تهدف الرسالات السماوية كمنظومة متكاملة ومترابطة، وعلى رأسها الإسلام، إلى إقامة الدين على الأرض، في حياة الناس الفردية وعلى مستوى جماعتهم، ودعت المؤمنين إلى الالتزام بالدين وعدم التفرقة فيما بينهم، وإن كان المشركون في المقلب الآخر لا يؤمنون به، ويرفضون منهجه، قال تعالى: "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ"(1). وقد أكَّد أمير المؤمنين علي(ع) على وحدة الدين بقوله: "ألا وإن شرائع الدين واحدة، وسبُلُه قاصدة، فمن أخذ بها لحق وغنم، ومن وقف عنها ضلَّ وندم"(2). وما يثبت معيار وحدة الدين وحدة الأهداف التي تسعى إليها كل الرسالات السماوية، فعن أمير المؤمنين علي(ع): "غاية الدين: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود"(3)، وقال الإمام زين العابدين(ع) لما سُئل عن جميع شرائع الدين قال: "قول الحق، والحكم بالعدل، والوفاء بالعهد"(4).
وقد مرَّت الرسالات السماوية بمراحل عدة في التاريخ، وأنجزت كمالها وتمامها فشملتها رسالة الإسلام خاتمة الرسالات على يد خاتم الأنبياء محمد(ص)، وقد أخبرنا الله تعالى عن رضاه بالإسلام ديناً كاملاً تاماً، قال تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً "(5)، وعدم رضاه عن غيره، "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ"(6)، فهو الخالق الذي اختار الأنفع للناس في دنياهم وآخرتهم، وهو ما أرسله إليهم عبر أنبيائه، فذكَّرهم بأنهم خاسرون عندما يعودون إليه للحساب في يوم القيامة إذا لم يؤمنوا بالإسلام ويعملوا وفق منهجه.
هذه الدعوة إلى الإسلام منسجمهٌ مع متطلبات الفطرة الإنسانية التي خلقنا الله تعالى عليها، "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ"(7)، ولذا تجد الإنسان يميل بسرعة إلى الدين عندما يتعرف عليه، وإنما يبتعد عنه الجاهلون به، أو المعاندون الذين لا يرغبون معرفة الحقيقة. ولأنَّه دين الفطرة فلا حرج فيه ولا صعوبات، ففيه الحلول لمشاكل الإنسان، وإذا ما تطَّلب الإيمان جهاداً ومعاناة فلأنَّ هوى الإنسان ورغباته تستسهل الملذات المحرَّمة، ولأنَّ الأجواء المنحرفة المحيطة به تؤثِّر عليه وتعيق التزامه بالدين والاستقامة، فيكون جهاد النفس طريقاً لامتلاك قوة مواجهة التحديات والمغريات بهدف الالتزام بتشريعات الدين، قال تعالى: "وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ"(8).
إنَّ فهم حقيقة الدين يتطلب متابعة خطوات الالتزام به برفقٍ وتمهّل، قال رسول الله(ص): "إنَّ هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تُكرهوا عبادة الله إلى عباد الله"(9). فتشريعات الدين تجيب عن كل الأسئلة، وتوضِّح كل معالم الطريق، وتعطي الحلول لكل المشاكل المتوقعة في حياة الإنسان، قال تعالى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ"(10).
أرسل الله تعالى أنبياءه ورسله لهداية البشر بتوجيههم إلى صلاحهم وسعادتهم، ولكنَّه لم يقهر عباده على الإيمان، ولم يجبرهم على طاعته، بل ترك لهم كامل الحرية ليؤمنوا أو يكفروا، "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"(11). لكنَّه دعاهم إلى عبادته، ورغَّبهم بها، "إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ"(12)، وأعلَمهُم بأنَّه سينشر الدين على كل المعمورة من خلال المسار الإنساني الدنيوي، وبحسب القوانين التي وضعها على الأرض، قال تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ"(13). وأمر المؤمنين بأن لا يستخدموا أية قوة لإلزام الكافرين بدينهم، أو لمقاتلتهم بسبب كفرهم، بل أن يبروهم ويقسطوا إليهم إذا ما تركوهم لإيمانهم ولم يعتدوا عليهم ولم يخرجوهم من أرضهم، أمَّا إذا اعتدوا على المؤمنين وأرادوا نهيهم عن دينهم، وحاسبوهم على التزامهم بطاعة الله، وأخرجوهم من أرضهم، فعندها يجب عليهم القتال والدفاع عن أنفسهم وأرضهم، ورفض تسلط الكافرين عليهم إذا ما أرادوا قهرهم بسبب دينهم وعبادتهم وظلموهم في أرضهم، قال تعالى: "لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"(14).
إنَّنا أمام صورة رائعة لحرية الاختيار الإنساني في الحياة، فالله الخالق القدير العليم يعرض دينه، ويقدمه كاملاً للبشرية، ولا يُلزم أحداً به، ويأمر عباده بالطاعة عن قناعة وإيمان، على أن لا يُلزموا أحداً بعبادة الله، وأن يكتفوا بالدفاع عن دينهم ووجودهم في مواجهة الظلم والعدوان، واعداً المؤمنين بالنصر في الدنيا والثواب في الآخرة، ومحذراً الكافرين من الخسران المبين.