استمرت الأزمة السياسية من دون حل، وتراكمت التعقيدات السياسية التي بدأت مع القرار 1559 أي منذ ثلاث سنوات، ولم يتم اكتشاف أي من مرتكبي جرائم الاغتيال التي حصلت في لبنان، ومرَّ على خلو سدة رئاسة الجمهورية حوالى ستة أشهر من دون أفق، وفشلت كل مبادرات الحل: العربية، والسعودية الإيرانية، والفرنسية، واستحوذت حكومة السنيورة "غير الدستورية" على صلاحيات رئيس الجمهورية, وهي تتخذ القرارات من دون حسيب أو رقيب. ثم حصل تطورٌ فاجأ الحزب، ولم يكن يتوقعه من حكومة لبنانية غير دستورية وفي وضع مأزوم، حيث اجتمعت هذه الحكومة مساء 5 أيار 2008، وبقيت منعقدة لأكثر من عشر ساعات إلى الساعة الرابعة والنصف من فجر اليوم التالي، لتتخذ قراراً خطيراً وحربياً بنظر حزب الله, وهو ملاحقة شبكة اتصالات المقاومة السلكية والمعاقبة عليها، حيث جاء في القرار:
"اعتبار شبكة الاتصالات التي أقامها حزب الله على امتداد الأراضي اللبنانية غير شرعية وغير قانونية وتشكل اعتداء على سيادة الدولة وعلى المال العام.
إطلاق الملاحقات الجزائية بحق كل من يثبت ضلوعه في العملية أفراداً كانوا أو أحزاباً أو هيئات أو شركات.
رفض الإدعاء بأن حماية حزب الله تستوجب إقامة مثل هذه الشبكة أو اعتبارها سلاحاً مكملاً لسلاح الحزب، وكذلك رفض منطق ربطها بالتشويش الإسرائيلي أو السوري أو الأممي الذي أدانته وتدينه الحكومة وتعمل في كل مرة على إزالته.
تزويد الجامعة العربية والمنظمات الدولية بتفاصيل هذا الاعتداء الجديد على سيادة القانون في لبنان، وفضح الدور التي قامت به وتقوم به هيئات إيرانية في هذا الحقل.
تكليف الإدارات المختصة والقوى الأمنية متابعة ومعالجة الوضع الشاذ القائم باعتبار أن ملكية هذه الشبكات تعود قانوناً للدولة اللبنانية التي لها الحق في إزالتها"(21).
رفض الحزب القرار، ودعا الحكومة للتراجع عنه، وأعلن موقفه الصريح من خلال أمينه العام السيد حسن نصر الله في المؤتمر الصحفي(22) الذي عقده بتاريخ 8/5/2008، جاء فيه:
" ثالثاً: هذا القرار هدفه تجريد أهم عنصر يحمي قيادة المقاومة وكوادرها وبنيتها التحتية، ويهدف إلى كشفها كمقدمةٍ للاغتيال والقتل وتدمير بنيتها التحتية، وبالتالي هم شركاء بالقتل، وهم شركاء في الاغتيال، ولو من باب تأمين المقدمات وفتح الطريق.
رابعاً: هذا القرار هدفه الإيقاع بين الجيش الوطني اللبناني والقوى الأمنية اللبنانية والمقاومة".
وجاء في المؤتمر أيضاً:
"ولكن بعد القرارات المظلمة للحكومة السوداء، نحن نعتبر أنَّ هناك حرباً بدأت، ومن واجبنا أن ندافع عن سلاحنا وعن مقاومتنا، وقد أعذر من أنذر...الموضوع بالنسبة إلينا تجاوز كل الخطوط الحمر، لا تساهل مع أحد، كائناً من كان، ونحن نعرف أيضاً ومعلوماتنا تؤكد أنَّ موضوع السلكي هو خطوة أولى تتبعها خطوات لاحقة".
تداعت الأحداث بصورة سريعة جداً، حيث تحركت مجموعات مسلَّحة في العاصمة بيروت من ميليشيا تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي وذلك ابتداء من 7/5/2008 لمنع تظاهرة مطلبية للاتحاد العمالي العام بقوة السلاح، ثم تحركت هذه المجموعات في اليوم التالي للسيطرة على بعض شوارع العاصمة، وبدأت بإطلاق النار باتجاه مكاتب وشباب المعارضة، فإذا ما تمَّ ربط هذا التحرك مع قرار الحكومة بملاحقة شبكة الاتصالات، يمكن الاستنتاج بأن المطلوب:
1- دفعُ الجيش والقوى الأمنية للتدَّخل إلى جانب الموالاة، وبهذا يحصل الاشتباك بين المقاومة وأنصارها مع الجيش والقوى الأمنية.
2- إرباك المقاومة بفتنة داخلية مسلَّحة, تطرح سلاح حزب الله كمشكلة في مقابل سلاح المليشيات الأخرى, بدل أن يبقى سلاحاً لمقاومة إسرائيل.
اعتبر حزب الله بأنَّ الانجرار إلى النتيجتين أعلاه هو الخطوة التالية لقرار الحكومة، والتي ستؤدي إلى خطوات أخرى ضد المقاومة، فاتخذ مع المعارضة قراراً ضرورياً في عمل دفاعي محدود وسريع يلغي التقاتل، فواجه المسلحين الذين انتشروا في الشوارع وفي مكاتب مختلفة من أحياء العاصمة، وهم الذين أُحضروا بأكثريتهم الساحقة من منطقتي الشمال والبقاع, فاستسلم بعضهم وهرب البعض الآخر, وهذا ما تمَّ خلال ليلة واحدة في 8/5/2008، ثم سرعان ما سلَّم الحزب مكاتب الميليشيات المسلحة إلى الجيش اللبناني، وانسحب المسلحون من الشوارع، وأُلغيت كل المظاهر المسلحة فيها، فاستلم الجيش اللبناني أمن العاصمة بالكامل، حيث عاد الهدوء إليها. وفي 11/5/2008 بدأت الأحداث في جبل لبنان مع الحزب التقدمي الاشتراكي الذي قتل عنصرين من حزب الله، لكنَّ اتفاقاً حصل بعد ساعات أنهى هذه الأحداث، فاستلم الجيش اللبناني الأمن في الجبل وبعض مكاتب ومخازن أسلحة الحزب التقدمي الاشتراكي. صاحَبَ ما حصل في بيروت والجبل أحداثاً مختلفة ومتفرقة بادر إليها أنصار تيار المستقبل من طرف واحد في الشمال والبقاع والطريق الدولي إلى الجنوب اللبناني، فقطعوا بعض الطرقات الدولية، وحصلت مجزرة في بلدة حلبا في عكار شمال لبنان طالت أعضاء في الحزب السوري القومي الاجتماعي المعارض.
اعتبر حزب الله ما قام به في بيروت والجبل دفاعاً عن المقاومة المستهدفة بقرار الحكومة وحركة الميليشيات المسلحة لفريق السلطة على الأرض، وأنجز العمل بمقدار ما يستلزمه الدفاع، لذا لم يتجاوز مناطق الاعتداء عليه، ولم يبق سلاحه في الشارع بعد تجاوز المشكلة، ولم يفكر بأي سيطرة ميدانية على أحياء أو مناطق، بل سلَّم الأمر إلى الجيش اللبناني مباشرة. برز هذا الهدف الدفاعي المحدود بوضوح في الحل الذي نتج لاحقاً عن اتفاق الدوحة، فما طالبت به المعارضة في الدوحة هو ما كانت تطالب به منذ سنة ونصف من دون أي تعديل، ومن دون ترتيب أي أثر على نتائج الاحداث التي سببها قرار الحكومة بشأن "شبكة الاتصالات".
إنَّ الرغبة التي توفرت لدى الجميع بعدم التورط في فتنة داخلية، ووصول الأزمة إلى مأزق حقيقي وخطير على المستويين الأمني والسياسي، واصرار المعارضة على الاستمرار بالعصيان المدني الذي أعلنته في 8/5/2008 للضغط من أجل الغاء قرار الحكومة, سرَّع الاستجابة لوفد الجامعة العربية برئاسة رئيس وزراء دولة قطر الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني بالاتفاق على عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الأحداث الأخيرة التي سببها قرار مجلس الوزراء في 5/5/2008، وذلك بعد أن ألغت الحكومة قراريها بشأن شبكة اتصالات المقاومة وتنحية رئيس جهاز أمن المطار العميد وفيق شقير عن عمله . وتقرر عقد مؤتمر للحوار في الدوحة لأعضاء مؤتمر الحوار اللبناني، وقد أعلن رئيس وفد الجامعة العربية هذا الاتفاق(23), في أوتيل الفينيسيا في بيروت, بحضور ممثلين عن المعارضة والموالاة.