الحضور والتأثير
أطلَّ حزب الله على الساحة العملية من خلال المقاومة، وارتبط خطابه تبعاً لأولويته بالعمل العسكري ضد إسرائيل، وأنجز خلال فترة وجيزة حضوراً مميزاً في عملياته الجهادية النوعية، ولم تكن الحياة السياسية موجودة في لبنان خلال نشوئه بسبب الحرب الداخلية(1)، واتجهت الأنظار الدولية والإسرائيلية إلى نمو الحزب المقاوم وخروجه إلى العلن في مطلع العام 1985، فانهمرت الاتهامات عليه بالأصولية والإرهاب، وظهرَّت وسائل الإعلام الأجنبية - بتوجيه استخباري- صورة الحزب المقاتل والصلب الذي لا يمكن التعايش معه، وتتالت التصريحات والتحليلات الأجنبية وبعض المحلية عن مناطق مقفلة للحزب، وحياة خاصة لم يعهدها الناس، وصلابة لا تُبقي صاحباً ولا تبني علاقة، وشدة برزت من خلال المواجهات القاسية مع الجيش الإسرائيلي وعملائه، ما ربط الحزب بحضوره وصورته العسكرية، حتى ترسخت القناعة عند أكثر المحللين والناس، أن وجود الحزب مرتبط بالمقاومة، ولا شيء عنده غيرها، ولا يستطيع الاستمرار بدونها، فإذا تم التوصل إلى تسوية ما في المنطقة، فسيكون الحزب ضحيتها، وبالتالي فحضوره ووجوده مؤقت، ولمرحلة خاصة في الصراع مع إسرائيل.
ولَّد هذا الانطباع مناخاً عاماً عن حصرية اهتمام الحزب بالمقاومة، شمل أيضاً شريحة من قاعدة الحزب، بسبب ظروف النشأة وضرورات التعبئة ضد الاحتلال وواقع لبنان. وهذا ما تطلب جهداً ثقافياً وتربوياً وعملياً في الأوساط المؤيدة، عندما قرر الحزب المشاركة في الانتخابات النيابية عام 1992، كما تطلَّب خطاباً عاماً، وإجابات على أسئلة صحفية متكررة ومتلاحقة، وتوضيحات تفصيلية أثناء بناء العلاقة مع الشخصيات والأطراف المختلفة.
ساهم خطاب الحزب، إضافة إلى العمل الميداني شعبياً ونقابياً وانتخابياً ونيابياً وسياسياً في الاكتشاف التدريجي لنظرة الحزب الشمولية، ورؤيته للعمل السياسي، واهتماماته المتنوعة، شأنه شأن أي حزب يعمل في بلده، مع تمايزه بمنهجه وما ترتب عليه من أهداف، وخصوصية المقاومة في لبنان.
فالحزب إسلامي قبل أن يكون مقاوماً، والتزامه العقائدي هو الذي دفعه ليرفض الاحتلال ويقاتل إسرائيل، فهو يحمل منهجاً للحياة بشموليتها، ولا يقتصر واجبه على ناحية دون أخرى، وإن برزت أولوية الجهاد على غيرها. وقد تحققت مكانته وانتشاره الشعبي من إيمانه بهذا المنهج، الذي يقدم حلولاً لمشاكل الواقع، حيث توفق الحزب في تجسيد جزء منها بمقاومة الاحتلال، بأداء مميز وتجربة ناجحة، أتت ثمارها بالتحرير في 24 أيار 2000، وبسلوكيات فردية وعامة، اجتماعية وسياسية وعسكرية، أثَّرت في جمهور عريض، أيَّد وناصر والتف حول قيادته.
بناء عليه لم يعد الحزب فكرة للاقناع، بل تحول إلى واقع متجذر في كيان الأمة، ولم يقتصر الحزب على المجموعات الجهادية العسكرية، بل دخل في كل النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي للناس، ولم يتوقف عند حدود المحازبين، بل أصبح تياراً شعبياً واسعاً يشمل الرجال والنساء والأطفال، ويتجاوز الحدود المذهبية والمناطقية. فإذا كانت الاستمرارية ترتبط بالتكوُّن النظري للفكرة والخطة والبرنامج، والمسار العملي يرتبط بالامتداد الشعبي، فهما متحققان في الحزب، ما يعطيه قابلية الاستمرار بثبات، فكيف إذا اجتاز امتحانات عدَّة(2)، راهن البعض عليها لتكون محطته النهائية، فخرج الحزب منها أقوى، وأسَّس بعدها للمزيد من الحضور والتأثير.
أما التهديدات الأمريكية الإسرائيلية المتكررة، فهي جزء من وسائل الضغط على الحزب ومن يؤيده، وتدخل في إطار الحرب النفسية، التي إذا نجحت توفر النتائج المطلوبة، من دون التورط بأعمال لها مفاعيل سلبية مضادة، لكنها لم تجد نفعاً مع حزب عقائدي، يعلم تماماً طبيعة أهدافه، وما يمكن أن يتحمله في سبيلها. لذا كانت تتحول التهديدات في بعض المحطات إلى اعتداءات كبيرة، وهي قابلة للتكرار، فهي جزء من المواجهة، لكنها لا تضمن للعدو فرصة تحقيق ما يريد بل قد ترتد عليه، وهذا ما حصل فاضطر للانسحاب من جزء كبير من لبنان، على الرغم من كل الأساليب العدوانية التي استخدمها. ولا يتوقع أحد أن تكون نتيجة العدوان عادية ففيها التضحيات الكبرى، إلاَّ أن نتائج الصمود أكبر بكثير. وبما أن السياسة الأمريكية الإسرائيلية مبنية على فرض واقع الاحتلال وشروطه بالقوة، فالخيار محصور بالاستسلام أو المواجهة.
وقد أحرز حزب الله تقدماً في النظرة إليه، وتوسعت علاقاته الإقليمية والدولية، وحصل تعديل نسبي في طريقة تعامل الغرب معه، وهذا يعود إلى حكمة أدائه وبيانه وعلاقاته. ولا يمكن التعويل على هذا المؤشر ومدى استمراريته، إلا أنه يحمل دلالة على الأهمية التي اكتسبها الحزب، حيث استطاع تغيير الصورة السلبية التي رُوج لها مع بداية نشأته.
احتمالان للضغط
وبما أن الهجمة شديدة على الحزب ووجوده ودوره وأهدافه، فإن التساؤل عن استمراريته يبقى حاضراً، فإذا لم يكن بالإمكان تصفية وجوده مباشرة عبر الاعتداءات الإسرائيلية، فإن تطورات المنطقة قد تؤدي إلى ظروف تحصل فيها إحدى حالتين أو كلاهما معاً:
1- تحريك فتنة داخلية مع الجيش اللبناني، أو مع قوى محلية، تستدعي أداء سياسياً من الحكم اللبناني يلغي وجود الحزب كمقاومة.
هذا الاحتمال لا يحصل كمشكلة عابرة، بل ينطلق من موقف سياسي تبرز مقدماته تدريجياً باتجاه الفتنة لتسهِّل النتيجة. ولكن لا قابلية لحصوله، لأن الموقف السياسي للجيش اللبناني والأطراف المحلية الفاعلة والميدانية منسجم تماماً مع الموقف المقاوم وداعم له، وقد نُسجت التحالفات السياسية في لبنان على أساس الموقف من إسرائيل، الذي أعطى المقاومة أولوية في الاهتمام والتبني. ومع ارتباط هذا الموقف بالظروف الإقليمية، فإنه لا ينعقد من دونها، وبخاصة الموقف السوري، الذي لا يسمح بما يؤدي إلى التصادم مع المقاومة. فإذا أضفنا أسلوب المقاومة في التعاطي مع القضايا الداخلية، ومراعاة القوى المحلية، وترك التدخل في خصوصيات الدولة الأمنية، أمكن استيعاب سبب اطمئنان الواقع الداخلي، وعدم دفعه إلى التفكير بالتصادم مع المقاومة، فالتصادم لا يخدم هذه القوى، وإنما يستفيد منه خصوم لبنان.
2- مقايضة سوريا بالتخلص من الضغوطات التي تُمارس عليها مقابل التخلي عن دعم الحزب، وبما أنها الجهة التي توفر الغطاء السياسي المساعد لاستمرارية المقاومة، فإن رفع هذا الغطاء يكشف الحزب ويجعله مستفرداً فيسهل ضرب المقاومة.
لكن هذا الاحتمال غير وارد أيضاً، لأن العلاقة الاستراتيجية التي نمت بشكل تدريجي وهادئ بين سوريا والحزب، والقواسم المشتركة في النظرة إلى تطورات المنطقة، والمصداقية التي حكمت تاريخ جهاد الحزب منذ الاجتياح حتى التحرير وما بعده، والحاجة الفعلية لبقاء التعاون بين الطرفين لمواجهة التحديات، وجدِّية الموقف السوري من الاحتلال الإسرائيلي وحق تحرير الأرض ... كلها عوامل تؤكد على استحالة هذا الاحتمال.
ومهما كانت الظروف صعبة ومعقدة، فالخيارات مفتوحة للتعاون المناسب بين سوريا والحزب، بما يساعد على تخطي العقبات والمخاطر بأقل الخسائر الممكنة وبأعلى مستوى من التفاهم. فعندما تتحمل سوريا منفردة وفي اللحظات الصعبة، في زمن المرحوم الرئيس حافظ الأسد عبء الدفاع عن حق لبنان وفلسطين بمقاومة المحتل، وترفض المساواة بين المقاومة وبين الإرهاب، وعندما يرفض الرئيس الدكتور بشار الأسد أي خدش بالمقاومة وبسلامة أهدافها، ويعلن تمسكه بخيارها من دون تحفظ، فهذا يختلف عن مجرد التأييد أو الدعم العابر أو الحديث عن حق يجب أن يُراعى، فقد تحولت المقاومة إلى جزء لا يتجزأ من الإيمان والسياسة السورية الثابتة، وهذه ضمانة مهمة لعدم الاختراق والمقايضة المزعومة.
استمرارية المقاومة
هل يعني هذا أن المقاومة مستمرة بشكل دائم ولا عائق أمامها؟
لقد نشأت المقاومة كرد فعل على الاحتلال الإسرائيلي، الذي انطلق من فلسطين وامتدَّ إلى المنطقة العربية، وما دام الاحتلال موجوداً فإن المقاومة مستمرة، لأنها انطلقت من الإيمان بإزالة الاحتلال، ولم تكن حالة عرضية أو عشوائية. وبما أن مفاعيل الاحتلال امتدت لتشمل احتلال الأرض، وإرهاب المنطقة، وتهجير الفلسطينيين، واختراق الأجواء والمياه الإقليمية لدول مجاورة كلبنان، فمقاومته يجب أن تستمر، وبطرق مختلفة، تنسجم مع طبيعة الظروف الميدانية الجغرافية، وبالأساليب التي تُفوِّت على إسرائيل تحقيق أهدافها، وبالاستفادة أيضاً من الواقع السياسي الإقليمي والدولي.
ولطالما طرح الدبلوماسيون والصحافيون سؤالاً على حزب الله: ماذا سيفعل الحزب فيما لو تحررت الأراضي اللبنانية بالكامل وتم الإفراج عن المعتقلين والأسرى؟ وهو سؤال تحتاج إسرائيل وأمريكا معرفة الإجابة عنه، لبناء منظومة من الخطط والمواجهة تنسجم مع الإجابة. لكنَّ الحزب أصرَّ على عدم الإجابة. فالأمور متشابكة ومترابطة، والتطورات تحمل الكثير من المفاجآت والمتغيرات، ولكل احتمال مستقبلي إجابة تفصيلية مختلفة، وبما أن الاحتمالات كثيرة فالإجابات كثيرة، وحيث تؤدي الإجابة إلى تحقيق رغبة إسرائيلية فالأفضل أن تبقى مبهمة، ولا داعي لأن تقيّد المقاومة نفسها بأجوبة تُلزمها أو تضعها أمام مساءلة من الآن، إضافة إلى تعقيدات وترابط التطورات على الساحات الفلسطينية واللبنانية والسورية وما يمكن أن تفعله إسرائيل في المنطقة، وهذا ما يتطلب جهوزية عالية لا تنفع معها كثرة التصريحات.
كما لا يمكن تحديد طريقة عمل واحدة للمقاومة، ولا يمكن تقييدها بأساليب محددة، بل من الحكمة إبقاء الخيارات مفتوحة أمامها. ولا داعي لرسم نتائجها المستقبلية وما يمكن أن تقوم به لتصل إليها، حتى لا تنكشف مخططاتها للعدو، وكي يبقى في حالة قلق مما تختزنه المقاومة من قوة ومفاجآت وأداء مستقبلي.
لم يسبق للمحتل الإسرائيلي أن التزم بخيار مستقبلي محدد، ليُبقي الطرق مفتوحة أمامه، وليستفيد من مناورة الخيارات المحتملة إلى أقصى حد، فحدود ومساحة فلسطين خاضعة للتفاوض، وطبيعة الدولة الفلسطينية تحسمها المفاوضات، والمدى الزمني الذي يرسم الوضع النهائي مرتبط باطمئنان الإسرائيلي على أمنه، ولا تُحدد الخطوات اللاحقة إلاَّ بعد الانتهاء من كل خطوة بطريقة منفصلة عن غيرها. فما الداعي لنتصرف بغير طريقته في إبقاء الخيارات مفتوحة؟!
وإذا تخوف البعض من إبقاء لبنان في دائرة المواجهة بهذه النظرة للمقاومة، فإن تخوفه خاطئ في تحديد سبب المواجهة، لأن العدوان على لبنان بدأ من إسرائيل بعنوان تحقيق المدى الأمني للاحتلال، واستمر لفترة 22 سنة من أجل استدراج لبنان لاتفاق سياسي وضمانات أمنية لمصلحة الكيان الإسرائيلي، ومع انسحاب الهزيمة عام 2000، فإن مطامع الاحتلال في لبنان لم تتوقف، وإذا لم يُقدم على مغامرة عدوان جديدة حتى الآن فلخشيته من جهوزية المقاومة الإسلامية وردة فعلها، ما يؤكد ضرورة إبقاء القدرة المقاومة للبنان كي يتصدى للأخطار المحتملة، فضلاً عن تبعات الاحتلال التي لا زالت مترتبة على لبنان، من وجود اللاجئين على أرضه، إلى الاختراقات الدائمة لأجوائه ومياهه الإقليمية، واحتلال مزارع شبعا، ووجود الأسرى والمعتقلين، ومحاولة منعه من الاستفادة من مياهه. ومهما عالجت إسرائيل مضطرة لبعض هذه الملفات، فإنها ستبقى الخطر المستقبلي على لبنان.
لبنان وفلسطين
ولا ننس مسؤوليتنا في مؤازرة الشعب الفلسطيني، وترابط قضيته مع واقعنا، وانعكاس القضية الفلسطينية على لبنان والمنطقة، وهذا ما يجعل الإيمان بالتحرير قضية واحدة، والمصالح المشتركة هماً واحداً. أمَّا كيفية المؤازرة والدعم، فهي من عوامل القوة في الموقف والتي تُمارس عملياً ولا ينفع الحديث عنها، وهي مرتبطة بعوامل كثيرة سياسية وجغرافية وميدانية.
فالقاعدة الأساس في مواجهة الخطر الإسرائيلي الآتي والمستقبلي هي: أنَّ الكيان الإسرائيلي يشكل خطراً كبيراً على فلسطين والمنطقة، ويجب مواجهته ورفضه ومقاومته، وإعداد العدة اللازمة للتصدي له، والتعاطي مع كل مرحلة بحسب مستلزماتها، على قاعدة رفض تشريع الاحتلال واستمرار مقاومته كأصل، ولا داعي للحديث عن أي خطوة مستقبلية، فلكل حادث حديث.
هل هذا يعني أن الجبهة اللبنانية قد تُفتح للتواصل مع الداخل الفلسطيني؟ إنَّه سؤال مستقبلي يخضع لطريقة التعاطي مع كل الأسئلة المستقبلية، التي لا تسدي الإجابة عنها خدمة لإسرائيل. فلا يضمن أحد ما سيكون عليه حجم العدوان المستقبلي، والجبهات التي يمكن أن تُفتح أو تُقفل، فالمسألة لا ترتبط بما تقرره المقاومة فقط، بل ترتبط بمجموعة من التطورات الإقليمية التي قد تفتح الأبواب على كل الاحتمالات، فلا داعي للعجلة، لأن المهم هو التحصين والاستعداد لمواجهة التحديات، من دون السقوط أمام التهويل والتهديدات المتكررة، فهي أقل بكثير من النتائج الصعبة والخطرة التي تنشأ عن التسليم لضغوطات الصهاينة ومطالبهم.
آمن الحزب بوجوب تحرير كامل فلسطين والأراضي العربية المحتلة، وأعتبر أن زرع الكيان الصهيوني في المنطقة غير مشروع ، فهو غدة سرطانية ووجوده مقدمة للسيطرة على المنطقة بأسرها، ولا تبرر مصالح الدول الاستكبارية ودعمها للكيان الغاصب خضوع المنطقة لمشروع الاحتلال، فمن الضروري والواجب الشرعي والإنساني والأخلاقي والقانوني بذل أقصى الجهد للتحرير. وإذا كان فرض الاحتلال بقوة السلاح والدعم الدولي، فإن إسقاط الاحتلال يكون بقوة المقاومة وتعاون القوى التحررية في المنطقة.
هذا لا يعني أن الطريق معبَّدة وأن النتائج سريعة، لكن يجب أن تكون الآمال كبيرة وأن يتم السعي لتحقيقها، وأن تبحث كل القوى التحررية عن وسائل التعاون والدعم ومقاومة الاحتلال.
فلو سلَّمنا جدلاً بحصول التسوية، ورُسمت معالم جديدة لفلسطين والمنطقة، فإن الحزب لا يمكنه أن يقبل أو أن يوقع على مثل هذه التسوية التي تُلزم أصحابها، ولا تغير واقع فلسطين في أنها لأصحاب الأرض الأصليين. لكن كيف تترجم هذه الممانعة؟ فهذا يرتبط بالتطورات والظروف، لكن عندما تكون الممانعة هي الأصل، فمن الطبيعي أن يتلازم معها إعداد عدتها، ولا داعي لاستعجال الاحتمالات الكثيرة في هذا الاتجاه.
إن الحزب يأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية التي تحيط به، ويُدخلها في حسابه في إجراءاته العملية، لكنه لا يخضع Kأن الطريق معبَّدة وأن النتائج مضمونة. لكن يجب أن تكون الآمال كبيرة وأن يتم السعي لتحقيقها، وأن تبحث كل القوى التحررية عن وسائل التعاون والدعم والمقاومةلها ولا يستسلم لضغوطاتها. إنه حريص على إيمانه وثوابته حيث لا تؤثر التكتيكات المرحلية عليها ولا تكون ثمناً للتخلي عنها، وهو يستفيد من الظروف السياسية، للنفاذ منها باتجاه تقوية عوامل تحقيق أهداف المقاومة. فهو لا يعزل المقاومة عن العوامل المحيطة بها بطريقة تجريديه، لكنه لا يجعلها جزءاً من صفقة أو مساومة على حل سياسي يُسقطها، في مقابل ما يكرس شرعية الاحتلال. فلا بديل عن التحرير ولو طال الزمن وكثرت العوائق، لكنَّ المهم هو الثقة بالله وبالنفس والحق، والصبر على الصعوبات والتضحيات، وعدم استعجال النتائج.
توقعات المستقبل
عند الحديث عن المستقبل، لا بدَّ من تقييم الحاضر، الذي يحمل مقومات النجاح أو الفشل، الاستمرارية أو الانحسار، النمو أو الاضمحلال، لتكون مؤشرات التقييم مساعدة في رسم الصورة المستقبلية المحتلمة.
فإذا عدنا إلى المنهج، نجد أنه منهج الإسلام الذي استمر قوياً فاعلاً، على الرغم من مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة على طرحه، وهو الذي بُنيت على أساسه وانطلقت مسيرة حزب الله بهذا الثبات والوضوح. وبما أنَّ الانتماء لا ينفصل عن التربية العقائدية والسلوك الإسلامي، وحيث يُعتبر التثقيف والتعبئة جزءاً أساسياً من نمط عمل الحزب، فإن التأصيل العقائدي والشرعي قد ربَّى جماعة متمسكة بالمنهج، الذي يحمل قدرة ذاتية على الاستمرار،" إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنَّا له لحافظون"(3). وهو تأصيل لم يقتصر على المحازبين، وإنما شمل شرائح الأمة المختلفة، بمواقعهم وأنشطتهم ومستوياتهم العمرية المختلفة، وبما هم متواجدون في الدائرة الشعبية الواسعة.
لم يعمل الحزب ليربط الناس به كمحور بمعزل عن المنهج، وما يُسجل للحزب، نجاحه في ان يكون إطاراً فاعلاً لحشد الطاقات، وتوزيع الأدوار، وربط الجماعة ببعضها، وانجاز تجربة عملية في ساحة الجهاد، وفي ترجمة المضمون الإسلامي السليم. وهذا يعطيه حصانة التماسك والنمو والصمود أمام التحديات.
وبما أن النمو كان طبيعياً، من الضعف إلى القوة، ومن القلة إلى الكثرة، ومن العزلة إلى التعاون، فقد رسَّخت هذه الخطوات بناء متيناً، على الرغم من التطور السريع الذي ارتبط بشكل أساس بحجم التضحيات، وقبل وبعد كل شيء بتسديد الله لعباده المؤمنين" يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"(4) فالبناء المركَّز والثابت لا يمكن أن ينهار بتهويل أو قرار استكباري.
فإذا أضفنا حاجة الناس إلى من يقودهم ويسير أمامهم، وما حققته طروحات الحزب وتجربته وإنجازاته من إشراقة أمل في المنطقة بواقعها الأليم والمحبط، وما آلت إليه تجارب المستسلمين والمنسحقين أمام الاستكبار وإسرائيل، فإن النتائج الواعدة للاستمرارية متوقعة أكثر من أي احتمال آخر.
وكي تكون الأمور أكثر وضوحاً، فإن الخطر على الحزب وعلى غيره من القوى الحية، يأتي من القرارات العدوانية لأمريكا وإسرائيل. أمَّا تجربة إسرائيل في فرض حدودها وأمنها، رغم مرور 54 سنة على احتلالها لفلسطين، فلم تنجح حتى الآن، وأمَّا تجربة أمريكا بأساليبها المشابهة للأساليب الإسرائيلية فهي تسير في مخاض عسير، واضطرت في بداية الطريق لمواجهة حملة عارمة من الكراهية لها في المنطقة، ولم تستطع تسخير نفوذها لتحريك أدواتها، فانكشفت في أداء استكباري إرهابي مباشر، وهذه بداية السقوط وعدم القدرة على تحقيق الأهداف.
على الرغم من القرار الأمريكي بالتغيير الجيو سياسي في المنطقة، عبر العدوان المباشر على العراق، فإن فلسطين ولبنان وسوريا داخلة في حصة العدوان الإسرائيلي المباشر، الذي يريد الاستفادة من تداعيات العدوان الأمريكي، لتحقيق مشروعه.
لكن لأن إسرائيل فشلت في الاعتماد على نفسها، فإن أمريكا ستكون داعمة وموجهة، وبما أننا ناقشنا قدرة إسرائيل وأثبتنا عجزها عن إنجاز استقرارها، فلنناقش قدرة أمريكا برؤية إجمالية تتعلق بالسيطرة على المنطقة ومن ضمنها ضرب حزب الله، من دون التوقف عند المباشرة الإسرائيلية(التي تعثرت) أو المباشرة الأمريكية (المستبعدة) لها.
إن أمريكا قادرة على التخريب في المنطقة، وعلى الاعتداء على ثرواتها وأنظمتها وشعوبها وأحزابها، لكنها قدرة المحتل والمستعمر، التي لا تؤدي إلى الاستمرارية والاستقرار، أما قدرتنا على حشد الطاقات والمقاومة فهي مستمرة ومتصاعدة، فحقنا يحمل قوة ذاتية، ومنطقنا قوي، ونحن مصممون على متابعة المسيرة.
ثم من الخطأ أن ينحصر التفكير باللحظة الحاضرة، وطبيعة ظروفها والمعادلات التي تحيط بها، فالسؤال عن المستقبل هو سؤال عن مستقبل أمريكا وإسرائيل والعالم والمنطقة كما هو عن مستقبل حزب الله، لأن عوامل التغيير والضغط والظروف السياسية لا تختص بفئة دون غيرها، ومؤشرات النجاح أو الفشل تخضع لقواعد وسنن تنطبق على الجميع، مع ميزة يعيشها المؤمنون من اطمئنان وثقة بدعم الله تعالى لهم، تمدّهم بقوة إضافية فيستفيدون من نتائج الإيمان التي لا يستفيد منها المعتدون.
فلننزع الوهم من نفوسنا عن قوة العدو التي لا تقهر، فلكل عدو نقاط ضعف وعلينا معرفتها والتركيز عليها جيداً، ولنقم بواجبنا في بذل الجهد للمحافظة على قيمنا واستقلالنا، ولنعلم بأن النصر يبدأ من انتصار الإنسان في داخل نفسه، فإذا كنا مؤمنين بنصر الله تعالى فهو آت:" ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين"(5). وإذا كنا واثقين بأننا نمهد لظهور الإمام المهدي(عج)(6) ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً، فإن المستقبل واعد، وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
الهوامش
(1) منذ تأسيس حزب الله عام 1982 إلى سقوط العماد عون عام 1990 كان الانقسام قائماً بين منطقتين شرقية وغربية، وبرزت المعارك الداخلية كعنوان رئيس في هذه المرحلة، كما توجهت الأنظار إلى ما يحدث في الجنوب والبقاع الغربي من عمليات لحزب الله ضد الاحتلال الإسرائيلي.
(2) منها فتنة أمل- حزب الله ، عدوان تموز 1993، وعدوان نيسان 1996، الانتصار في أيار 2000.
(3) سورة الحجر الآية 9
(4) سورة محمد الآية 7
(5) سورة القصص الآية 5
(6) أجمعت الرسالات السماوية على وجود المخلص في آخر الزمان، وهو الإمام المهدي(عج) عند المسلمين، لكنَّ السنة يقولون بولادته في آخر الزمان، أما الشيعة فيعتبرونه موجوداً على قيد الحياة، لكنه غائب عن أنظار الناس، وهو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت(عم)، محمد بن الحسن الذي يصل نسبه إلى الإمام الحسين(ع)، والذي ولد سنة 255 للهجرة، وسيظهر في الوقت المناسب ليحكم بالعدل.