأمر من عائلات المجاهدين والشهداء. وقد بلغت المطالبة ببعضهن بضرورة الإفساح في المجال لهن لحمل السلاح والقتال في ساحة المعركة. لكن التكليف الشرعي لايطالهن في واجب القتال مع توفر العدد الكافي من الرجال، وعدم وجود الضرورة المتوقفة على مشاركتهن، فدورهن في الخطوط الخلفية، في المدد والتعبئة، وهذا ينسجم مع القدرة الجسدية للمرأة ومع توزيع الأدوار بينها وبين الرجل، وهذا لا يُنقص من أجرها شيئاً عند الله تعالى، لأن الأجر مرتبط بالتكليف، وهي تقوم به من موقعها.


الاستشهاد والانتحار
إن التربية على الجهاد تعزز روح الاستشهاد والاستعداد للموت في سبيل الله، فالمنطلق للاستشهاد مبني على المفهوم الديني في وجود حياة أخرى، يعيش فيها الإنسان سعيداً وتتحقق فيها كامل أحلامه، فضلاً عن الثمار التي تجنيها الأمة من شهادته. فالشهادة لتحرير الأرض تتجاوز البعد المادي، لتكون تعبيراً عن الطاعة لله في وجوب الدفاع عن الأرض، فهي شهادة في سبيل الله تعالى.
فالاستشهاد فهو عمل طوعي إرادي، يقوم به إنسان يمتلك كل أسباب الحياة الدنيا والتمسك بها والحرص عليها، ولا يعاني من أي سبب للتخلص منها، إنه أداء لشباب مفعم بالحيوية وآمال المستقبل، لكنه مرتبط بتربية دينية روحية على الإيثار، بإيثار الآخرة على الدنيا، وإيثار الأمة على الفرد، وإيثار التضحية على المكاسب الرخيصة الذليلة.
إنه تعبير عن عطاء للنفس في حالة السمو، وهو مرتبط بمواجهة العدو ضمن ضوابط شرعية محددة. فلو توقف تحقيق الأذى للعدو أو إيقاع أكبر عدد ممكن من الخسائر في صفوفه أو الانتصار عليه على موت بعض المجاهدين واستشهادهم، فهذا عمل مشروع.
وهو يختلف عن الانتحار، فالانتحار تعبير عن اليأس من الحياة، وانسداد الأفق أمام تحقيق الأهداف، والإحباط الذي يؤدي إلى فقدان معنى الاستمرارية في الوجود، ما يجعل اليائس مندفعاً إلى إنهاء حياته، وهو ما يحصل عادة مع غير المؤمن. إذ أن المؤمن يعوِّل على تعويض إلهي له، وهو يعلم أن صبره سيؤدي إلى مكافأته، ولا يجوز أن ينهي حياته يائساً مهما كانت الصعوبات التي يواجهها، لأن العقاب العسير في نار جهنم هو الذي سينتظره، كما لا يحق له أن يتصرف بحياته التي وهبها الله تعالى إياه بهذه الطريقة، فهو أمين عليها، وليس حراً في التصرف بها باتجاه إنهائها كيفما كان.
لذا نلاحظ أن الأفراد المنتحرين هم اليائسون لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو عائلية أو سياسية، عندما تنسَدَّ أمامهم سبل تحقيق ما يرغبون، أو يعيشون عبء الاختبار والابتلاء الذي يواجههم.
ولا يخضع فهم الاستشهاد والموافقة عليه للأعراف الدولية أو سياسات المستكبرين أو تقييم الخصم له. فمن الطبيعي أن يشَّن هؤلاء حملة منظمة ومكثفة لانتقاد الاستشهاد ووصفه بنعوت مختلفة، لأنه سلاح خارج عن سلطة تأثيرهم من ناحية، وغير قابل للإسقاط من ناحية أخرى. فالمقبل على الشهادة فرد مؤمن قد باع جسده ونفسه لله تعالى، ولا يقف بوجهه تهديد أو خطر، فقد بنى موقفه على وهب حياته لقضيته، وبما أن الخصم لا يملك إلاَّ عوامل التهديد بهذه الحياة الدنيا، فهي تنفع مع الحريصين عليها، لكنها عديمة الجدوى مع المؤمنين بالشهادة.
ماذا يفعل أصحاب الحق إذا كانوا في وضع غير متكافئ مادياً وعسكرياً مع المعتدي؟ ماذا يفعل أصحاب الأرض المحتلة في فلسطين والمنطقة في مواجهة العدو الإسرائيلي الذي يملك أقوى وأحدث الإمكانات العسكرية ويحصل على كل الدعم الدولي لاحتلاله وعدوانه؟
تصدر دعوات كثيرة للجوء إلى الطرق الدبلوماسية والسياسية! لكنها أيضاً غير متكافئة، فالتحيز الدولي واضح إلى جانب إسرائيل، ولم يسعف منطقتنا وإعادة أراضينا أي قرار دولي حتى الآن. ولا نقبل بالمنطق البراغماتي الذي يتحدث عن ظروف قاهرة تستوجب المرونة والتسليم لها بانتظار متغيرات مستقبلية مجهولة، إمَّا بتغير القناعات الدولية واختلال التوازن ضد إسرائيل! وإمَّا بازدياد قوتنا لتكون متكافئة فتسرِّع عملية الحسم! إنَّ هذا المنطق يؤدي إلى الاستسلام والتخلي عن المسؤولية في استرداد الأرض والحق.
وماذا لو كانت الأغلبية متخاذلة عن واجبها الدفاعي؟ إنَّ هذا لا يبرر للمؤمن بأن يتصرف كما هو الموقف السائد. فهو مسؤول، وعليه واجب وتكليف، وليعمل بالحد الأدنى على استنهاض الأمة، فهو غير معذور إذا قصَّر الآخرون. وعندما ينعدم التكافؤ في القوة والإمكانات، فلا بدَّ من التفتيش عن أساليب وطرق تمكِّن من تعويض الضعف، لإيقاع الخسائر في العدو حتى تتغير المعادلة وتحقق الإنجازات.
كل ما يستطيعه العدو هو تخويفنا بالموت، فإذا أبطلنا هذا التخويف وعطَّلنا قوة الموت التي يهدد بها، فإننا نسير باتجاه تعزيز المعنويات وتحقيق خطوات نحو الانتصار، بانتظار تراكم هذه الإيجابيات مع الزمن، وحصول متغيرات تُثمِّر هذه النتائج،" وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم"(29).
إن سلاح الاستشهاد مصدر القوة الرئيس الذي يمكن الاتكاء عليه، وقد أثبت فعاليته عملياً، وهو الذي يجعل العدو يعيد النظر في حساباته وأهدافه، ويفهم بأن إمكاناته العسكرية الكبيرة والدعم الدولي المتواطئ لا يحققان الاستقرار له، فالشباب الاستشهادي بإيمانه أمضى وأفعل من جنود الاحتلال والعدوان.


نتائج عملية في لبنان
لقد حققت العمليات الاستشهادية والجهادية للمقاومة الإسلامية في لبنان أهدافاً عدة أبرزها:
1- التعويض عن خلل التوازن العسكري، وتحقيق نتائج مؤلمة للعدو بإمكانات متواضعة وتقنية بسيطة، مما أدى إلى زعزعة قدرة الجيش الإسرائيلي على حماية نفسه من جهة وعلى قدرة الردع من ناحية أخرى، فاضطر إلى الانسحاب سنة 1985 من أكثر من نصف الأراضي التي كان يحتلها، ليخفف من مساحة انتشاره ومن تعرضه لضربات المقاومة . فهو لا يتحمل عمليات عدة كعملية فاتح العمليات الاستشهادية الشهيد أحمد قصير الذي انطلق بسيارة مفخخة، ودمر مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور في 11/11/1982، وقتل وجرح 141 ضابطاً إسرائيلياً وعشرة مفقودين(30). واضطر إلى الاندحار من أغلب الأراضي اللبنانية في التحرير الكبير والأول من نوعه في المنطقة في 24 أيار 2000 بسبب عمليات المقاومة.
2- إعادة النظر بتعاطي القادة الإسرائيليين مع لبنان، فلم يعد قرار الاجتياح سهلاً، ولم يعد الاعتداء ميسَّراً في كل وقت خوفاً من ردود الفعل، فالتهديد بالقتل لا ينفع مع الراغبين بالشهادة.
وقد اعترف قادة العدو بفعالية سلاح الشهادة، فقال قائد المنطقة الشمالية:" إنَّ حرب لبنان لم تحقق نجاحاً، وكانت هناك آراء مختلفة في الغايات والأهداف، لقد أخطأنا في تقييم المقاومة المخربين (المقاومة)، أخطأنا في تقدير الزمان والمكان، أخطأنا في عدم إدراك مدى التشابك الطائفي في لبنان وتعقيده، أخطأنا في تقييم ردة فعل الجمهور، أخطأنا في الكثير بل في كل شيء"(31).
وقال عضو الكنيست الإسرائيلي يوسي بيليد:" إن رجال حزب الله لا يجننون الجيش الإسرائيلي وحسب، وإنما يجننون دولة إسرائيل بكاملها، فالجميع مشغول بهذا الأمر"(32)
3- إلتهاب مشاعر الحماس في المنطقة، واشتعال الانتفاضة في فلسطين، وعودة الأمل بالتحرير الشامل بسبب هذه الحالة التعبوية الكبرى التي برزت في غير مكان، خاصة في الداخل الفلسطيني برمته، حيث أصبحت العمليات الاستشهادية الفلسطينية طريق القوة الفعال في مواجهة إسرائيل.
4- افتضاح الجندي الإسرائيلي في اختبائه وراء آلته العسكرية، وخوفه من المواجهة القتالية المباشرة، وهروب قسم منهم من الجندية، ورغبة الآخرين بالعودة إلى داخل فلسطين المحتلة بأسرع من المتخيل، فقد أنهكوا وفقدوا الأمل بجدوى وجودهم في لبنان.
لا يقول أحد بأن العمليات الاستشهادية تحقق وحدها الانتصار وتقلب المعادلة، فالمطلوب ان نستخدم كل الوسائل المتاحة والإمكانات المتوفرة لاستخدامها في المواجهة. لكنَّ العمليات الاستشهادية تسد نقصاً كبيراً في القدرات المتوفرة، فإذا استطعنا تحقيق الانجازات وقتل العدو من دون إراقة نقطة دم واحدة فهو واجب، فالاستشهاد يهدف إلى كسر معادلة القوة المعادية التي عندما تتحقق بغيره فهو أولى، لأن النفس العزيزة لا تبذل إلا في نهاية المطاف، فلو أمكن قتل عدد من الأعداء بعبوة مثلاً، عندها لا يجوز التعرض للشهادة كبديل. وقد كان الحرص الدائم في أن توقع العمليات الاستشهادية خسائر كبيرة، وأن تكون ضمانة تحقيق أهدافها معقولة، مع ما يصاحب هذا كله من دقة وحكمة في الإدارة وحسن التخطيط والمتابعة والمسؤولية.

الهوامش
(1) الأمالي للصدوق- ص 553.
(2)  سورة الحج الآية 78.
(3)  تفسير الميزان-ج14 ص411.
(4) سورة البلد الآية 4.
(5)  سورة الانشقاق الآية 6.
(6) سورة هود الآية 113.
(7)  سورة محمد الآية 31.
(8) سورة آل عمران الآية 42.
(9) سورة المائدة الآية 54.
(10) نهج البلاغة- كتاب رقم 31.
(11) سورة العنكبوت الآية 6.
(12) سورة فصلت الآية 46.
(13) سورة العنكبوت الآية 69.
(14) على رأي أغلبية الفقهاء ولا يشذ عن هذه القاعدة إلا أفراد منهم.
(15) تحريرالوسيلة للإمام الخميني(قده)-ج1 ص 485.
(16) أجوبة الاستفتاءات-ج1 ص 21.
(17) سورة التوبة الآية 24.
(18) سورة التوبة الآية 88.
(19) الكافي للكليني-ج5 ص 2.
(20) نهج البلاغة- الخطبة 27.
(21) نهج البلاغة- حكم ومواعظ 31.
(22) الكافي للكليني- ج5 ص4.
(23) سورة التوبة الآية111.
(24) الأمالي للصدوق- ص 673.
(25) ميزان الحكمة- الباب 571- الجهاد.
(26) نهج البلاغة- الخطبة 15.
(27) سورة التوبة الآية 52.
(28) يمكن مراجعة كتاب"عاشوراء مددٌ وحياة" للمؤلف حيث يذكر في الفصل الأول سيرة وأقوال الإمام الحسين(ع) مع مصادرها.
(29) سورة آل عمران الآية 126.
(30) صحيفة الكفاح العربي-10/11/2001.
(31) يمكن مراجعة كتاب"عاشوراء مددٌ وحياة" للمؤلف حيث يذكر في الفصل الأول سيرة وأقوال الإمام الحسين(ع) مع مصادرها.
(32) صحيفة دافار 7/6/1985.
(33) مقابلة مع التلفزيون الإسرائيلي القناة الأولى 3/2/1984، الإعلام الحربي في المقاومة الإسلامية.