حزب الله ... المنهج.. التجربة.. المستقبل

الفصل الأول: الرؤية والاهداف

الفصل الأول: الرؤية والاهداف

أولاً: الإيمان بالإسلام
الإسلام هو الرسالة الأخيرة والشاملة لكل الرسالات السماوية. قال تعالى في القرآن الكريم:" إن هذا لفي الصحف الأولى* صحف إبراهيم وموسى"(1) إنه الدين الكامل والتام لكل حياة الإنسان، قال تعالى:" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"(2).
إنه عقيدة وشريعة. أما العقيدة فهي تخاطب العقل ليؤمن بواحد أحد خالق هذا الكون، إذ لا يُعقل أن تكون السماء وما فيها، والأرض وما فيها وما عليها، والحياة بتنوعها وامتدادها في المخلوقات كافة، والعلاقة التي تربط بين هذه الأمور جميعاً بنظام دقيق، إلاَّ مخلوقة لخالق مدبر قدير.
وقد أرسل رسله بالمعجزات لتبليغ الناس وتعريفهم على وظيفتهم وصلاحهم في هذه الدنيا، فكان أبرز الرسل أولي العزم الخمسة: نوح(ع) وإبراهيم(ع) وموسى(ع) وعيسى(ع) ومحمد(ص)، الذين بلَّغوا تعاليمهم، فكانت الكتب السماوية وآخرها القرآن الكريم، ذلك الكتاب المعجزة الذي لم يتغير ولم يُحرَّف، وهو النص الذي أملاه رب العالمين عبر جبرائيل(ع) على محمد(ص)، وقد تابع الأئمة المعصومون من أبناء الإمام علي بن أبي طالب(ع) دور التبليغ والتفسير والتفصيل لنهج الإسلام.
وحيث لم يخلق الله الحياة عبثاً:" أفحسبتم انما خلقناكم عبثاً وانكم إلينا لا ترجعون"(3) ومقتضى عدله أن يكافئ المؤمن الذي التزم شريعة الله وأحسن الانضباط في دائرتها بالجنة، وأن يعاقب الكافر والمنحرف والمسيء والظالم بالنار، كان يوم القيامة هو اليوم الذي يجتمع فيه العالم منذ قيام الحياة على الأرض للحساب، وقد اجمعت الرسالات السماوية على التنبيه إلى يوم القيامة، وضرورة تكثيف رصيد الاستقامة والصلاح لهذا اليوم.
وأما الشريعة فهي شاملة لكل الحاجات البشرية الفردية والاجتماعية، وقد تعرضت لها، بقواعد إجمالية، أو بتفاصيل دقيقة، وذلك بحسب تقدير متطلبات البشر، وقد بيَّن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هذه الأمور.

الإسلام دين شامل
من أجل إلقاء نظرة إجمالية على شمولية الإسلام، نسوق أمثلة عن المجالات المختلفة الموجودة فيه:
1- الإيمان بالله تعالى: الذي يوجب الالتزام بدينه واجتناب ما عداه، قال تعالى:"ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين"(4).
وسيكون الحساب في يوم القيامة على أساس هذا الالتزام، وعدم تضييع الحياة في ملذات الدنيا المحرمة، قال تعالى:" كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلاَّ متاع الغرور"(5).
وسيكون الرضا مشتركاً بين العبد وربه بسبب النتائج، قال تعالى:" والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم"(6).
2- العبادات: التي تصقل شخصية المؤمن في العلاقة مع ربه، كالصلاة والصوم والحج والزكاة، قال تعالى:" والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم"(7). وعن زرارة قال: قال أبو جعفر(ع): قال رسول الله(ص): بني الإسلام على عشرة أسهم: على شهادة أن لا إله إلاَّ الله وهي الملة، والصلاة وهي الفريضة، والصوم وهو الجُنّة، والزكاة وهي الطهر، والحج وهي الشريعة، والجهاد وهو الغزو، والأمر بالمعروف وهو الوفاء، والنهي عن المنكر وهو الحجة، والجماعة وهي الأُلفة، والعصمة وهي الطاعة(8).
3- تربية النفس: التي تخضع لتوجيه الإنسان، وتحتاج إلى متابعة يومية، بسبب قابليتها للشر. قال تعالى:" ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها"(9).
فالفائز من استطاع ضبطها ونهاها عن الهوى والمعاصي، قال تعالى:" وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى"(10). وفي تفسير الإمام الصادق(ع) لقوله تعالى: "ولمن خاف مقام ربه جنتان"(11) قال:" من علم أن الله يراه، ويسمع ما يقول، ويعلم ما يعمله من خير أو شر، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى"(12).
4- الاهتمام السياسي: بالاهتمام بأمور المسلمين، قال رسول الله(ص):" من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"(13).
وبعدم الركون إلى الظالمين، قال تعالى:" فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير* ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون"(14).
5- الجهاد في سبيل الله: بأعز ما يملكه الإنسان، من النفس والمال، من دون تردد عند الوجوب، قال تعالى:" انفروا خفاقاً وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون"(15).
ولتوضيح الصورة ففي مقام الأولوية يقدم الحب لله وللرسول وللجهاد على كل شيء، قال تعالى:" قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم واخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين"(16).
6- الاقتصاد: دعا الإسلام إلى المعاملات التجارية على قاعدة البيع وليس على قاعدة الربا، قال تعالى:" وأحل الله البيع وحرم الربا"(17).
كما وجه الإسلام الحاكم في كيفية فرض الضريبة(الخراج) بما يؤدي إلى زيادة الثروة، بحيث يكون النظر إلى الاعمار هو كأساس لاستجلاب الخراج وليس العكس.قال أمير المؤمنين علي (ع):" وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يُدرك إلاَّ بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلاَّ قليلاً، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة، أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خفَّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم"(18).
7- التكافل الاجتماعي: بتوزيع أموال الزكاة على المحتاجين في المجتمع وفي سبيل الله، قال تعالى:" إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم"(19).
أمَّا من يدفع اليتيم، ولا يسعى لاطعام المسكين، فهو مكذب عملي بيوم القيامة، قال تعالى:" أرأيت الذي يكذب بالدين* فذلك الذي يدع اليتيم* ولا يحض على طعام المسكين"(20).
8- الاحتكام إلى العقل ورفض التبعية: فليكن البرهان والدليل أساس للإيمان أو عدمه، قال تعالى:" أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض ءاله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"(21).
فلا يصح اتباع الآباء والأجداد ولو كانوا منحرفين وجاهلين، لمجرد الولادة والاعتياد على نمط معين، قال تعالى:" وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون"(22).
9- الحوار: فلا داعي للضغط والتأزم، إذ "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"(23)، وعليك أن تقدم أفكارك وقناعاتك بأسلوب حسن، فلست مسؤولاً عن قناعة الآخرين، ومرجع الجميع إلى الله تعالى، قال في القرآن الكريم:" أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين"(24).
10- العدل: هو القاعدة المعتمدة في كل شيء، وضابطتها الاستقامة في خط الله، والابتعاد عن الفحشاء والمنكر والظلم والانحراف، قال تعالى:" إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون"(25).
11- الأفضلية للتقوى: إن قيمة الإنسان لا تتحدد على أساس اللون أو العرق أو الجنس أو الجمال، بل قيمته تتحدد على أساس التقوى، قال تعالى:" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم"(26).
وقال رسول الله(ص):" ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلاَّ بالتقوى"(27).
على هذا الأساس فالإسلام عبادة وسياسة، للدنيا والآخرة، للفرد والمجتمع، للمسجد والدولة، للشدة والرحمة، للجهاد والسلم، هكذا كان رسول الله محمد(ص) حاكماً وقائداً وسياسياً وعابداً، فجسد الإنسان الكامل في أبهى صورة له. وعندما نحمل لواء الإسلام فإننا نعبد الله تعالى في كل موقع من مواقعنا، فصلاتنا عبادة، وجهادنا عبادة، وعدلنا عبادة، وخدمتنا للناس عبادة، ولا يمكن التجزئة بين ما هو لله وما هو للحاكم، أو بين ما هو لله وما هو للإنسان، فكل شيء لله، قال تعالى:" يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور"(28). أي ان الإنسان معني برعاية أوامر الله ونواهيه في كل شؤون حياته، فلا توجد دائرة لا دخل لله تعالى فيها ليعبث الفرد فيها، وحتى منطقة الفراغ التي تركها الله للإنسان، فهي في إطار الدائرة الكلية لتنظيم شؤون الحياة، وهي محكومة بالقواعد العامة الثابتة في الشريعة المقدسة.
بناء عليه، فلا يحق للفرد أن يكون معزولاً تحت عنوان العبادة، أو أن ينفرد في مسجده غير مبال بما حوله، فهو مسؤول كفرد وهو مسؤول كجزء من الأمة، ولا يتقرب إلى الله بالابتعاد عن الدنيا،" وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا"(29).
أراد ثلاثة من المؤمنين أن ينقطع كل واحد منهم عن ملذات الدنيا المحللة بطريقته، فقرر أحدهم أن يقضي لياليه مستيقظاً مصلياً مطيعاً لله تعالى، وقرر الثاني صيام جميع أيام حياته، وقرر الثالث الامتناع عن الزواج، وعندما علم رسول الله (ص) بحالهم قال:"ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"(30).


مواكبة الإسلام للحداثة
لكن هل يستطيع الإسلام مواكبة الحياة المعاصرة؟ فشموليته قد تكون نافعة لزمن التنزيل، ومع وجود المتغيرات التي تزيد عن 1400سنة، هل يعقل تطبيق ما كان يصلح في الزمن الماضي للوقت الحاضر؟
يسهل الجواب إذا عرفنا الثابت والمتغير في الإسلام. فقد اعتمد الإسلام على قواعد وأحكام ثابتة لها علاقة بفطرة الإنسان وطبيعة تكوينه، وتنسجم مع متغيرات الزمان. فالصلاة عبادة لصقل النفس الإنسانية في أي زمان كانت، والصوم تقوية للإرادة من أجل الإخلاص تمهيداً للتقوى حتى يستقيم المرء في حياته، والزواج مطلوب لإرواء الغريزة وإعمار الكون ضمن ثوابت تحمي النسل والأسرة والعلاقات الرحمية، والظلم مرفوض سواء أتى من ملك أو إمبراطور أو حاكم أو قائد أو زعيم عشيرة أو منتخب من الشعب، والعدل مطلوب من الفرد والمجتمع، والمحافظة على الأخلاق الفاضلة أساس لاستقرار وراحة المجتمع الإنساني.
إنَّ المتتبع للأحكام الإسلامية الثابتة في كلياتها أو جزئياتها، يلاحظ انطباقها على الإنسان كفرد، بما يلائم مصلحته، بصرف النظر عن المكان والزمان.
أما المتغير فكثير جداً، ويعالج الاجتهاد المفتوح في الشريعة كل متطلبات الحداثة، ويجيب عن الأسئلة والحوادث الواقعة، ويعيد النظر بما مضى من اجتهادات، ويأخذ الظروف المستجدة وأحكامها بعين الاعتبار، ما يوجد متسعاً لمواكبة التطور والمتغيرات.
فقد وضع الإسلام قواعد للحاكم الصالح، لكنه ترك المجال مفتوحاً لشكل إدارة الدولة، فانتخاب الرئيس يمكن أن يكون مباشراً من الشعب أو من مجلس النواب أو بالتمثيل النسبي. وترك كيفية تشكيل الحكومة سواء بوجودها أو بعدد أعضائها أو توزيع وظائفها أو الصلاحيات الممنوحة لها، كما لم يتدخل في طريقة تشكيلها بالاختيار لكل فرد من أفرادها في مجلس النواب أو بالاختيار الجماعي أو بأي شكل آخر، ليفسح في المجال أمام الاختيارات المتناسبة مع كل زمان.
ورسم قواعد النظام التربوي في واجب المعلم والمتعلم، ومسؤولية الأهل والمجتمع في تنشئة الأجيال، لكنه ترك المجال واسعاً لعملية التنسيق والتنظيم والإدارة بما يتلاءم مع كل عصر، فسواء أكان التعليم تحت الصنوبرة أو في المسجد أو في المدرسة أو في أبنية متنقلة، أو كان من خلال الكتاب أو الفيلم أو الكمبيوتر أو الأنترنت، فهذه من المسائل التي تعتبر في دائرة الاختيار المشروع لتحقيق الأهداف.
وحثَّ الإسلام على النظافة، قال الرسول(ص):" النظافة من الإيمان"(31) وركز على الماء كعنصر أساسي في تحصيل الطهارة والنظافة، وحدد تفاصيل الاستفادة من الماء لأداء العبادات التي تتطلب الطهارة المائية، لكنه ترك المجال واسعاً لتحقيق النظافة العامة وسلامة البيئة بكل الأشكال الملائمة، من استخدام للماء أو لمساحيق التنظيف، أو لكيفية تنظيف البيوت والشوارع، أو المحافظة على المحميات الزراعية ونظافة البحار والأنهر.
إذاً ثبّت الإسلام القواعد التي تلائم الفطرة الإنسانية، ولا تتغير بتغيّر الزمان لثبات حاجة الإنسان إليها، وترك مساحة واسعة تستوعب كل المتغيرات، وتواكب كل عصر ومصر، وهي التي سمَّاها الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قده) بمنطقة الفراغ، عند تناوله للمذهب الاقتصادي في الإسلام، قال:" فإن المذهب الاقتصادي في الإسلام يشتمل على جانبين: أحدهما قد مُلئ من قبل الإسلام بصورة منجزة، لا تقبل التغيير والتبديل، والآخر يشكِّل منطقة الفراغ في المذهب، قد ترك الإسلام مهمة ملئها إلى الدولة أو ولي الأمر، يملأها وفقاً لمتطلبات الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي ومقتضياتها في كل زمان.
ونحن حين نقول (منطقة فراغ)، فإنما نعني ذلك بالنسبة إلى الشريعة الإسلامية ونصوصها التشريعية، لا بالنسبة إلى الواقع التطبيقي للإسلام، الذي عاشته الأمة في عهد النبوة. فإن النبي الأعظم(ص) قد ملأ ذلك الفراغ بما كانت تتطلبه أهداف الشريعة في المجال الاقتصادي، على ضوء الظروف التي كان المجتمع الإسلامي يعيشها، غير أنَّه (ص) حين قام بعملية ملء هذا الفراغ، لم يملأه بوصفه نبياً مبلغاً للشريعة الإلهية الثابتة في كل مكان وزمان، ليكون هذا الملء الخاص من سيرة النبي(ص) لذلك الفراغ ، معبراً عن صيغ تشريعية ثابتة، وإنَّما ملأه بوصفه ولي الأمر، المكلف من قبل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقاً للظرف"(32).
وما ينطبق على الاقتصاد بالنسبة لمنطقة الفراغ، ينطبق على الأبواب الأخرى الإسلامي، فتكون التغطية الملائمة لمتطلبات العصر متأثرة بالاختيار البشري، الذي يُبدع كلَّما ألمَّ بجوانب هذه المتطلبات وأتقن تطبيق القواعد على الأمور المستجدة.
ومهما كانت قدرة البشر، فلن تصل إلى نموذجية النظام الإلهي. فإذا أجرينا مقارنة مبدأية عامة بين تشريع قرره الخالق لعباده وهو الخبير العليم، وتشريع يغيِّر فيه البشر العاجزون باستمرار، ويُخضعون الإنسانية لتجاربه المرَّة والمؤلمة من العبودية إلى الرق إلى الاستبداد فالرأسمالية ثم الشيوعية، وفي كل مرة يخرج العالم منهكاً من النتائج الخطيرة التي أثَّرت في الحياة على الرغم من بعض الإضاءات والإيجابيات هنا وهناك، فستكون النتيجة أن النظام الإلهي أفضل، وهذا ما تجسد في الإسلام الرسالة الجامعة لكل الرسالات السماوية. المهم أن نصغي ونتفهم ونتعرف على هذا الدين الحنيف، قبل أن نرفضه لاعتبارات دينية أو عرقية أو مناطقية، وأن لا نحمِّله أخطاء من حملوه فأساؤوا إليه، ولا نحمِّله مسؤولية الدسائس التي حاكها المعادون والمغرضون لتشويه صورته.


إقامة الدولة الإسلامية
وهل تعني هذه المقدمات الدعوة إلى إقامة دولة إسلامية ؟
لا يمكن لأي ملتزم إسلامي يحمل العقيدة الإسلامية ويؤمن بشريعتها، إلاَّ وأن يكون مشروع إقامة الدولة الإسلامية أحد التعابير الطبيعية لالتزامه الإسلامي، فهي تمثل العدالة التي يطمح إليها الإنسان. لكننا نفصِّل بين الرؤية الفكرية والتطبيق العملي، فنقول في الرؤية الفكرية: بأننا ندعو إلى إقامة الدولة الإسلامية، ونشجع الآخرين على قبولها لما تمثل من إسعاد للإنسان. أمَّا على المستوى العملي، فهذا الأمر يتطلب وجود الأرضية التي تتقبل إنشاء هذه الدولة، والأرضية هي هذا الشعب، الذي من حقه أن يختار ما يريد تحكيمه في حياته، وعلى قاعدة الآية القرآنية:" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم"(33)، ولا يمكن أن تكون إقامة الدولة الإسلامية من منطلق تبني فئة أو فريق، ثم يعمل هذا الفريق على فرضها أو فرض آرائه فيها على الفئات الأخرى، فهذا ما لا نقبله في هذا المشروع ولا في غيره من المشاريع والأفكار، سواء أكانت صادرة عنا أو عن غيرنا.
وقد صدر أول تعبير رسمي بهذا المعنى في الرسالة المفتوحة، التي أعلنها حزب الله في سنة 1985، حيث قال:" لكننا نؤكد أننا مقتنعون بالإسلام عقيدة ونظاماً، فكراً وحكماً، وندعو الجميع إلى التعرف إليه والاحتكام إلى شريعته، كما ندعوهم إلى تبنيه والالتزام بتعاليمه على المستوى الفردي والسياسي والاجتماعي. وإذا ما أتيح لشعبنا أن يختار بحريّة شكل نظام الحكم في لبنان، فإنه لن يرجِّح على الإسلام بديلاً. ومن هنا فإننا ندعو إلى اعتماد النظام الإسلامي على قاعدة الاختيار الحر والمباشر من قبل الناس، لا على قاعدة الفرض بالقوة كما يُخيَّل للبعض!"(34).
إنه نص واضح في الدعوة إلى إقامة الدولة الإسلامية، بناء على الاختيار الحر للناس إذا رغبوا بذلك وإذا شاؤوا. إننا منسجمون تماماً مع قناعاتنا، وأيضاً مع الظروف العملية الموضوعية، فطالما أن الظروف لا تسمح بذلك لأن اختيار الناس مختلف، أو لأي سبب آخر، فنحن معذورون في أننا بلَّغنا وأعلنَّا موقفنا، وعلى الناس أن يتحملوا مسؤوليتهم في نظام الحكم الذي يختارونه."ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"(35).
نحن نحاول أن نبث قناعاتنا في إطار العمل العام الذي نشارك فيه، علَّنا نخفف من سلبيات الابتعاد عن شريعة الله تعالى، ونعتبر أن تجربتنا السياسية في العمل الداخلي في لبنان أثبتت نمطاً ينسجم مع الرؤية الإسلامية في مجتمع مختلط، وفي دولة لا تحمل الفكر الإسلامي كإدارة وتوجه وقناعة أساسية في نظام الحكم. إذاً يمكن القول بأن إيماننا ينسجم مع كل أفكار الإسلام، وليس من حق أحد أن يلغي أي فكرة منه، أو أن يُنشيء نموذجاً جديداً مخالفاً للمضمون والتفسير الصحيح، أو أن يعترض على هذه القناعة المرتبطة بالإيمان بأحقية النظام الإلهي على غيره، لكن للأداء العملي مقوماته وظروفه الموضوعية. إن واجبنا هو الدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة:" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"(36).


حزب عقائدي أم طائفي؟
إن سلوك منهج الإسلام يتطلب فهماً تفصيلياً وتبنياً لرؤيةٍ في التفسير والتأويل، ومع وجود المذاهب الإسلامية المتعددة كطرق اختارها أصحابها للتعبير عن قناعاتهم بالسبيل الموصل إلى الالتزام بالشريعة المقدسة، كان لا بدَّ من اختيار إحدى هذه الطرق، فكان اختيار مذهب أهل البيت(عم) أو المذهب الشيعي، كالتزام وتبنٍ يترتب عليه مجموعة قواعد في الأصول والفروع، تشكل بمجموعها الخلفية الفكرية والفقهية التي استند إليها حزب الله في فهمه للإسلام.
فإذا قال قائل: لماذا لا تجعلوا اختياركم من مجموع المذاهب لإيجاد توليفة فقهية بينها، فتكونوا بذلك قد تصدَّيتم لمنهج عملي في الوحدة بين المسلمين؟
نقول: أمنيتنا الكبرى أن نكون في هذا الموقع الذي يوحِّد مذاهب المسلمين، لكنَّه أمرٌ معقَّد لم يتمكن الفقهاء من حلِّه خلال مئات السنين، ويتطلب لجاناً علمائية متخصصة تجري أبحاثاً موضوعية وجريئة لمناقشة القضايا كافة، وليس معلوماً إذا كان بإمكانها الوصول إلى نتيجة، أو أنها توجد مذهباً جديداً.علماً أن الأمر لا يقتصر على المذاهب الإسلامية، فإننا نجد في داخل المذهب الواحد اختلافات في التفسير والتأويل بين الفقهاء، وهذا أمرٌ علمي له علاقة بالتحصيل والاجتهاد ولا يمكن إلغاؤه بين البشر. فبدل أن نغرق في تمنيات وأحلام، وبدل أن نجعل من الاختلاف المذهبي أو داخل المذهب الواحد أزمة أو عقبة، فلنسعَ لتعزيز القواسم المشتركة على المستوى العملي والتي تؤدي إلى الوحدة بأشكالها الثقافية أو السياسية أو الجهادية أو غيرها، من دون التوقف عند الوحدة بكامل مفرداتها، ومن دون ربط الأمور ببعضها وتعقيدها، إذ توجد مجالات كثيرة تجتمع فيها قناعات علماء المسلمين أو منظماتهم، ويمكن أن تكون مقدمة مساعدة للمزيد من الوحدة. فالمطلوب أن نكون معاً في مواجهة التحديات، لا أن نتلهى بجنس الملائكة وأرضنا سليبة ومستقبلنا مهدد من الاستكبار العالمي الظالم! وإلاَّ أُخذنا على حين غرة، كما حصل في كثير من الحالات في تاريخ منطقتنا بسبب التوجه إلى المعركة الخاطئة في خضم التحديات. وبما أنَّ صاحب الاختيار مسؤول أمام الله تعالى، فليعمل بما يُرضي ربه بحسب قناعاته، والحساب على الله جلَّ وعلا.
بناء على ما تقدم، فالفرق كبير بين الاجتماع الطائفي المذهبي والاجتماع العقائدي المنهجي، أمَّا الأول فيجمع على عصبية الانتماء والولادة بصرف النظر عن المضمون، وأمَّا الثاني فيجمع على القناعة والالتزام وله ضوابطه وأدبياته وحركته العملية. كما يجب أن نميِّز بين الانتماء القهري بالهوية لكل من ولد من طائفة معينة، والانتماء الاختياري لمشروع متكامل في النظرة إلى الكون والإنسان والحياة. أمَّا من يخلط بينهما فهو: إمَّا جاهل بحقائق الأمور ما يستلزم إطلاعاً ومعرفة وتعلماً للتمييز، وإما قاصد للتدليس حتى يرمي الآخرين بتهمٍ تعفيه من النقاش الموضوعي، وإما قد التبست عليه الأمور وهو يقبل بالنقاش الهادئ الموضوعي لحسم خياراته سلباً أو إيجاباً.
وبما أن اختيار الحزب للإسلام وفق منهج أهل البيت(عم) مبني على قناعته بهذا المنهج، فمن الطبيعي أن يجتمع حول الأهداف المختارة ثُلة من المؤمنين بها، وأن يتفاعلوا معها، ويُشكلوا رصيد التنظيم والأنصار والموالين والمحبين. ومن الطبيعي أيضاً أن يكون الشيعة(مذهبياً) أكثر استجابة لهذا الاختيار لقلة التعقيدات والحواجز التي تمنعهم عنه، لكنَّ هذا لا يمنع أحداً من الالتزام بالأهداف والآلية التنظيمية المعتمدة ليكون جزءاً من هذه المسيرة. فإقبال قسم من الشيعة على حزب الله هو إقبال على الانتماء العقائدي لا الطائفي، إذ يوجد قسم آخر منهم لا ينتسبون إليه، فالجامع عقائدي فكري وليس طائفياً.
إنَّ العبرة في آثار المنهج، فعندما يؤدي الحزب دوراً وطنياً من موقعه الإسلامي، ويحرص على الوحدة الداخلية، ويعمل مع كل الأطراف لتحقيق التكامل في الأدوار خدمة للجميع، ويجاهد لتحرير الأرض من الاحتلال الصهيوني، وتتحقق له المكانة العربية والإسلامية، ويطرح قناعاته كما الآخرين بالأساليب السياسية المتاحة، فهذا يُسقط سيل الملاحظات التي تنطبق على كل القوى والأحزاب مع اختلاف طفيف في بعض التساؤلات. ولا يمكن جمع الناس كيفما كان وتحت أي عنوان، بل لا بدَّ من تحديد رؤية معينة يقبلها البعض ويرفضها البعض الآخر، وهذه هي سنة الحياة الدنيا.
ولا يستطيع أحد أن ينصَّب نفسه حكماً فيما يجوز طرحه وما لا يجوز! فكما أن لكل جهة أو حزب أو منظمة قناعاتها التي تروج لها وتحاول اكتساب الانصار لها، فللحزب قناعاته التي يعمل لها. وليس هناك ممنوع إلاَّ إذا كان ظلماً أو اعتداء أو فرضاً بالقوة، والواقع الاجتماعي والسياسي كفيل بإسقاط النمط المنفرد واللاغي للآخرين قهراً.

الهوامش
(1) سورة الأعلى الآيتان 18-19.
(2) سورة المائدة الآية 3.
(3) سورة المؤمنون الآية 115.
(4) سورة النحل الآية 36.
(5) سورة آل عمران الآية 185.
(6) سورة التوبة الآية 100.
(7) سورة التوبة الآية 71.
(8) الخصال للشيخ الصدوق- ص 447.
(9) سورة الشمس الآيات 7-10.
(10) سورة النازعات الآيتان 40-41.
(11) سورة الرحمن الآية 46.
(12) الكافي للكليني- ج2 ص 70.
(13) وسائل الشيعة للحر العاملي- ج 61 ص 336.
(14) سورة هود الآيتان 112-113.
(15) سورة التوبة الآية 41.
(16) سورة التوبة الآية 24.
(17) سورة البقرة الآية 275.
(18) نهج البلاغة- الكتاب 53 الذي وجهه إلى مالك الأشتر عندما ولَّاه على مصر.
(19) سورة التوبة الآية 60.
(20) سورة الماعون الآيات 1-3.
(21) سورة النمل الآية 64.
(22) سورة البقرة الآية 170.
(23) سورة البقرة الآية 256.
(24) سورة النحل الآية 125.
(25) سورة النحل الآية 90.
(26) سورة الحجرات الآية 13.
(27) مسند أحمد- ج5 ص 411.
(28)سورة الحج الآية 76.
(29) سورة القصص الآية 77.
(30) كنز العمال للمتقي الهندي-ج3 ص31
(31)كتاب الطهارة للسيد الخوئي-ج1 ص 46
(32) اقتصادنا للشهيد السيد محمد باقر الصدر_ ص356.
(33) سورة البقرة الآية 256.
(34) الرسالة المفتوحة التي وجهها حزب الله إلى المستضعفين في لبنان والعالم سنة 1985 -ص 19-20.
(35) سورة يونس الآية 99.
(36) سورة النحل الآية 125.