سبيل الله

طبيعةُ النَّفس.

طبيعةُ النَّفس.

تحمل النَّفس الإنسانية - كما فطرها الله تعالى - قابلتين: إيجابية تؤدي إلى الاستقامة والصلاح والتقوى، وسلبية تؤدي إلى الانحراف والفساد والضلال، وذلك بحسب المقياس الديني للإيجاب والسلب، أي أنَّ المولود صفحةٌ بيضاء، يرسم الأهل والمدرسة والمجتمع مضمونها، بحسب تعليمه وتربيته، ثم تتشكل لديه قناعات يستطيع معها تحديد خياراته فترة الشباب، قال تعالى: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا"(92). إذاً لا يمكن الحديث عن إنسان مؤمن أو مطيع لله تعالى بالفطرة، وآخر كافر عاصٍ لله تعالى بالفطرة، فالطاعة أو المعصية نتيجةً لتوجيهِ قابلية واختيار صاحبها لأحدهما.
يحدِّثنا القرآن الكريم عن أنواع ثلاثة للنفس: النفس الأمَّارة بالسوء، والنفس اللوَّامة، والنفس المطمئنة، والحقيقة أنَّه توصيف لما تكون عليه النفس بسبب خياراتها، وليس بسبب خَلْقِها.
أمَّا النفس الأمارة بالسوء، فهي التي تدفع صاحبها نحو السوء، بحيث تكون الأرجحية لديه للأمر بالسوء، أو الميل نحو السوء، وهذا ما يحصل بطريقة إرادية غير قهرية، بعدما عوَّد نفسه على الألفة لطريق المعصية، فأصبح ينجذب إليها بسهولة، فلا يمنع نفسه منها، ولا يرفضها، ولا يتحداها، ولم يربِّ نفسه بما يساعده على توجيهها لتتمكَّن من رفض سلوك الحرام والمنكر، قال تعالى: "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ"(93)، فمن شملته رحمة الله تعالى، وتوفَّق لتربية نفسه وترويضها وتزكيتها، منع نفسه من الانجراف نحو السوء، خلافاً لمن لم يتوفَّق لذلك، فتتحول نفسه إلى النفس الأمَّارة بالسوء.
في مناجاة للإمام زين العابدين(ع) يقول: "إلهي أشكو إليك نفساً بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، ... كثيرةُ العلل، طويلة الأمل، إنْ مسَّها الشَّرُ تجزع، وإنْ مسَّها الخير تمنع، ميالةٌ إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو، تُسرع بي إلى الحوبة ، وتسوِّفني بالتوبة"(94). يعلِّمنا الإمام(ع) في هذه المناجاة مكامن الخلل التي تجعل النفس أمارة بالسوء، كالمبادرة إلى الخطيئة، والاندفاع نحو المعصية، والميل إلى اللهو واللعب،... فهو لا يتحدث في الدعاء عن نفسه، إنما يوجهنا لما نطلبه من الله تعالى ليساعدنا على أنفسنا، كي لا تصبح أمَّارة بالسوء.
وأمَّا النفس اللوَّامة التي أقسم الله تعالى بها قائلاً: "وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ"(95)، فقد فسَّرها قول رسول الله(ص) في وصيته لابن مسعود: "يا بن مسعود، أكثِر من الصالحات والبِّر، فإنَّ المحسن والمسيء يندمان، يقول المُحسنُ: يا ليتني ازددتُ من الحسنات، ويقولُ المُسيءُ : قصَّرت، وتصديقُ ذلك قوله تعالى:" وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ "(96). فالنفس اللوَّامة هي التي تلوم صاحبها مؤمناً كان أم كافراً، أمَّا المؤمن فتلومه على ما قصَّر عندما ترى جزيل الثواب، وأمَّا الكافر فتلومه على انحرافه وكفره عندما ترى جحيم العقاب، فاللَّوم نتيجة العمل لا قبله، وعلى الأرجح أن يكون في يوم الحساب فقط، وحتى لو كان في الدنيا كما في رأي بعض المفسِّرين، فهو بعد العمل وليس قبله.
وأمَّا النفس المطمئنَّة، فهي التي ذكرها الله تعالى بقوله: "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي"(97)، حيث يكون الاطمئنان ناشئاً عن الأعمال الصالحة في الدنيا، والرضا الذي تحقَّق لها بسبب الثواب الممنوح من الله تعالى في الآخرة، فالاطمئنان نتيجةً للعمل وليس قبله.
تحصَّل لدينا بأنَّ النَّفس تحمل قابلية الصلاح وقابلية الفساد، والإنسان هو الذي يوجهها على ضوء خياراته، فإذا وسوست له نفسه تأمره بالسوء، وهذا جزء من الميل إلى الفساد والرغبة باتِّباع الهوى، لكنَّه يستطيع تحصين نفسه بالطاعة، عندها ينال رحمة الله تعالى، فلا يتحقَّق الأمر بالسوء، وإذا ما كانت النفس لوَّامة أو مطمئنَّة فهذا من نتائج عمله، إذ لا تحمل النَّفس صفة خاصة عند خَلْقِ الإنسان، فهي مجرَّدة، تحمل خيارات الإنسان وأعماله.

الهوامش:
51- الشيخ الصدوق، الأمالي، ص: 553.
52- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج15، ص: 164.
53- الإمام الخميني(قده)، الأربعون حديثاً، ص: 28.
54- سورة الحج، الآية: 78.
55-الإمام علي(ع)، نهج البلاغة، الوصية: 31، ص: 616.
56- مسند أحمد، ج3، ص: 456.
57- النعمان المغربي، دعائم الإسلام، ج1، ص: 343.
58- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج4، ص: 353.
59- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص: 79.
60- سورة العنكبوت، الآية: 69.
61- سورة التوبة، الآية: 105.
62- سورة آل عمران، الآية: 142.
63- نهج البلاغة، الخطبة 192، ص: 454.
64- سورة الشورى، الآية: 15.
65- سورة المائدة، الآيتان: 55-56.
66- سورة الكهف، الآية: 28.
67- سورة طه، الآية: 16.
68- سورة النازعات، الآيتان: 40-41.
69- الريشهري، ميزان الحكمة، ج1، ص: 34.
70- نهج البلاغة، الخطبة 32، ص: 87.
71- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص: 64.
72-سورة الجاثية، الآية: 23.
73- سورة محمد، الآية: 14.
(A) سورة الأنعام، الآية: 71.
74- سورة هود، الآية: 63.
75-سورة الجمعة، الآية: 2.
76- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص: 24.
77- الريشهري، ميزان الحكمة، ج2، ص: 1136.
78- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص: 555.
79- المصدر نفسه، ص: 89.
80- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص: 222.
81سورة البقرة، الآية: 216.
82- نهج البلاغة، ص: 792.
83- نهج البلاغة، الوصية 56، ص: 697.
84- سورة الأعراف، الآية: 32.
85- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص: 182.
86- المصدر نفسه، ص: 282.
87- المصدر نفسه، ص: 112.
88- الريشهري، ميزان الحكمة، ج2، ص: 1137.
89-الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج5، ص: 119.
90 - نهج البلاغة، ص: 305.
91- نهج البلاغة، الخطبة: 90، ص: 182.
92- سورة الشمس، الآيات: 7-10.
93- سورة يوسف، الآية: 53.
94-الإمام زين العابدين، الصحيفة السجادية، ص: 403.
95- سورة القيامة، الآية:2.
96- الشيخ الطبرسي، مكارم الأخلاق، ص: 454.
97- سورة الفجر، الآيات: 27-30.