سبيلُ الله مسارٌ لتطبيق تعاليم الدين في حياة البشر، وبحسب الفهم الإسلامي، لا يقتصر الدين على علاقة المخلوق بربِّه من خلال العبادات والدعاء، وإنما يشمل علاقة الإنسان بنفسه لتقويمها وتهذيبها ، لتمتنع عن المحرمات، وتجافي هوى النفس، وتسمو في أدائها وسلوكها وأخلاقيتها، بما يرقى بالبعد الإنساني نحو الكمال، ويشمل أيضاً علاقة الإنسان بمجتمعه في تنظيم الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمعاملات المختلفة، ومسائل الحرب والسلم، والحكم بما أنزل الله تعالى في قوانين الدولة والمجتمع.
سبيلُ الله رؤيةٌ كاملة لكل نواحي الحياة، وقواعد محدَّدة ترسم طريقاً مستقيماً يوصل إلى مرضاة الله تعالى، وينسجم مع استقرار وسعادة ونجاح الإنسان في الحياة. عن ابن مسعود: "خطَّ رسول الله (ص) خطاً بيده، ثم قال(ص): هذا سبيلُ الله مستقيماً. ثم خطَّ خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيلٌ إلاَّ عليه شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ:" وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ"(13).
فالسبلُ الأخرى تبتعد نسبياً عن سبيل الله تعالى، قد يكون بُعدها محدوداً، وقد يكون كبيراً جداً، لكنَّه في كل الأحوال لن يكون سبيلاً صافياً لله تعالى، بل يمكن القول بأنَّه سبيلٌ أقرب أو أبعد من سبيل الله تعالى. وحيث أخرجه تمايزه عن سبيل الله، فهو سبيلٌ لغير الله تعالى، وبما أنَّ السبل الأخرى تتفاوت في نظرتها ورؤيتها، فقد أشار الحديث إلى وجود شيطان لكل سبيل يدعو إليه، وهذا تعبيرٌ عن الاختلاف الموجود بين السبل الأخرى أيضاً.
جاء رسول الله(ص) ليحسم الجدل، فسبيلُ الله تعالى واحدة، قال تعالى:"قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ"(14)، حيث أكدَّ كما في نهاية الآية على أنه ليس من المشركين، فهو لا يُضيفُ إلى سبيل الله ما ليس فيه، ولا يُنقِصُ منه شيئاً، بل يختاره كما جاء من عند الله تعالى، وبذلك لا يشرك مع الله أحداً في المنهج والسلوك، في العقيدة والشريعة.
الرسول(ص) بابُ المعرفة والوصول إلى سبيل الله تعالى، وسلوك طريق الطاعة، والعمل وفق تعاليم الإسلام، قال تعالى: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" (100)، وهو القدوة الذي يُرشد بقوله وفعله وتقريره إلى الاستقامة والصلاح، "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً"(101). وقد أخبرنا عن دور وأهمية العترة الطاهرة من أهل البيت المعصومين(عم)، فهم والقرآن صنوان متلازمان، فالقرآن يُبيِّن لنا التعاليم الإلهية، والرسول وأهل بيته الأطهار يطبقونها، ويقوموا الاعوجاج الناشئ عن العمل بها، ويفسروا ويأولوا ما خفي معناه، ويوضحوا تفاصيلها التي يحتاجها المؤمنون، فهم السبيل إلى تمام النعمة بالهداية وتطبيق دين الله تعالى.
عن أبي سعيد الخدري أن النبي (ص) قال: "إني أوشك أن أدعي فأجيب, وإني تاركٌ فيكم الثقلين, كتاب الله عز وجل وعترتي، كتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنَّ اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يَرِدا عليَّ الحوض، فانظروا بماذا تخلفوني فيهما" (102).
أهلُ البيت هم العترةُ الطاهرة الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس، وعصمهم من الذنب والخطأ والسهو والنسيان، وهم الصادقون في كل شيء، والمطهَّرون من عند الله تعالى، وقد حدثنا الله تعالى عن طليعتهم، الذين ضمَّهم رسول الله(ص) معه تحت الكساء، فهم أهل الكساء الخمسة المعصومين: النبي(ص)، وعلي(ع)، وفاطمة(عها)، والحسن(ع)، والحسين(ع)، الذين قال الله تعالى عنهم: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً"(103).
وتتالت الروايات عن النبي(ص) والأئمة(عم), تُحدثنا عن أسماء أهل البيت المعصومين الذين تسلموا الإمامة بعد النبي(ص) واحداً بعد الآخر، نذكر في هذا المقام رواية واحدة عن سلمان الفارسي(رض) قال:" دخلت على النبي(ص) فإذا بالحسين(ع) على فخذه، وهو يقبِّل عينيه ويلثم فاه ويقول: "أنت سيد ابن سيد، ابن إمام ، أخو إمام، أبو أئمة، أنت حجة الله وابن حجته، وأبو حجج تسعة، من صلبك تاسعهم قائمهم"(104). وقد نص كل إمام على الذي يليه من بعده، ليتسلم الإمامة، ويكون ولياً للمسلمين في زمانه:
1- أولهم علي بن أبي طالب(ع).
2- الحسن بن علي بن أبي طالب(ع).
3- الحسين بن علي بن أبي طالب(ع).
4- علي بن الحسين(ع) (زين العابدين).
5- محمد بن علي(ع) (الباقر).
6- جعفر بن محمد(ع) (الصادق).
7- موسى بن جعفر(ع) (الكاظم).
8- علي بن موسى(ع) (الرضا).
9- محمد بن علي(ع) (الجواد).
10- علي بن محمد(ع) (الهادي).
11- الحسن بن علي(ع) (العسكري).
12- محمد بن الحسن(ع) (المهدي (عج)).
أول الأئمة(عم) علي(ع) ، ثم ولداه الحسن فالحسين، ثم الأئمة التسعة من ولد الإمام الحسين(ع) يتسلم كل إمام عن أبيه، إلى خاتم الأئمة الثاني عشر الإمام المهدي(عج)، الذي غاب عن الأنظار في سنة 329 هـ ، ثم يظهر في يوم من الأيام في آخر الزمان ليكون الولي القائد للأمة، وبذلك تكون الساحة قد فرغت من قيادتها المعصومة الظاهرة منذ سنة 329هـ. قال رسول الله(ص): "المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقاً وخُلقاً، تكون له غيبةٌ وحيرة، تضلُّ فيها الأمم، ثمَّ يُقبل كالشهاب الثاقب، يملؤها عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً"(105).
لأهل البيت دورٌ أساس في تعليم وحماية وقيادة المشروع الإسلامي، فهم أحد الثقلين الذي له قيمةٌ كبيرة، إلى جانب الثِقل الآخر وهو القرآن الكريم، وهذان الثقلان لن يفترقا في الدنيا أبداً، ما يجعل دور أهل البيت(عم) دوراً مركزياً بعد النبي(ص), ولا إمكانية للمحافظة على أصالة واستقامة المشروع الإسلامي من دون الاقتداء بهم. وقد حصلت في التاريخ بعد رسول الله(ص) أحداثٌ كثيرة، كاد بعضها أن يودي بصفاء وسلامة التعاليم الإسلامية، وأن يشوِّه معانيها ويحرفها عن أهدافها، كما نشأت فرقٌ وجماعات ابتعدت كثيراً عن الإسلام رغم شعاراتها الإسلامي، فكان دور أهل البيت(عم) كاشفاً للحقائق، ومُسقِطاً للبدع، ومحدداً لمعالم الطريق، وحافظاً لأصالة الإسلام.
إنَّ الثروة الحديثية التي حصلنا عليها من روايات أهل البيت(عم) مصدرُ غنىً كبير لاكتمال البنيان الإسلامي العقيدي والتشريعي، كما أن السلوك العملي للأئمة الاطهار في مواجهة فساد الحكام وتحديهم، وفي محاورة الزنادقة وأصحاب البدع والمنحرفين، والتضحيات الجسام التي قدَّموها وأدَّت بهم إلى السجن ودس السم والشهادة، كل ذلك حفظ لنا الإسلام المحمدي الأصيل. من هنا نفهم معنى: أنهما لن يفترقا، وهذا شكلٌ من أشكال حفظ الذكر، فالقرآن الكريم محفوظ من التحريف إلى يوم القيامة، قال تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"(106)، وعترة أهل البيت(عم) طريق الحفظ العملي لتعاليم القرآن الكريم.
يركز الإسلام على علاقة الحب والمودة بين المؤمن وخالقه، وبين المؤمن والنبي(ص) وأهل البيت(عم)، بحيث لا تقتصر الطاعة في سبيل الله تعالى على الالتزام الجامد بتطبيق أوامر الأعلى إلى الأدنى، بل تكون مجبولةً بالحب لتختفي الآمرية، ويحلُّ محلَّها التفاعلُ والعشقُ والذوبان في سموِّ الإنسان بروحه، لينسابَ سلوكُه من دون تكلُّفٍ أو طمعٍ أو خوف، ما يوصله إلى أرقى أشكال العبادة التي تعطي أفضل الآثار في حياة الإنسان.
هذا الحب ليس من جهة واحدة، بل هو حبٌ متبادلٌ بين الخالق والمخلوق، وهنا تكمن أهميته، يصف تعالى اختياره للمؤمنين الصادقين الأوفياء بأنَّه مبنيٌ على الالتزام بالإسلام في إطار الحب المتبادل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"(107)، ويعبِّر الإمام الحسين(ع) في دعاء عرفة عن أهمية هذا الحب بحديثه عن الصفقة الخاسرة من دونه: "عميت عين لا تراك عليها رقيبا، وخسرت صفقةُ عبدٍ لم تجعل له من حبك نصيبا" (108).
يؤدي حبُّ الله تعالى إلى تنفيذ أوامره بقناعة وأُنْس، ولا يكفي في الحب أن يكون عاطفةٌ متأججة من دون آثار عملية، فالدليل على حب الله تعالى هو إتِّباع أوامر الرسول(ص): "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ"(109).
ويجب أن يمتدَّ الحبُّ إلى أهل البيت(عم)، قال رسول الله(ص): "لا يؤمن أحدُكُم حتى أكون أحب إليه من نفسه, وأهلي أحب إليه من أهله, وعترتي أحب إليه من عترته, وذريتي أحب إليه من ذريته" (110). فالحبُّ دعامةُ الإيمان، مشفوعاً بالعمل بتوجيهاتهم ومواقفهم، وعندما طلب منَّا الله تعالى متحدثاً عن النبي(ص) بالمودة في القربى، إنما عنى هذا المعنى من الحب الذي لا يقتصر على المشاعر، روي عن ابن عباس: "قال رسول الله (ص): لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى: أن تحفظوني في أهل بيتي وتودوهم بي"(111).
إذاً، السلسلة مترابطة ومتناغمة، فالطاعة لله ولرسوله وللأئمة الأطهار، والحب لله ولرسوله وللأئمة الأطهار، والانقياد والولاية لله ولرسوله وللأئمة الأطهار، قال تعالى: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ"(112).
الهوامش:
1- الريشهري، ميزان الحكمة، ج4، ص: 2817.
2- سورة يوسف، الآية: 108.
100- سورة الحشر، من الآية: 7.
101- سورة الأحزاب، الآية: 21.
102- وردت الرواية في كتب السنة والشيعة باختلافٍ طفيف: الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص:235./ النسائي، السنن الكبرى، ج5، ص: 45./ الطبراني، المعجم الأوسط، ج3، ص: 374./ المتقي الهندي، كنز العمال، ج1، ص: 172.
103-سورة الأحزاب، من الآية: 33.
104- الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص: 262.
105- المصدر نفسه، ص: 286.
106- سورة الحجر، الآية: 9.
107- سورة المائدة، الآية: 54.
108- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 95، ص: 226.
109- سورة آل عمران، الآية: 31.
110- المتقي الهندي، كنز العمال، ج1، ص: 41.
111- السيوطي، الدر المنثور، ج6، ص: 7.
112- سورة المائدة، الآية: 55.