نسيانُ المنعم من أخطر ما يعيشه الإنسان في حياته، خاصةً عندما يَنسبُ إلى نفسه كل الخيرات وينسى ربَّه. يدَّعي البعض القوة كنتيجة للرياضة والتدريب، وأنَّه حصَّل المال بسبب ذكائه، ووصل إلى المواقع العليا في السلطة لأهليته، وحافظ على صحته بسبب اتقانه لبرنامجه اليومي، ويفاخر الآخرين بما يتمتع به من قدراتٍ ذاتية، ينمِّيها دائماً، وتتولَّد منها قدرات إضافية! وبهذه الإدِّعاءات ينسى ربَّه، "الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى"(135)، فلولا ما منحه الله تعالى من قوة، وسخَّر له الأرض وما فيها وما عليها، ووهبه الحياة والصحة، وأعطاه مقومات العقل والارتقاء، لما كان له من شيء في هذه الدنيا، بل ربما كان حجراً صلداً لا فاعلية له.
من اعتقد أنَّه تعلَّم وحده، واستغنى بنفسه، وشفي من مرضه، ولم يلحظ مَنْ "عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ "(136)، ولم يلتفت إلى مصدر كلِّ نعمة وعطاء وهو الله تعالى، كان جاحداً. وقد بيَّن إبراهيم(ع) لأبيه ما لربه من نِعَمٍ أنعمها عليه، ولذا أنكر ما يعبد قومه من أصنام لا تنطق ولا تتحرك ولا تهبُ شيئاً، وآمن بالله الخالق الوهاب، فقال كما ورد في القرآن الكريم: "قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ"(137).
كيف يحصل الإنسان على نباتات الأرض ليأكلها؟ ألم يخلق الله الأرض والحب والماء والشمس لتتفاعل مع بعضها، ثم يأتي المخلوق البشري ليحصدها بقوةٍ منحه الله تعالى إياها، ويأكلها لتأخذ مسارها في جهازه الهضمي الذي نظَّم الله تعالى أداءه، ليتوزع الغذاء عبر الجسد، ثم تخرج النفايات عبر المخرج، في عمليةٍ معقَّدة متقنة تعطي الإنسان حيوية البقاء إلى حين الأَجَلْ؟!
كيف يتجبَّر الإنسان ويطغى والملكُ كله لله تعالى؟ "الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً"(138). وكيف لا يعبدُ الإنسان ربَّه الذي أعطاه كل شيء؟ لو أن طبيباً عالج أعمى، وأمَّله بالشفاء، وطلب منه أن يأتيه يومياً إلى عيادته خمس مرات لسنواتٍ عدَّة من أجل معالجته، ولاحظ المريض تقدُّماً تدريجياً، ألا يقبل ذلك؟ ألا يقبل بتحمل النفقات والأعباء مهما بلغت ليستعيد بصره؟ ألا يرضى بتحمل أي عبء من أجل أن يرى مجدداً؟ فما بالك بمن أعطاه بصراً من دون سؤال، وفي أحسن صورة، وفي أحسن تقويم، ألا يستحق الشكر والثناء بالصلاة والدعاء تعبيراً عن الامتنان للخالق العظيم المدبِّر الفرد الصمد!
بالشكر تدوم النعم وتزداد، وبالكفر تزول النعم وتحل محلها المصائب والآلام، قال تعالى: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ"(139). فالله تعالى يعطي لبني آدم، فإن أحسنوا حسَّن معيشتهم، وإن أساؤوا حرمهم منها تدريجياً، وحوَّلها إلى غيرهم، فعن رسول الله(ص): "إن لله عباداً اختصَّهم بالنعم، يُقرَّها فيهم ما بذلوها للناس، فإذا منعوها حوَّلها منهم إلى غيرهم"(140)، وقال أمير المؤمنين علي(ع): "يا بن آدم، إذا رأيت ربَّك سبحانه وتعالى يُتابعُ عليك نعمه وأنت تعصيه، فاحذره"(141).
فالمطلوب أن نبذل النعمة فيما أحلَّه الله تعالى، بالصرف على الزوج والأولاد، وفي متع الحياة المحلَّلة، وفي كل ما يحتاجه الإنسان، وباستخدام الحواس الخمس والقدرات العقلية والجسدية في المعروف والخير، وإلاَّ تعرضت للزوال والفقدان. وأمَّا ما نراه من نعمة مستمرة عند بعض من كفر بها، فالله تعالى يمدهم، ويؤخر سلب النعمة عنهم لأسباب أخرى، إذ ربما كان استمرار النعمة لأعمال خير قام بها الإنسان، ويريد الله تعالى أن يكافئه عليها في الدنيا، كي لا يكون له على الله شيء في الآخرة، وربما كان استمرارها لمزيد من الابتلاء والاختبار كي لا تكون لديه أي مكرمة أو حجة في يوم القيامة، فالله أعلم بما يفعله وما يريده، لكنَّ المؤكد بأنَّ النعمة لا تستمر مع الكفر بالمنعم، ومع الفساد والانحراف، قال تعالى: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً"(142).
إنَّ الشكر المطلوب هو الاعتراف بمصدر النِعَم، فعن الإمام الصادق(ع): "قال الله عزَّ وجل لموسى بن عمران(ع): يا موسى، اشكرني حقَّ شكري.
قال: يا ربِّ، وكيف أشكرك حقَّ شكرك، وليس من شكر أشكرك إلاَّ وأنت أنعمت به عليَّ؟
فقال الله تبارك وتعالى: يا موسى، الآن شكرتني حين علمتَ أنَّ ذلك مني"(143).
فإذا ما اعترف الإنسان بمصدر النِعَم وهو الله تعالى، تأثرت حياته بهذا الإيمان، والفرق كبير بين من يعترف بالمنعم فيرتِّب على الاعتراف مسار حياته، في أن يلحظ ربَّه في كل شيء، فيطيعه عندما يفكر، ويعمل، ويتكلم، ويبذل ماله، وينظم حياته، ويبني علاقاته مع الآخرين، وبين أن ينسى المنعم أو ينكره، فينسِب القدرة إلى نفسه، وبذلك يتكبَّر، ويطغى، ويغرق في ملذات جسده، ويختار مساره بما ينسجم مع غرائزه وشهواته، بعيداً عن الإيمان بالله تعالى.
الإيمان يستلزم الطاعة لله تعالى، والالتزام بأوامره ونواهيه، ومعيار نجاح الإنسان في امتحان الدنيا نجاحه في طاعة ربِّه، ولا يكون النجاح بتحقيق ما نحب وما نرغب، إلاَّ إذا كان ما نحبه ونرغبه منسجماً مع الطاعة ووفقنا الله تعالى إليه.
الانتصار في المعركة محبوب ومرغوب، ولكن قد نخوض معركة مشرِّفة ومُحِقَّة ضد الأعداء، فننهزم فيها، لكن ليس لنا أن نيأس أو أن نرتدَّ، فنجاحنا أنَّنا في الخط المستقيم، سواء انتصرنا أم انهزمنا.
وتحصيل الثروة والسلطة والموقع أمورٌ محبوبة ومرغوبة، ولكنَّها لا تُعبِّرُ عن نجاح من حصل عليها، ولا فشل من حُرم منها في الدنيا، إنما المقياس هو الطاعة لله تعالى. فإذا حصل الإنسان على الثروة والسلطة والموقع بطاعة الله فقد نجح في الامتحان، وإذا فشل في ذلك وهو في طاعة الله فقد نجح في الامتحان أيضاً، لأنَّ امتحانه الدنيوي في خياره بين الطاعة والمعصية، فإذا اختار الطاعة فاز مهما كانت نتائج الدنيا، سواء أعجبته أم لم تعجبه، أرادها أم لم يُرِدها، فهو مع الطاعة يرضى بما قسم الله له، بعد أن يؤدي ما عليه، ويسعى سعيه ليجمع بين طاعته ورغبته بالنتائج المرهونة بتوفيق الله تعالى وتقديره.
انتصر الإمام الحسين(ع) في كربلاء رغم استشهاده مع أهل بيته وأصحابه، لأنَّه قاتل من منطلق الإيمان والطاعة، ولم يستسلم للحاكم الظالم ولم يبايعه، ورسم للأمة طريق صلاحها، وانهزم يزيد رغم انتصار جيشه العسكري، لأنَّ أهدافه المنحرفة انفضحت، وانكسر سلطانه مع الزمن، وحمل معه سلبيات أعماله. كان الحسين(ع) يقول: "إني لا أرى الموت إلاَّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاَّ برما"(144)، وهذا ما تحقق له بالطاعة، فنجح في امتحان الدنيا، بينما فشل يزيد ومن معه في هذا الامتحان. علينا أن ننظر دائماً إلى الهدف كمعيار لتقييم النتائج، وهذا لا يعني أن الرغبة البشرية لا تميل إلى النصر، لكن يجب أن نتوقع عدم تحققه، فهل نتخلى عن هدفنا لعنوان النصر ولو كان في خانة الأعداء! أم نتقبَّل الشهادة حفاظاً على الطاعة؟ لعلَّنا لا ندرك مصالحنا في كثير من الأحيان، والعلم عند الله تعالى، فلنختر الطاعة، ولنسلِّم أمرنا لله تعالى، ولنُقبل على الطاعة أحببناها أو كرهناها، قال تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ"(145).